رغم أن الموسم الرمضاني يحتفي بالمسلسلات التاريخية، فإن حضور النكهة الصوفية في الدراما الإماراتية بدا مفاجئا خاصة بعد أن عرضت قناة “أبو ظبي” مسلسلين تاريخيين لشخصيات صوفية مثيرة للجدل تتهم عادة بالزندقة في محيط سلفي تقليدي، وأثار عرض المسلسلين انتقادات واسعة واتهامات باستدعاء شخصيات تاريخية قديمة لتصفية حسابات سياسية حديثة.
وكان موسم رمضان من العام الماضي قد شهد عرض “أبو ظبي” لمسلسل “المهلب بن أبي صفرة” الذي أثار سجالا بين العمانيين والإماراتيين، وبادرت السلطنة بعقد ندوة علمية لمناقشة أصول المهلب التي يرجعها المسلسل للإمارات، مستندا لكتاب وزير الثقافة السوري الأسبق رياض آغا الصادر عن هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام.
وبدا الموسم الحالي مثقلا باستدعاء شخصيات تاريخية وتطويعها وإعادة تقديمها بصورة جديدة تخوض بها وسائل الإعلام الإماراتية غمار معارك سياسية حديثة، واختلق مسلسل “مقامات العشق” الذي يحكي عن ابن عربي قصة حب إضافة لما اعتبره حربا على التشدد الديني يقودها شخص لا ذكر له في المصادر التاريخية.
ومع ذلك فقد استبق الموسم العديد من التسريبات والمفاجآت فقد جرى التعاقد مع السيناريست السوري خلدون قتلان لكن جرى فسخ العقد على خلفية ما اعتبره قتلان “أهدافا سياسية وراء تقديم الإمارات لـ”الحلاج”، وبدا أن قناة أبو ظبي قد اكتفت بمسلسل “مقامات العشق” وامتنعت عن عرض مسلسل الحلاج الذي انتجته تفاديا للانتقادات الشديدة، لتعرضه قناة “تن” المصرية تحت مسمى “العاشق.. صراع الجواري”.
دراما التصوف الإماراتي
تدور أحداث “مقامات العشق” في الأندلس وتروي قصة حب تجمع العالم والمتصوف محيي الدين بن عربي مع ست الحسن، كما تروي بمباشرة ما اعتبره المسلسل صراعا بين الإسلام المعتدل والمتسامح وبين تيار التطرف والتكفير، في إسقاط غير تاريخي على الواقع المعاصر بمعاركه السياسية.
وبمباشرة وصراحة تشبه الدعاية الإعلامية أكثر مما تقارب الدراما التاريخية ظهر ابن عربي بصورة بدا فيها واضحا إخضاع التاريخ لضرورات العمل الفني والتوجهات السياسية على حد سواء، فكثير من الأحداث والشخصيات ظهرت على غير حقيقتها التاريخية من أجل اجتذاب الجمهور أو بناء السرد أو خدمة الأجندة السياسية.
فرغم فصاحة اللغة العربية المستخدمة في المسلسل، فقد بدا واضحا التشديد على الدور السلبي لعلماء الدين في المجتمع، وظهر الشيخ حامد المتشدد الذي يتهرب من مناظرة ابن رشد ويدعو عليه بعنف في مجلس تلاميذه، وينسج المؤامرات للتخلص من ابن عربي وفكره.
فباستخدام أداء درامي مباشر وفج يظهر الشيخ حامد في أحد المقاطع وهو يقنع ست الحسن باستخدام مفاتنها الأنثوية للإيقاع بوالد ابن عربي الزاهد تمهيدا لقتله، وفي موضع آخر يظهر العالم ابن العريف الصنهاجي باعتباره عالم سلطان يمنع الناس من معارضة الحاكم مهما فعل رغم أن حقيقته التاريخية أنه كان مستقلا وربما مات مقتولا بإيعاز من بلاط السلطان.
وظهر ابن عربي في “مقامات العشق” باعتباره صوفيا يتلقى العلوم عبر الكشف والفيض دون جهد أو مجاهدة، وهو ما يخالف حقيقته ورحلته العلمية الطويلة، وبدا ابن عربي في المسلسل أستاذا لابن رشد الذي كان وفق الحقائق التاريخية أستاذا لابن عربي وأكبر منه بقرابة الأربعين سنة.
ورغم أن التصوف تم تقديمه بصورة سلبية في “مقامات العشق” باعتباره نقيضا للعقلانية والتنوير والتفلسف، فقد أظهر بصورة إيجابية في مسلسل “صراع الجواري” الذي يروي سيرة الحلاج في صورة رجل صالح ذي كرامات خاصة.
وأغفل المسلسل الدور السياسي للحلاج في محاولة الانقلاب على الخليفة العباسي وصلته بالقرامطة وغنوصيته وكذلك موقفه المعادي للعقل والفلسفة، ولا يفهم القارئ سر الربط بين الحلاج والجواري في المسلسل الذي يتناول حقبة زمنية ثرية بالأحداث التي تتجاوز “صراع الجواري”.
وكان كاتب السيناريو خلدون قتلان قد وصف لصحيفة الأخبار اللبنانية الخلفيات السياسية لتقديم القناة الإماراتية دراما صوفية تاريخية بالقول إنها “تبييض ملفات”، فكما يتم تبييض الأموال غير المشروعة، تُغسل أيضا الأفكار وتنظَّف وتقدم بإطار جديد.
التصوف أم العقلانية؟
ويظهر المسلسلان الإماراتيان التناقض الجذري في السياسات الثقافية الإماراتية التي تدعم تيارين متناقضين فكريا لكنهما يدوران في الفلك السياسي نفسه.
فبينما يقدم مسلسل الحلاج صورة ناصعة البياض للتصوف الروحاني الذي يعلي من شأن الروح في مقابل العقل والتفكير النقدي، يقدم “مقامات العشق” صورة زاهية للعقلانية كما يتمثلها الفيلسوف ابن رشد والعلامة ابن عربي.
ويبدو التناقض نفسه في جناحي المؤسسات الثقافية الإماراتية التي تضم جناحا تنويريا الذي تقوده مؤسسة “مؤمنون بلا حدود” وجناحا آخر يضم شبكة من المؤسسات الدينية الصوفية وأهمها “مجلس حكماء المسلمين” ومؤسسة طابة ومنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة وغيرها من المؤسسات، التي تتبنى رؤية صوفية تقليدية تتناقض ظاهريا مع “الجناح التنويري” لكنها تتفق معه في الموقف من الإسلام السياسي والربيع العربي والعديد من المواقف الإقليمية الأخرى.
وتسعى الإمارات -من خلال شبكة مؤسساتها “التنويرية” والصوفية على حد سواء- إلى مواجهة الإسلام السياسي ثقافيا، وتفكيك الخلفية الثقافية المرتبطة بالإسلام السياسي والربيع العربي على حد سواء.
لكن بخلاف الخطاب الثقافي غير المباشر الرائج في المؤسسات الإماراتية والذي يستهدف مواجهة التيارات الإسلامية وحركات التغيير العربية، بدت المسلسلات الإماراتية مباشرة وفجة رغم أن الدراما في العادة تنأى بنفسها عن المباشرة واللهجة الخطابية الوعظية والرسائل الصريحة التي تفسد العمل الدرامي وتحوله لدعاية موجهة ومباشرة.
وكما لم يتوقف خلط السياسي بالعلمي والبحثي في المؤسسات الثقافية الإماراتية، بدا الخلط بين الفن والسياسة حاضرا في الأعمال التي يفترض أن تتناول أحداثا وشخصيات تاريخية ينبغي تناولها بحذر وتجنب تشويهها أو إقحامها في صراعات سياسية معاصرة.