تجمع الشواهد والحقائق على تعمد النظام الإماراتي تكريس سياسة الخداع في إعلانه المتكرر الانسحاب من حرب اليمن المستمرة منذ خمسة أعوام.
مؤخرا قال مركز كارنيغي للشرق الأوسط إن الإمارات تدير أكثر من 200 ألف عنصر من الميليشيات المسلحة لتنفيذ أجنداتها في اليمن.
وذكر المركز في دراسة أن الإمارات تبنت استراتيجية تعزيز تواجدها داخل الكيانات اليمنية الموالية لها، مع خفض تدخلاتها العسكرية المباشرة.
وأشار المركز إلى أن الإمارات أعلنت في تموز/يوليو 2019 سحب قواتها من اليمن.
“لكنها تركت عددًا كبيرًا يفوق 200 ألف عنصر من القوات العسكرية المحسوبة عليها، منتشرين في قواعد عسكرية مختلفة في أنحاء البلاد”.
وأبرز المركز أنه هكذا تستطيع الإمارات أن تنفّذ استراتيجيتها من دون أن يكون لها حضورٌ مباشر، فتتملّص بذلك من أي مسؤولية مباشرة.
وفي الأيام الأخيرة أغلقت الإمارات قاعدتها العسكرية في ميناء عصب في “إرتيريا”.
وحاولت أبوظبي بذلك توجيه إشارات إلى المجتمع الدولي –الإدارة الأمريكية على وجه التحديد- أنها تنسحب من حرب اليمن.
لكن ذلك ليس إلا استراتيجية خداع تمارسه أبوظبي، فلا يوجد هناك انسحاب حقيقي بحسب مراقبين.
وتشير السياسة الإماراتية الخارجية منذ إعلان فوز جو بايدن بالرئاسة الأمريكية، أنها تغير من ديناميكيات التدخل في شؤون الدول الأخرى.
لكن ذلك ليس صحيحاً على العكس فالاستراتيجية القائمة على الخداع تشير إلى أن أبوظبي باتت تعتمد بشكل أكبر على أطراف محليين للتنفيذ أهدافها.
وقال “أندرياس كريغ” المحاضر في كلية الدراسات الأمنية في كينجز كوليدج بلندن:
“بقدر ما كان انسحاب الإمارات من اليمن في عام 2019 رمزيًا بطبيعته، فإن تفكيك قاعدة عصب في إريتريا ينبغي اعتباره انسحابًا تكتيكيًا من وجود استراتيجي للإمارات في القرن الأفريقي”.
وأضاف “هذا يعني أن انسحاب أبو ظبي في معظمه هو إرسال إشارات إلى واشنطن وليس انسحابًا حقيقيًا من المنطقة”.
وأشار إلى أنه: من خلال القيام بعمليات استكشافية في ليبيا والقرن الأفريقي واليمن، وجدت الإمارات العربية المتحدة طرقًا للعمل دون الدخول في حرب مباشرة، مع تفويض القتال والعمليات التخريبية لشبكة واسعة من الوكلاء.
ولفت إلى أن الإمارات ولكونها “تتقن الخداع، تحافظ على موطئ قدم ونفوذ قوي في اليمن من خلال المجلس الانتقالي الجنوبي والمرتزقة وجماعات الميليشيات الأخرى الذين يزودون أبو ظبي بوسائل منفصلة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية مع إمكانية الإنكار المعقول.
بالتالي، استخدمت أبو ظبي السعودية ببراعة كدرع للاختباء وراءها وسط انتقادات عالمية بشأن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وجرائم الحرب التي ارتكبها “التحالف الذي تقوده السعودية”.
توريط السعودية
بالنظر إلى التغطية الإعلامية للصراع على مدى السنوات الست الماضية، تم وصف الإمارات على نطاق واسع بأنها شريك صغير يدعم شريكها الرئيسي السعودية في حربها ضد الحوثيين.
لكن في الواقع، كان الشريك الأصغر المزعوم قادرًا على تشتيت الانتقاد عن معسكرات التعذيب وحالات الاختفاء وجرائم الحرب.
إذ كان الرأي العام العالمي منشغلًا بالدرجة الأولى بدور السعودية في هذا الصراع.
في غضون ذلك، كانت الإمارات قادرة على تحقيق أهدافها في اليمن في كثير من الأحيان على حساب الرياض.
كانت استراتيجية أبو ظبي في المنطقة بمثابة لعبة صفرية مع السعودية: بمعنى أن أي هدف تحققه الإمارات هو هدف تخسره السعودية.
وقال أندرياس كريغ إنه وفي حين أن السعودية لا تزال تتلقى وطأة الانتقادات الدولية بشأن الكارثة الإنسانية التي ساعدت في إحداثها، قامت أبو ظبي بتحويل تكاليف سمعة هذه الحرب إلى الرياض.
ومع ذلك، انسحبت أبو ظبي تقريبًا من الصراع بينما تتواجد من خلال شبكتها من الوكلاء في اليمن.
كان سحب الإمارات لقواتها من الأراضي اليمنية بمثابة انسحاب تكتيكي في أحسن الأحوال.
بحيث يوحي إلى المجتمع الدولي أن الإمارات لا تريد أن يرتبط اسمها بعد الآن بالفظائع التي ارتكبتها، بينما تواصل شبكة وكلائها بارتكابها.
حرب بالوكالة
في عام 2019، كان هناك احتجاج على تخلي الإمارات الواضح عن السعودية في اليمن.
ومع ذلك، بعد عامين تقريبًا، أصبح من الواضح أن تحوّل الإمارات من حرب بالوكالة مباشرة إلى حرب غير مباشرة قد كان له تكلفة كبيرة على السعودية.
لم تكن التكاليف البشرية والسمعة التي تكبدتها القوات المسلحة الإماراتية متناسبة مع الثمار التي حصدتها دولة الإمارات.
في الواقع، حققت أبو ظبي منذ فترة طويلة أهدافها الأساسية في اليمن: تأمين الوصول إلى الممرات البحرية حول مضيق باب المندب.
والحوثيون الذين كان ينحصر نفوذهم في ذلك الوقت في شمال اليمن على طول الحدود السعودية لم يؤثروا على الاستراتيجية الاقتصادية الجديدة الكبرى للإمارات ولم يكن لهم تهديد على أي اعتبارات خطيرة تتعلق بالأمن القومي الإماراتي.
التعلم من ليبيا
يرى الأكاديمي البريطاني “أندرياس كريغ”: أن الإمارات ليست مهتمة بالمناطق النائية التي يتعذر الوصول إليها من الساحل اليمني المهم استراتيجيًا تمامًا مثل ما كان عليه حال البريطانيين حتى عام 1967.
“كان تأمين وجود موطئ قدم في عدن والحفاظ على السيطرة على المياه الساحلية لليمن في الجنوب أمرًا كانت أبو ظبي قادرة وراغبة في تفويضه إلى شبكة من الوكلاء من أهمهم المجلس الانتقالي الجنوبي”.
وأشار إلى أنه من خلال التدريب والتجهيز والتمويل لشبكة واسعة من أكثر من 200 ألف مقاتل في جنوب اليمن، تعلّمت أبو ظبي من دروسها في ليبيا أن الحرب بالوكالة قد توفر عمقًا استراتيجيًا في الخارج بتكاليف محدودة أو منعدمة على السمعة أو الخسائر البشرية أو السياسية.
في الوقت نفسه، يمكن لأبو ظبي الاستفادة من مرتزقتها الإسرائيليين والأمريكيين لمطاردة وقتل خصومها السياسيين في اليمن.
واستعانت الإمارات فعليًا بوكلائها في اليمن لارتكاب جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان.
ويعتبر كريغ أن توفير الإمارات الاستقلالية الكبيرة لوكلائها في جميع القضايا الأخرى يعني أن الإمارات قد أطلقت بفعالية قوة سياسية وعسكرية قوية في الصراع الذي يتسم بالاستقطاب العالي.
واختتم بالقول: في أعقاب سياسة فرّق تسد، استغلت عمليات الوكلاء الإماراتيين في جنوب اليمن الخطاب الانفصالي الجنوبي لتقويض وحدة اليمن.
ومع استسلام الحكومة اليمنية بشكل متزايد لضغوط الحوثيين في الشمال ووكلاء الإمارات في الجنوب، تتعرض السعودية لخسارة كبيرة في الصراع– ويحدث كل ذلك بينما تتحمل السعودية معظم التغطية السلبية للحرب في اليمن.