تجمع منظمات حقوقية على أن ما تشهده الإمارات مؤخرا من إعادة محاكمات جماعية لمعتقلي رأي معارضين بمثابة هو تكريس قبضة جهاز أمن الدولة وتعزيز نهج القمع وتبرير الاحتجاز التعسفي المفتوح.
وأعادت السلطات الإماراتية منذ أسابيع محاكمة عشرات المواطنين الإماراتيين ممن صدرت بحقهم سابقا أحكام ظالمة فقط بسبب دعوتهم للإصلاح وحماية الحريات العامة.
واللافت أن المحاكمات الجديدة والتي شملت 87 إماراتيا، تمت أصلا محاكمتهم في العام 2013، ضمن القضية المعروفة باسم “الإمارات 94″، وصدرت بحقهم في حينه أحكام جائرة وصلت إلى 10 سنوات، وأنهوا محكومياتهم، لكن السلطات الأمنية الإماراتية، رفضت إخراجهم؛ لتُعيد محاكمتهم مُجددا في السابع من ديسمبر الفائت.
تفاصيل المحاكمات الجديدة
بحسب ما كشفت عنه منظمات حقوقية، فقد تمت إجراءات المحاكمات بسرية تامة، حيث منعت السلطات المعتقلين من تعيين محامين مستقلين للدفاع عنهم، ومنعت عائلاتهم من حضور جلسات المحاكمة، كما لم يحصل المحامون وأهالي المعتقلين على نسخة إلكترونية من القضية.
وذكرت موقع (الامارات 71) المعارض أن المحاكمات الجديدة شملت أسماء بارزة، مثل الدكتور سلطان بن كايد القاسمي، وخالد الشيبة النعيمي، والدكتور محمد الركن، والدكتور هادف العويس، والأستاذ محمد عبد الرزاق الصدّيق.
كما شملت نشطاء حقوقيين، مثل الحقوقي أحمد منصور، المعتقل منذ 2017 الحائز على جوائز حقوقية، والدكتور ناصر بن غيث، وناشطين آخرين يعيشون خارج البلاد.
تردي حقوق الإنسان
تأتي المحاكمات الجديدة، مع استمرار تردي ملف حقوق الإنسان في الدولة، حيث يسيطر جهاز أمن الدولة على حياة المواطنين، في ظل قوانين فضفاضة وسيئة السمعة تمكنه من إدانة الإماراتيين والمقيمين لأبسط الانتقادات، والتي قد تُوْصِل للإعدام.
كما تواجه الدولة اتهامات بتعذيب المعتقلين. وتقول الأمم المتحدة إن قوانين الإمارات لا تحمي المواطنين والمقيمين من التعذيب فقط.
بل تشجع المجرمين الذين يرتكبون هذه الجرائم على الإفلات من العقاب، خاصة في ظل انعدام استقلال القضاء في الدولة، وسيطرة وتحكم جهاز أمن الدولة فيه.
قانونية المحاكمات الجديدة
يُحاكم المواطنون الـ87 للمرة الثانية بنفس التهمة التي سجنوا بسببها قبل 12 عاماً: “إنشاء وتمويل تنظيم إرهابي”.
كما أنهم يُحاكمون جميعاً بموجب قانون مكافحة الجرائم الإرهابية الذي صدر وهم في السجون يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب والانتهاكات حسب ما أفادت الأمم المتحدة حول محاكماتهم السابقة.
وبحسب القانون الإماراتي فإنه لا يجوز النظر في دعاوى سابقة تم الفصل فيها. وهو مبدأ استقرت عليه أحكام المحكمة العليا، والذي أكده المستشار القانوني والقضائي الإماراتي محمد بن صقر الزعابي.
كما لا يوجد ما تستند إليه الحكومة للحصول على أدلة ضد المعتقلين لأنهم كانوا في السجن؛ وكل ما تم تقديمه هي أدلة قُدمت في قضية “الإمارات 94″، وشملت تصريحات تلفزيونية ومقالات كُتبت في إطار ممارسة الإماراتيين الحق في الرأي والتعبير، وفُصل فيها عام 2013.
بالإضافة إلى ما ورد، فإن أيا من المعتقلين أو أهاليهم لم يكونوا على علم بالاتهامات الجديدة الموجهة إليهم، بل عرفوا ذلك بعد الجلسة الأولى لمحاكمتهم.
دوافع المحاكمة
ولأن هذه المحاكمة غير قانونية وصادمة بكل المقاييس للإماراتيين والمراقبين القانونيين والحقوقيين بالدولة، إلا أنه يمكن استخلاص أبرز الأسباب التي تقف خلفها:
أولاً: إسكات الإماراتيين
الاتهامات الموجهة للمواطنين الـ87 في قضاياهم السابقة هي بسبب ممارسة حقهم الدستوري في التعبير عن الرأي؛ بينها المطالبة السلمية بمجلس وطني اتحادي كامل الصلاحيات، وإبقاؤهم في دائرة لا نهائية من المحاكمات هدفه “إرهاب المجتمع”، وتخويفه من ممارسة الحق في التعبير عن الرأي، والمطالبة بحقوقه الأساسية.
كما يُمعن جهاز أمن الدولة في إخافة المواطنين بالعقوبات التي تنتظرهم في حال التعبير عن آرائهم؛ إذ أن التهم التي تواجه المعتقلين تصل عقوبتها إلى الإعدام والسجن المؤبد حسب المادة 21 من قانون مكافحة الجرائم الإرهابية.
ويعتقد جهاز أمن الدولة أن إبقاءهم في السجون بمحاكمة رسمية يؤجل تأثير الزخم الذي اكتسبه المعتقلون شعبياً وحقوقياً دولياً خلال سنوات اعتقالهم، وأصبحوا مُلهمين للشباب والمطالبين بالإصلاحات في الدولة، ويعتقد أن خروجهم يقوض خططه القمعية والسياسية.
ثانياً: تبرير استمرار الاعتقال
كان معظم المعتقلين قد أنهوا أحكام السجن بحقهم منذ أشهر وسنوات، ولم يكن جهاز أمن الدولة يستطيع تبرير اعتقالهم خاصة الذين حُكم عليهم في قضية “الإمارات 94”.
كما كان واضحاً أن محاكمتهم الأخيرة جاءت رداً على تنظيم عشرات النشطاء الحقوقيين الدوليين -خلال مؤتمر المناخ (كوب 28) في دبي- فعاليات وتظاهرات نادرة في الإمارات تطالب بسرعة الإفراج عن المعتقلين السياسيين، والتي كانت تضغط بشكل كبير على السلطات لتبرير استمرار اعتقالهم في السجون رغم انتهاء محكومياتهم.
إذ أنه وقبل أيام من بدء المحاكمة تلقت بعض عائلات المعتقلين مكالمات تبلغهم بأنه سيتم إطلاق سراح أقاربهم أخيرا أو “أن يتوقعوا أخباراً جيدة”.
كما أنه يعتبر رداً سلبياً ومسيئاً للدولة على تقرير لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتحدة (يونيو 2022) “والذي طالب الدولة بأن تستند عمليات الاحتجاز في مراكز المناصحة إلى معايير واضحة ومحددة يحددها القانون، وأن تكون الأوامر المتعلقة بهذه الاعتقالات محدودة المدة، فبدلاً من تصحيح القانون قامت بمحاكمة غير قانونية بالكامل للمعتقلين.
ثالثاً: لا لحقوق الإنسان في الإمارات
يرسل جهاز أمن الدولة رسائل عديدة تخص ملف حقوق الانسان والأنظمة القانونية والقضائية، فهو يؤكد استمرار استخدام نظام العدالة الجنائي عبر القوانين سيئة السمعة للقضاء عن أي حديث في ملف حقوق الإنسان المتردي.
كما أنها رسالة قاسية لتأكيد سيطرته على المؤسسات القضائية، واحتقار لمطالب الأمم المتحدة المستمرة منذ عقد من الزمن باتخاذ تدابير لاستقلال السلطة القضائية وحيادها وفعاليتها، ومراجعة نظام القضاء، ومراجعة القوانين سيئة السمعة، والتي من بينها القانون الذي يُحاكم به المعتقلون.
ويرسل رسالة سخرية من المنظمات الدولية التي تستمر بالمطالبة بإصلاح سجل البلاد الحقوقي. لذلك تثير هذه المحاكمة غضب الإماراتيين والمنظمات الحقوقية حول العالم.
ردود أفعال منظمات حقوقية
أكدت منظمات حقوقية أن السلطات تسعى من خلال هذه المحاكمة إلى “شرعنة” تمديد فترة اعتقال النشطاء؛ حيث رفضت عشرات المنظمات الحقوقية الدولية، المحاكمة واعتبرتها “عملاً مخزياً” يكشف من جديد إخماد السلطات الإماراتية لأي صوت يطالب بالحرية الشرعية، سواء داخل السجون أو خارجها، كما اعتبرت المحاكمات “صفعة كبيرة في وجه مجتمع حقوق الإنسان في البلاد”.
وقالت 43 منظمة، في بيان مشترك: “إن محاكمة عشرات الإماراتيين تأتي بسبب دفاعهم السلمي عن حقوق الإنسان”، واصفة المحاكمات بأنه “عمل مشين يؤكد من جديد رغبة السلطات الإماراتية في مواصلة معاقبة وترهيب أي منتقدين محتملين لإجبارهم على الصمت”.
فيما اعتبت منظمة “هيومن رايتس ووتش” أن هذه الخطوة “ذريعة مشينة لاستمرار حبس العشرات منهم”. في حين قالت منظمة “العفو الدولية” إن المحاكمة “تكشف احتقار هذه السلطات المخزي لحقوق الإنسان”.
انغلاق على نفسها
لكن اللافت تحذير حقوقيين لـ”الإمارات71″ من أنه لا يجب أن تثير محاكمة المواطنين الـ87 أهالي المعتقلين وأقاربهم وحدهم، بل يجب أن تثير القلق حول مستقبل حقوق المواطنين في الدولة، خاصة مع النهج الثابت بتجنيس الأجانب ليبدوا مواطنين بدلاء للمواطنين الأصليين.
كما أكدوا أن هذه المحاكمة توجه رسالة مفزعة أن الحكومة وسلطات الدولة لا تستطيع التسامح مع حقوق مواطنيها، ليس فقط في حرية الرأي والتعبير؛ بل في كل حقوقهم وطموحاتهم المشروعة وفق الدستور.
وأشاروا إلى أن الدولة بقدر ما تغلق نفسها وسط سياسات دول المنطقة، تنغلق ذاتياً على نفسها من سماع مواطنيها، وهو نهج يهدد الدولة ويسيء لشيوخها.
وعليه تبدو معها الإصلاحات طريقاً إجبارياً لإيقاف الهاوية التي يسحب جهاز الأمن سفينة الإمارات إليها، والبداية لإنهاء مهزلة المحاكمات الجديدة.