تخوض الإمارات صراعا إقليميا حتى مع أقرب حلفائها في ليبيا ضمن مؤامراتها لنشر حربا أهلية تهدد بتقويض البلاد عبر دعمها ميليشيات مسلحة خارجة عن القانون على غرار ما تفعل في اليمن.
وبفعل التدخل الإماراتي، يتحول الصراع الكابوسي في ليبيا إلى ساحة لصراع أعظم على النفوذ سعيا من أبوظبي لفرض رؤاها وأيديولوجياتها وبرامجها الطموحة على الدولة الواقعة في شمال إفريقيا.
وطوال الحرب الأهلية الليبية، لعبت مصر دورا مؤثرا، وإن كان متناقضا. وعندما حاول حليف الإمارات خليفة حفتر السيطرة على طرابلس لأول مرة في فبراير/شباط 2014، كان الكثيرون في ليبيا -وفي جميع أنحاء المنطقة- يرفضونه كقائد. ومع ذلك، احترمت قيادة مصر “حفتر” في تلك المرحلة، وأخذته على محمل الجد.
وبحلول النصف الأول من عام 2014، توصل المسؤولون في القاهرة إلى استنتاج مفاده أن شرق ليبيا أصبح وكرا خطيرا للميليشيات الإسلامية يحتاج إلى التطهير. وعندما أدركت القيادة المصرية هذا الوضع، كان “حفتر” هو الزعيم الليبي الأنسب لمواجهة هذه الجماعات “الإرهابية” من وجهة نظرهم.
ووفقا لهذه الرواية المصرية، يمثل “حفتر” والجيش الوطني الليبي الحصن الوحيد ضد التطرف في ليبيا. وبخلاف الدعم السياسي القوي الذي تلقاه القائد الليبي من الخارج، فإنه حظي أيضا بدعم من السكان المحليين في بنغازي وأجزاء أخرى من شرق ليبيا.
وينبع ذلك من تصورات شائعة مفادها أن “حفتر” وقواته لهم الفضل في التعامل مع الميليشيات الإسلامية النشطة في الشرق.
وفي مايو/أيار 2014، عندما أطلق “حفتر” ما يسمى بـ”عملية الكرامة”، كانت مصر أول دولة تدعم الجيش الوطني الليبي بشكل كامل. لكن المصريين لم يكن لديهم أي نية لإنفاق مواردهم المحدودة لتمويل حملة “حفتر”، لذلك سعوا إلى حشد المزيد من الداعمين وفي مقدمتهم دولة الإمارات التي يمكن أن توفر جيوبها العميقة نسبيا دعما أكبر بكثير.
وبعد مرور خمسة أشهر على “عملية الكرامة”، أصبحت الإمارات بالفعل الممول الرئيسي للجيش الوطني الليبي و”حفتر”. وبحلول أغسطس/آب 2014، كان تدخل مصر والإمارات في ليبيا مباشرا وصريحا.
وكما أوضح أحد الخبراء الليبيين، كانت القاهرة سعيدة بالسماح للدول الأخرى الموالية لـ”حفتر” باستخدام غرب مصر كمنطقة لإطلاق العمليات العسكرية، خاصة مع قيام أبوظبي بتسديد معظم فاتورة أسلحة الجيش الوطني الليبي.
وفي فبراير/شباط 2015، أقنعت مصر روسيا فعليا أن “حفتر” يستحق فرصة، وأن الكرملين بحاجة إلى التفكير بجدية في فوائد دعم القائد الشرقي. وفي العام الماضي، صعدت فرنسا من مستوى دعمها لـ”حفتر” بفضل الجهود المصرية الإماراتية لإقناع باريس بأن دعم الجيش الوطني الليبي هو الطريقة الأكثر حكمة لمعالجة الحرب الأهلية الليبية والتهديد الذي تمثله لأمن أوروبا.
ومع ذلك، على الرغم من أن القاهرة قد جمعت العديد من اللاعبين المؤثرين في تحالف خلف “حفتر”، إلا أن المسؤولين المصريين ليسوا غافلين عن نقاط القوة والضعف في الجيش الوطني الليبي.
وتؤمن القاهرة بأن الجيش الوطني الليبي ليس في وضع يسمح له بتحقيق نصر عسكري على جيش ليبيا الموالي لحكومة الوفاق والميليشيات المتحالفة معه.
وينظر المسؤولون المصريون إلى الجيش الوطني الليبي على أنه مجموعة شاملة غير منضبطة تضم العديد من الفصائل، مثل القوى السلفية المتشددة، التي تفضل القاهرة ألا تكون جزءا من الحكومة الليبية المستقبلية.
وبينما كان القادة المصريون يفضلون أن يحرر الجيش الوطني الليبي كل ليبيا، إلا أنه بحلول أواخر عام 2018، بدأت مصر في دفع “حفتر” نحو إيجاد تسوية سلمية للحرب الأهلية الليبية.
وفي الوقت نفسه، شجع المسؤولون في أبوظبي والرياض “حفتر” على شن حملة شاملة لاغتصاب السيطرة على “طرابلس” و”مصراتة”، وأجزاء أخرى من ليبيا لم تكن بالفعل خاضعة لسيطرة الجيش الوطني الليبي.
وتدرك القاهرة أن الإمارات تركز على الحرب، وأنها ستواصل دعم الجيش الوطني الليبي ماليا. ومع ذلك، لا تتوقع مصر من الإماراتيين إعادة بناء ليبيا بمجرد انتهاء الحرب الأهلية.
وبدلا من ذلك، ستتحمل مصر عبء هذا الدور. ونتيجة لذلك، كان هناك اختلاف واضح في الأولويات بين القاهرة وأبوظبي فيما يتعلق بغرب ليبيا. وفي نهاية المطاف، لا يحوي شرق ليبيا سوى ثلث سكان البلاد، في حين أن الغرب هو موطن البنك المركزي الليبي والشركات الوطنية للنفط، من بين أصول أخرى يمكن أن تتيح للعمال المصريين المغتربين فرص عمل حقيقية بمجرد استقرار غبار الحرب.
لذلك، لدى مصر حافز لتثبيط أي استراتيجية من شأنها أن “تتخلى” عن غرب ليبيا وتركز فقط على بنغازي والأجزاء التي يسيطر عليها الآن الجيش الوطني الليبي التابع لـ “حفتر”.
ولهذا السبب، ترى القاهرة أن “حفتر” كان يجب عليه تجنب “عملية تحرير طرابلس”، والسعي بدلا من ذلك إلى السبل الدبلوماسية للسيطرة على العاصمة.
وعلى الرغم من المخاوف المصرية من هجوم “حفتر” على طرابلس في 4 أبريل/نيسان، اعتقدت القاهرة أنه ليس لديها خيار سوى دعم هذا الجهد.
وكان مصدر القلق الرئيسي للقادة في مصر هو أن حملة “حفتر” الموسعة في الغرب قد تضعف قبضته على السلطة في شرق ليبيا، ما قد يخلق فراغات جديدة في السلطة تهدد الأمن المصري.
وفي مواجهة عقوبات الأمم المتحدة، واصلت القاهرة تزويد الجيش الوطني الليبي بالدعم العسكري على أمل منع هذه النتيجة.
وعلى الرغم من التكهنات بأن الحكومة المصرية ستتخلى عن “حفتر” بسبب إحباطها من القائد الليبي، تشير المخاوف الأمنية والاقتصادية إلى أن القاهرة ستواصل رعاية الجيش الوطني الليبي مع استمرار الحرب الأهلية في ليبيا.
وفي هذه الحرب، ينظر القادة في مصر إلى الجيش الوطني الليبي على أنه هو الممثل الوحيد الذي يمكنه تحقيق الاستقرار في ليبيا، والذي أثبت قدرته على طرد الجماعات الإسلامية من المناطق الحيوية الاستراتيجية.
ويشبه صعود “حفتر” إلى السلطة صعود الرئيس المصري “عبدالفتاح السيسي”، ويشترك الرجلان في أهداف سياسية متماثلة، وإيمان بضرورة وجود جيش قوي من أجل تحقيقها.
وقد اتخذ كلاهما موقفا متشددا ضد الإسلام السياسي بشكل علني، ولكل منهما رؤية لتخليص ليبيا ومصر بشكل دائم من جماعة الإخوان المسلمين. وبفضل هذه الخلفيات وجداول الأعمال المشتركة، يعد “حفتر” و”السيسي” شريكين طبيعيين في الكفاح المزعوم ضد التطرف.
وكما هو الحال في اليمن، تحولت الإمارات إلى داعم واضح لانقلاب حفتر ضد الشرعية في ليبيا.
وتمعن السلطات في الإمارات على أن يظهر القادة العسكريون الموالون لها في اليمن وليبيا يرتدون الزّي العسكري الإماراتي! ويرتكب هؤلاء الانتهاكات مرتدين الزي الرسمي للدولة ما يؤسس لصورة مقيته عن الجيش الإماراتي في أذهان المواطنين العرب.
وقبل أيام سمحت الإمارات للمتحدث باسم قوات حفتر أحمد المسماري بعقد مؤتمر صحفي في أبو ظبي للحديث عن التطورات والعمليات العسكرية لقواتهم ضد الحكومة المعترف بها من قِبل الأمم المتحدة.
يقول موقع “ليبيا اكسبرس” بنسخته الإنجليزية إن الإمارات تحاول تسويق “المسماري” كنسخة احتياطية ل”حفتر” بعد تزويده على مدار الأشهر الماضية بكل المساعدات العسكرية اللازمة لمساعدة قواته على دخول طرابلس والاستيلاء على السلطة، مثلما فعلت في اليمن، ولكن على عكس اليمن، قوات حفتر لم تتمكن بعد من دخول طرابلس والاستيلاء على السلطة حيث تتلقى هزائم واحدة تلو الأخرى.
كان من المستغرب أيضا الزي العسكري الذي كان يرتديه المتحدث. حيث أُثير انتقادات حول كيف يرتدي ضابط يفترض أنه في الجيش الليبي زي عسكري لبلد آخر ولا يزال يتحدث عن ليبيا وسيادتها.
بدا المسماري أنه يحاول إبراز الدعم الإماراتي لحفتر والعملية العسكرية التي تشنها قواته منذ أشهر على طرابلس الخاضعة لحكومة تعترف بها الأمم المتحدة.
وأعلن المسماري رفض دعوة المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة للعودة إلى طاولة الحوار، مشددا على أن “الحل العسكري للنزاع هو الطريق الأمثل”.
عقب ظهور المسماري في أبوظبي، قالت الأمم المتحدة، إن “حفتر” طالب ضمانات للانسحاب من محيط طرابلس ووقف القتال مشترطاً مناصب رفيعة في الحكومة الليبية. وهو ما يزيد التكهنات بشأن البديل الإماراتي الجديد في ليبيا.
وقال المجلس الأعلى للدولة الليبية إن الإمارات تحاول صبّ الزيت على النار في ليبيا من خلال دعمها الواضح للقوات التي تهاجم الشرعية في البلاد.
ووصف المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الليبية، في بيان، خطوة الإمارات بـ”الموقف العدائي”. واعتبر البيان أن “ظهور أحد العناصر المليشاوية والداعم لحكم العسكر والرافض للدولة المدنية الديمقراطية بزيه العسكري في دولة أجنبية يعبر عن تفريط جسيم بالسيادة الوطنية ويعرض القائم به للملاحقة القانونية”.
الرفض أو الإجماع الشعبي الليبي لرفض الحل العسكري الذي تفرضه الإمارات، وصل إلى الجامعة العربية حيث صدر قرار بالإجماع يوم الأربعاء (11 سبتمبر/أيلول2019) يرفض الحل العسكري في ليبيا ويدعو للحوار والحلول السياسية فقط. وعلى الرغم من أنه قرار بدون تنفيذ إلا أن رمزيته تُثقل صانع القرار السياسي الإماراتي المستمر في عسكرة ليبيا وتحويلها إلى بؤرة اقتتال عظيمة.
ولم يكن هذا هو حال اليمن في جامعة الدول العربية. لكن اليمن وليبيا اتفقتا في إبلاغ مجلس الأمن بانتهاكات الإمارات.
حيث قالت رسالة ليبية إلى مجلس الأمن إن تصرف الإمارات دعمٌ للمعتدين على العاصمة الليبية، وإعانة لهم على قتل الليبيين، ودعم لارتكابهم المزيد من الانتهاكات وجرائم الحرب.
وتصرف دولة الإمارات يعد دعما للانقلاب على الحكومة الشرعية وخرقا صارخا لقرارات مجلس الأمن، داعيا المجلس للقيام بواجباته وحفظ السلم والأمن الدوليين، ووضع المسؤولين والداعمين لهذا العدوان تحت طائلة القانون الدولي.
وتبدو مضامينها متشابهة مع حديث المندوب اليمني في مجلس الأمن عقب قصف الدولة للجيش اليمني قرب مدينة عدن، حيث طالب بوقف “العدوان الإماراتي” وقال إنها خططت ومولت ونفذت الانقلاب في عدن ضد الحكومة الشرعية.
وصرحت الإمارات علناً منذ أولى أيام معركة طرابلس بدعم حفتر، حتى أن المسئول الأمني الإماراتي ضاحي خلفان كان يتابع، عبر حسابه الرسمي على “تويتر”، عن كثب كل خطوة تخطوها المليشيات الغازية من دون أن يشير حتى لحفتر كقائد لها بل يسميها بكل صراحة “قواتنا”.
ومن هذه التغريدات: “مدينة ترهونة واستقبال قواتنا المسلحة، هذه رسالة أوصلها لي ليبي لا أعرفه”، مرفقة بفيديو من داخل ترهونة يُظهر استقبال مليشيات حفتر. وفي تغريدة أخرى لخلفان كتب: “لا حول ولا قوة إلا بالله، طائرة حربية تدريبية تقلع من ثانوية مصراتة الجوية، وتحاول قصف قواتنا المسلحة في منطقة العزيزية، لكن الصاروخ أصاب منزل إحدى العائلات القاطنة في منطقة مجاورة”. وفي أخرى: “نؤكد حق القوات المسلحة في حماية المدنيين، وأن الرد سيكون قاسياً جداً على هؤلاء المجرمين”.
وعلى الرغم من موقف حكومة الوفاق الليبية الثابت من دحر مليشيات حفتر، إلا أنه يبقى مشبوهاً إزاء مواقف داعميه الإقليميين، فعلى الرغم من بياناتها واحتجاجاتها المتتالية على “الصمت الدولي” و”خرق قرار حظر السلاح عن ليبيا”، إلا أنها لم تتشجع للفظ اسم الإمارات بشكل صريح، على الرغم من إثبات وجود السلاح الإماراتي في ميدان المعارك، والتصريحات السابقة من مسؤولي هذه الدولة.
مقابل ترحيب الكثير من المراقبين بموقف الحكومة الأخير من الإمارات، فإن طيفاً آخر من المتابعين يرون فيه مجرد بيان باهت، ولا يزالون يؤكدون تغلغل أبوظبي في مفاصل الدولة في طرابلس، ويتحدثون عن وجود حلفاء وموالين لها داخل الحكومة عرقلوا خروج موقف واضح ورسمي، فيما ميادين مواجهة الإمارات في ليبيا عديدة وليست بالسلاح فقط.