تصعد مليشيات الإمارات في حربها الإجرامية على اليمن نشر الرعب في مساجد البلاد من خلال عمليات تصفية ممنهجة لرجال الدين. وقد قتل ما يصل إلى 27 من رجال الدين خلال العامين الماضيين في عدن والمناطق المحيطة بها.
وتناولت صحيفة (واشنطن بوست) الأميركية ظاهرة قتل رجال الدين في جنوب اليمن وقالت إن صفوان الشرجبي آخر رجل دين يُقتل في سلسلة من جرائم الاغتيال غير المحلولة.
ونقلت الصحيفة عن مسؤول أميركي بارز قوله إنَّ بعض عناصر المجلس الانتقالي الجنوبي -وهو من مليشيات الإمارت في حرب اليمن- يرجح أنَها تقف وراء اغتيالات رجال الدين.
وقالت الصحيفة إن سيارة تويوتا كورولا بيضاء وقفت بجوار صفوان الشرجبي عندما كان يسير بطريق مزدحم في ليلة من ربيع هذا العام (2018)، بعد أن اشترى الدواء لأمه، حسبما يذْكر الشهود.
وخرج رجلٌ من السيارة وأطلق ما لا يقل عن 4 رصاصات نحو جسد الإمام النحيف ذي اللحية الخفيفة. سقط الشرجبي على الأرض، وانفجرت الدماء من أسفل ظهره. وقال محمد عبد الله، وهو مالك صيدلية يبلغ من العمر 32 عاماً شاهد السيارة وهي تفرُّ: «أغلب الناس في الحي عرفوا صفوان واستمعوا إلى خطبه. لقد كان مؤثراً؛ وذلك هو سبب مقتله».
لكنَّ هوية القاتل ما زالت غامضة، بالرغم أنَّ التكهنات تنتشر بسرعة. ولم تعلن أي جماعة مسؤوليتها عن أيٍّ من الاغتيالات، ولم يُلقَ القبض على أيٍّ من مرتكبي الجرائم.
وكان لرجل الدين الشرجبي دور واضح في حل الخلافات القبلية باليمن وترصد «الواشنطن بوست» سيرة رجل الدين الشرجبي، قائلة: «في مراسم جنائزية نُظِّمَت في الثاني عشر من مايو/أيار 2018، بعد يومين من اغتيال الشرجبي، وصفه الأقارب والأصدقاء بالودود والمحبوب، وبأنَّه كان إماماً من دون أعداء معروفين».
وفي لوحةٍ تذكارية له، كان الشرجبي يرتدي سترةً بلونٍ كريمي، وقميصاً وردياً ونظارة شمسية، فيبدو أقرب إلى مظهر نجمٍ سينمائي من مظهر رجل دين. أدى الشرجبي دوراً هاماً مثل رجال الدين الآخرين في المجتمع القبلي اليمني المتمسك بالتقاليد. فهو يلقى دروساً دينية حول القرآن والأخلاق. وتوسط للتوصل لاتفاقات بين الأحياء الغاضبة وحل الخلافات المتعلقة بالأعمال. وقدَّم النصح للشباب الحائر، وكان وسيط علاقات بين الأزواج والعائلات.
وانضم الشرجبي إلى رجال الدين الآخرين؛ لحشد المقاومة ضد المتمردين والتحالف السعودي الإماراتي، وجمع الأموال والغذاء للمقاتلين المناهضين للحوثيين. في خطبه وعلى صفحته بموقع فيسبوك، لم يخجل الشرجبي من التعبير عن رؤاه ضد من يحكمون عدن، حسب رواية زملائه وأصدقائه.
ونصح الشباب بالبقاء بعيداً عن الميليشيات المؤيدة للانفصال واستنكر التطرف. وفي بعض المنشورات الأخيرة له على فيسبوك، وبَّخ السلطات التي «تسببت في معاناتنا»، وكتب أنَّ «سيد الشهداء من يقول كلمة حق عند سلطان جائر ويُقتل من أجل ذلك».
وقال وائل، أحد أئمة حزب الإصلاح: «دعا صفوان دوماً إلى الاتحاد، مثلما دعا جميع الأئمة الآخرين الذين قُتلوا. ولم ير أي شيءٍ جيد يأتي من الانفصال». وخشيَ المقربون من الشرجبي الحديث عن اغتياله، لكنَّ آخرين عبَّروا بحدَّة عن رأيهم في الأطراف التي يلقون باللوم عليها في مقتله.
إذ قال أشرف علي محمد، وهو صحافي محلي يوجه أصابع الاتهام إلى الإمارات والميليشيات الانفصالية: «هذه الاغتيالات نُفِّذت لتخدم بعض الأطراف، من داخل البلاد وخارجها. هددت هذه الأطراف بطرد (الإصلاح) من المجتمع».
وارتفاع وتيرة الاغتيالات دفع رجال الدين للهروب بعيداً عن أماكن الصراع وقالت «الواشنطن بوست» إن وتيرة الاغتيالات ارتفعت ارتفاعاً كبيراً منذ أكتوبر/تشرين الأول 2017، في ظل اغتيال 15 رجل دين، من ضمنهم اثنان قُتلا في الشهر الماضي (يوليو/تموز 2018)، حسبما أفاد مسؤولون يمنيون وأعضاء من الجماعات الدينية.
وتعرض جميع هؤلاء لهجومٍ عن طريق إطلاق نار من مَركبة مسرعة أو قُتلوا بالقرب من مساجدهم. وهرب عشراتٌ من رجال الدين من المدينة، حتى إنَّ آخرين قصَّروا ساعات عملهم؛ كي يبقوا على قيد الحياة.
وفي هذه المدينة اليمنية الجنوبية التي تملؤها الفوضى، حيث تؤدي الحكومة المحلية وظائفها بالكاد، ويحكم خصومها من المسلحين شوارع المدينة، ملأ رجال الدين فجوة القيادة التي تعانيها. ونظراً إلى أنَّهم قادة مجتمع بارزون، فإنَّهم يتنافسون الآن على السلطة مع الميليشيات المسلحة الطموحة، متمثلةً في تنظيم القاعدة وتنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش).
وقد جعل ذلك رجال الدين مستهدفين. وقالت ليلى الشبيبي، وهي ناشطة في مجال الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان: «يضعف المجتمع مع كل اغتيال. كان رجال الدين قادة مؤثرين في مجتمعاتهم؛ إذ إنَّهم حلّوا النزاعات وقدّموا النصح. وكانوا معلمي مجتمعاتهم والمتحدثين باسمها».
وكان دعاة يمنيون اتهموا الإمارات والتحالف العربي بالوقوف خلف هذه الاغتيالات. يبدو أنَّ الاغتيالات مرتبطة بنزاعٍ على السلطة بين وكلاء حليفين للولايات المتحدة: السعودية والإمارات.
وللسعوديين والإماراتيين لهما رؤى مختلفة لمستقبل اليمن. كان كثيرٌ من رجال الدين المقتولين، ومن ضمنهم الشرجبي، أعضاء في حزب الإصلاح، الحزب السياسي الإسلامي النافذ. يرى السعوديون أنَّ الحزب حليفٌ لهم، وضروري لإعادة إعمار اليمن.
بيد أنَّ الإماراتيين يرون أنَّ أعضاء حزب الإصلاح متطرفون خطرون تربطهم علاقات بجماعة الإخوان المسلمين، التي تعتبرها بعض القوى الإقليمية جماعةً متطرفة.
يدافع أيضاً بعض رجال الدين المقتولين عن الحفاظ على وحدة اليمن، في حين تفضل كوكبة قوية من الميليشيات المتحالفة مع الإمارات انفصال الجزء الجنوبي من البلاد.
وقال بيتر ساليزبري، وهو محلل للشؤون اليمنية في مجموعة الأزمات الدولية: «إنَّها حملة ممنهجة ومدروسة. الأشخاص المستهدَفون من خارج التيار الرئيسي الجديد في اليمن الذي يؤيد الانفصال».
وفي ديسمبر/كانون الأول 2017، أكد دعاة وخطباء وأئمة العاصمة اليمنية المؤقتة عدن، أن الاغتيالات والاعتقالات التي تعرض لها كوكبة من الدعاة والأئمة خلال الفترة الأخيرة، تسير وفق منهجية إجرامية تسعى لإخلاء الساحة من المصلحين والدعاة. وحمَّل بيان أصدره الدعاة والخطباء والأئمة، الحكومة الشرعية وقوات التحالف العربي، ممثلة بالإمارات العربية وبالتشكيلات الأمنية التابعة لها في عدن، المسؤولية كاملةً عن سلامة وأمن الأئمة والخطباء، مطالبين إياهم بملاحقة الجناة وضبطهم وتسليمهم للعدالة.
وطالب الخطباء والأئمة إدارة أمن عدن ببيان وتوضيح تفاصيل إلقائها القبض على مجموعة من القتلة المتهمين بتلك الاغتيالات، وإيضاح ذلك للرأي العام الداخلي والخارجي.
ودعا البيان المنظمات الحقوقية كافة لرصد وتوثيق الجرائم التي تستهدف الأئمة والدعاة بشكل وحشي، مطالبين إياهم باتخاذ الإجراءات اللازمة للحد من تلك الجرائم.
كما حذر البيان من التحريض الممنهج على الدعاة والأئمة عبر الإعلام بمختلف منصاته، أو عبر منابر بعض المساجد، التي تنتهج منهجاً غالياً في التحريض، على حد قولهم.. مؤكدين أن الدماء لا تسقط بالتقادم، وداعين الجميع إلى تجديد التوبة والإكثار من العمل الصالح ليرفع الله البلاء.
وتقول الصحيفة الأميركية إن الحكومة اليمنية في الجنوب يقودها الرئيس عبد ربه منصور هادي قيادةً اسمية، لكنَّ الشوارع تحكمها مجموعة من الميليشيات المؤيدة للانفصال تُعرف بـ»المجلس الانتقالي الجنوبي»، وداعمها الرئيسي المتمثل في الإمارات.
وأدانت الناشطة اليمنية في مجال حقوق الإنسان، توكل كرمان، اغتيال القيادي في «حزب التجمع اليمني للإصلاح»، شوقي كمادي، في عدن، وحمَّلت الإمارات المسؤولية عن مقتله.
وقالت كرمان، الحاصلة على جائزة نوبل للسلام، في تدوينة لها على صفحتها بـ»فيسبوك»: «ترعى الإمارات، وبصورة ممنهجة، اغتيال القيادات السلفية والإصلاحية في المناطق الجنوبية، حتى يخلو لها ولمليشياتها الجو. لكن شعبنا أقوى منهم. ولن تمر هذه الجرائم دون حساب».
وأضافت: «سنحاسب (ولي عهد أبوظبي) محمد بن زايد و(ولي العهد السعودي) محمد بن سلمان على الجرائم كافة، الظاهرة والباطنة، التي ارتكبوها بحق أبناء شعبنا».
وقالت الصحيفة الأميركية إنه كان للاغتيالات أثرٌ سلبي على المساجد في ربوع عدن؛ إذ أغلق البعض أفواههم. وتوقف بعض رجال الدين عن إمامة الناس في صلاة الفجر، وهو الوقت الذي يوفر فيه الظلام غطاءً يتخفى فيه القتلة. وحرص آخرون على تدوير الجدول اليومي لإمامتهم للصلوات؛ لتجنُّب التنبؤ بروتينهم اليومي. وصار كذلك الحراس الشخصيون ظاهرةً شائعة.