مع إلقاء القبض على بافيل دوروف مؤسس تطبيق تليغرام، عاد منح دولة الإمارات للجنسية والإقامة لمن تريده السلطات إلى واجهة الأخبار في ظل تحويها إلى طعم من سلطات أبوظبي للترغيب وسلاح للترهيب.
وألقت السلطات الفرنسية القبض على دوروف، الذي يحمل الجنسيتين الفرنسية والإماراتية، في باريس في 24 أغسطس الماضي بتهمة ارتكاب جرائم إلكترونية، وهو ما ينفيه.
وطالبت أبوظبي على الفور بالإفراج عنه وتوفير خدمات قنصلية “عاجلة” لمواطنها المعتقل الذي منحته الجنسية في عام 2021 بعد أن مكث فيها منذ 2017م وهو العام الذي سحبت فيه الدولة جنسية أكثر من 15 عائلة إماراتية اصلية تعتقل بعض أبنائها بسبب المطالبة بالإصلاح السياسي في الدولة.
وأبرز موقع (uae71) المعارض لم تكن الجنسية الإماراتية تمنح في السابق للأجانب، وكان القانون صارماً لمنح الجنسية من أجل حفظ الهوية الوطنية؛ حيث يشترط أن يكون عربياً، ومكث في الإمارات وخدم لعقود طويلة، ويجبره القانون على التخلي عن جنسيته السابقة.
على عكس ذلك تمنح التعديلات الجديدة (2017-2021) الجنسية “بالتزكية الحكومية وشروطها الأخرى المتعلقة بالاستثمار والموهبة وتحقيق إنجازات داخلية أو خارجية تعترف بها الحكومة”.
وقال ماركو موساد، وهو باحث غير مقيم في مجلس سياسة الشرق الأوسط ومقره واشنطن العاصمة، لموقع المونيتور الأمريكي: “تهدف الإمارات إلى إيصال رسالة إلى العالم مفادها أنها ملتزمة بحماية مواطنيها، بغض النظر عن مكان وجودهم. ويساعد هذا النهج في جذب الأفراد الموهوبين إلى الإمارات لممارسة الأعمال التجارية”.
لكن لا يبدو أن الإنجازات أو الموهبة والاستثمار وحدها من تحدد منح الجنسية، إذ أن قضية “بافيل دوروف” هي الأولى التي تولي أبوظبي اهتماماً كبيراً بأحد المجنسين الجُدد، وذلك لكونه يدير إمبراطورية تشفير المراسلات تليغرام ويديرها من الإمارات.
فإذا كان قانون الجنسية يبرر منحها للأجانب –الذين سيسببون تأثيرا حتميا على الهوية الوطنية- بالاحتفاظ بالموهوبين والخبراء والحاصلين على جوائز وإبقائهم في الإمارات لمساعدتها في طريق التنمية، فالأولى أن يفرج عن المعتقلين المواطنين الذين أسهموا في رفع دعائم الدولة وبنائها منذ التأسيس، وساهموا في أن تصبح الإمارات كما هي عليه اليوم، بدلاً من سحب جنسياتهم وعائلاتهم.
ويعتبر قرار سحب الجنسية من المواطنين الأصليين وعائلاتهم الأداة الأكثر تفضيلاً لسلطات الدولة، حيث سحبت الجنسية من عدة عائلات خلال العقد الماضي مقابل تجنيس مواطنين جدد في جهود لتضييق الأصوات المعارضة والحصول على امتيازات أمنية أو سياسية أو اقتصادية جديدة.
والعديد من المتضررين من هذه الممارسة هم إما المتهمون في محاكمة “الإمارات 84” أو أفراد عائلاتهم، أو من رفض الوشاية بالمواطنين والعمل كجاسوس لصالح جهاز أمن الدولة (المخابرات).
واعتقلت السلطات خلال عقد ونيف عشرات المفكرين، ورجال الأعمال، والمسؤولين السابقين، ومثقفين وخبراء قانونيين وتربويين تتنافس سيرهم الذاتية في توضيح ما قدموه لبناء دولة الإمارات منذ ما قبل التأسيس؛ ومع ذلك جرى اعتقالهم بسبب مطالبتهم بالإصلاحات السياسية.
وانتهت هذه المحاكمة، وهي ثاني أكبر محاكمة سياسية جماعية في تاريخ الإمارات، في يوليو الماضي بالحكم على ما لا يقل عن 43 متهماً بالسجن مدى الحياة بتهم زائفة بعد أن أدينوا في 2013 بتهم مشابهة وسجنوا بين 7 و10 سنوات.
معظم هؤلاء اعتقلوا وأدينوا بسبب تعبيرهم عن آرائهم على الإنترنت، حيث تعتبر الإمارات واحدة من أسوأ الدول في السماح بحرية الرأي والتعبير والنقاش على الانترنت، إذ يجري تجريم أبسط الانتقادات.
وتحتل الدولة مرتبة متدنية للغاية باعتبارها دولة غير حرة في مجال حرية الإنترنت في عام 2024، وفقًا لمنظمة فريدوم هاوس، مما يجعل وجود “دوروف” ودفاعه عن حرية التعبير والإنترنت الليبرالي في الإمارات أمراً شاذاً.
وحسب موقع المونيتور فإن اعتقال دوروف يثير مخاوف بشأن مشاركة الشركة للبيانات مع الحكومات. وباعتباره مدافعاً عن حرية التعبير، رفض دوروف بشكل قاطع مشاركة معلومات المستخدمين والاستخبارات مع الدول، وخاصة روسيا (بلده الأصلي)، وهي السياسة التي دفعته إلى مغادرة وطنه.
وقال ماركو موساد، إن “تطبيق تليغرام أصبح مستودعا للمعلومات الحساسة ذات الصلة بالأمن القومي للعديد من البلدان، وذلك إلى حد كبير بسبب ميزاته”.
ومن بين الميزات التي أصبحت موضع تدقيق من قبل السلطات الفرنسية، قدرتها على استضافة ما يصل إلى 200 ألف عضو في مجموعات، ومشاركة الروابط والملفات الكبيرة دون قيود، مع الحد الأدنى من الإشراف من قبل تليغرام.
وتحافظ شركة تليغرام على مستوى منخفض من الظهور في الإمارات، حيث يُطلب من موظفيها عدم الكشف عن هوياتهم وعدم التواجد على مواقع التواصل الاجتماعي المهنية مثل لينكد إن.
وسبق أن قال “دوروف” إنه لن يمتثل للحكومات إلا عندما يطلب منه القانون ذلك، على الرغم من مقاومة ضغوط موسكو لمشاركة البيانات، ومغادرته لها في 2014م.
وقال موساد “في فرنسا، سيكون هذا بموجب قانون الخدمات الرقمية للاتحاد الأوروبي لعام 2022، الذي يفرض على شركات وسائل التواصل الاجتماعي مشاركة المعلومات الحاسمة. لذلك، من المرجح أنه لن يشارك المعلومات الاستخباراتية مع الإمارات إلا إذا كان القانون يتطلب ذلك صراحة، وحتى في هذه الحالة، فإنه سيفعل ذلك على الحد الأدنى الضروري”.
وقوانين الإمارات تفرض على الشركات مهما كانت تزويدها بأي معلومات يراها جهاز الأمن ضرورية، ويحتوي القانون على مواد فضفاضة للغاية يخول السلطات الحصول على أي معلومات تريدها.
ولا توجد شفافية معلومات في الإمارات لمعرفة من حصلوا على الجنسية، لكن كما أسلفنا فالموهبة ليست المعيار الأساسي لمنح الجنسية للأجانب كما تشير قضية “دوروف”، وهي الحاجة إلى معلومات استخباراتية، فمنح الجنسية والدفاع عن أي من المجنسين مرتبط بما سيحققه من مصالح استراتيجية لأبوظبي.
وفي 2023 وجد إريك برينس، الرئيس التنفيذي السابق لشركة بلاك ووتر، الذي أقام في أبوظبي وعرض خدمات أمنية خاصة على الإمارات، نفسه في موقف مماثل لدوروف. حيث اتهمته محكمة نمساوية وهو شخصية مثيرة للجدل ومؤيد قوي للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بارتكاب جريمة تصدير طائرة رش محاصيل معاد تصنيعها لأغراض عسكرية.
وعلق مصدر أمني مقرب من برنس على ذلك قائلا لموقع المونيتور: “كل هؤلاء الأفراد، هل هم مفيدون للإمارات فقط لأنهم يجلبون المال؟ أعتقد من وجهة نظر أبوظبي أن ذلك ليس كافياً أنها تقول: لماذا لا نستخدمه إما كقناة خلفية أو ربما حتى وكيل، خاصة بالنظر إلى علاقاته مع ترامب وصهره جاريد كوشنر؟”
ولفتت قضية دوروف، التي بدأت تحقيقات رسمية فيها في فرنسا الانتباه إلى الجهود الاستراتيجية التي تبذلها دولة الإمارات لحماية من يحصلون على جنسيتها، ولوحظ بشكل واسع حديث المعلقين السياسيين والأمنيين بأن أبوظبي تريد أن ترسل رسالة للعالم مفادها أنها ملتزمة بحماية مواطنيها، ويبدو أنها حققت هدف العلاقات العامة الذي تريده.
لكن في الوقت ذاته تسلط قضية دوروف الضوء بشكل واسع على قانون الجنسية أمام المواطنين، وأن الاهتمام بأحد المجنسين لا يخضع لمفهوم المواطنة بل بالمصالح المخابراتية والسياسية والعسكرية، كما يسلط الضوء على سحق المواطنة المتساوية وسحب الجنسية من الإماراتيين الذين ولِدَ أجدادهم كابراً عن كابر في أراضي الدولة وفجأة بسبب التعبير عن الرأي أصبحوا معدومي الجنسية.