موقع إخباري يهتم بفضائح و انتهاكات دولة الامارات

تحقيق: حقائق حول عقدين من التطبيع والعلاقات بين الإمارات وإسرائيل

253

تظهر سلسلة من الوقائع والتطورات والتتبع الزمني حقائق حول عقدين من التطبيع والعلاقات الخفية منها والسرية بين النظام الحاكم في دولة الإمارات وإسرائيل بما في ذلك دفع أبوظبي حلفائها لمستنقع عار التطبيع.

ولم تنتظر الإمارات قبول إسرائيل بشروط ومقررات “مبادرة بيروت للسلام” (عام 2002)، لإرساء علاقات وزيارات علنية مع دولة الاحتلال، ناهيك بالعلاقات والاتصالات السرية التي جمعت بين الطرفين قبيل المبادرة وظلت طيّ الكتمان.

وأشارت صحيفة “العربي الجديد” الصادرة من لندن، إلى أنه يمكن رصد أول زيارة رسمية وعلنية لمسؤول إسرائيلي إلى الإمارات منذ العام 2003، عندما شارك الوزير الإسرائيلي مئير شطريت إلى جانب محافظ بنك إسرائيل يوسي كلاين، في مؤتمر صندوق النقد الدولي في الإمارات، لتتبع ذلك مشاركات أخرى علنية وزيارات أكثر كثافة حتى بعد صعود بنيامين نتنياهو إلى الحكم مجدداً في العام 2009.

لكن اللافت بشكل خاص أن وتيرة التعاون والتطبيع بين إسرائيل والإمارات اندفعت بقوة أكثر بعد اندلاع ثورات الربيع العربي ووقوف الإمارات على رأس الثورة المضادة والانقلاب على الثورات العربية ومحاربتها بكل الطرق.

مع ذلك، تنبغي الإشارة مثلاً إلى التحوّل في مواقف الإمارات بشكل متتابع منذ العام 2010 بعد أن تراجعت عن رفض مشاركة رياضيين إسرائيليين في مباريات وأنشطة رياضية دولية وقبلت بمشاركة الرياضية الإسرائيلية شاحر بئير مع وفد رسمي إسرائيلي، وتبع ذلك القبول بمشاركة فريق جودو إسرائيلي وعزف النشيد الوطني الإسرائيلي ورفع العلم الإسرائيلي في دبي.

واتخذت المباريات والنشاطات الدولية غطاء لتبرير قبول مشاركة لاعبين وفرق يمثّلون إسرائيل في الإمارات، بشكل متسارع.

وفي العام 2010 مثلاً، شارك الوزير الإسرائيلي عوزي لانداو في مؤتمر الطاقة المتجددة في أبوظبي. واستمرت الزيارات والتعاون حتى بعد اغتيال القيادي العسكري في “حماس” محمود المبحوح عام 2010 في دبي، بعد أشهر من زيارة لانداو.

تعاون أمني

وفترة ما بعد الثورات العربية شهدت الزخم الأكبر، بموازاة استمرار التعاون الأمني بين تل أبيب وأبوظبي، وإبرام صفقات عسكرية مختلفة، حتى قبل ذلك التاريخ، والتي يعود أول توثيق لها في تقرير للكاتب الإسرائيلي يوسي ميلمان في صحيفة “هآرتس”، إلى 18 سبتمبر/أيلول 2008 بشأن صفقة بمئات ملايين الدولارات بين الإمارات وشركة ATG المسجلة في سويسرا كشركة دولية ويملكها الإسرائيلي ماطي كوخافي، والذي جنّد عشرات من الجنود ورجال الأجهزة الأمنية الإسرائيلية للعمل فيها، من “الموساد” و”الشاباك” والجيش، بينهم سابقاً قائد سلاح الجو الإسرائيلي إيتان بن إلياهو ورئيس مجلس الأمن القومي الأسبق غيورا أيلاند.

ووثّق موقع “ميدل إيست آي” البريطاني في فبراير/شباط 2012 تفاصيل هذه الصفقة، مبيناً أنها شملت أجهزة مراقبة ومجسات ووسائل حماية لمراقبة البنى التحتية لمنشآت النفط في الإمارات. كما أشارت تقارير إسرائيلية أيضاً، نقلاً عن مصادر أجنبية (بحسب عادة الصحف الإسرائيلية لتفادي الرقابة العسكرية) إلى أن الإمارات كانت من بين الدول التي اشترت في العام 2015 منظومات للقبة الحديدية.

وشهدت فترة اندلاع الثورات العربية واصطفاف أبوظبي ضدها، غزلاً إسرائيلياً-إماراتياً علنياً تحت مسميات المصالح المشتركة ومواجهة الأخطار التي تهدد الطرفين، وعلى رأسها إيران في الشرق و”الإخوان المسلمون” وتنظيم “داعش”.

وعلى صعيد الزيارات والعلاقات الدبلوماسية، شهدت هذه السنوات أيضاً افتتاح مقر للبعثة الدبلوماسية الإسرائيلية في دبي عام 2015، ادعت الإمارات أنه ضمن مقر الوكالة الدولية للطاقة المتجددة.

كما شهدت زيارات متكررة أيضاً لوزير الطاقة يوفال شطاينتس، عام 2016، وأخرى لوزيرة الثقافة والرياضة الإسرائيلية، ميريت ريغيف، التي دعيت أيضاً لزيارة مسجد بن زايد في العام 2018، وزيارة وزير الخارجية يسرائيل كاتس في يونيو/حزيران 2019، ووزير الاتصالات أيوب قرا.

نشاط دبلوماسي علني

وعلى امتداد السنوات الأربع الأخيرة، كانت العاصمة الأميركية واشنطن مركزاً لتعزيز العلاقات بين إسرائيل والإمارات من خلال اللقاءات التي جمعت سفير الإمارات لدى واشنطن يوسف العتيبة، والسفير الإسرائيلي السابق رون ديرمر.

كما أن العتيبة لم يتردد في لقاء رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، في مطعم أميركي عام 2018، وإن تم إخراج الأمر على أنه حصل بطريق الصدفة، إذ قام العتيبة والسفير البحريني عبدالله بن راشد آل خليفة أثناء تواجدهما في مطعم بواشنطن، كان نتنياهو يتناول الطعام فيه مع زوجته، بدعوة الأخير لطاولتهما، وتبادل الحديث معه.

وتم إبراز ذلك في وسائل الإعلام الدولية والعربية المختلفة. وفي يناير/كانون الثاني من العام الحالي، كان العتيبة أحد الحاضرين في حفل إطلاق الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلى جانب نتنياهو، خطة “صفقة القرن” (الخطة الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية).

وعلى مدار الأشهر الأخيرة، تبادلت إسرائيل والإمارات سلسلة من التصريحات لمسؤولين رفيعي المستوى بمن فيهم نتنياهو حول آفاق التعاون المشترك، الحالية والمرتقبة لاحقاً.

وفي مارس/ آذار الماضي، تفاخر نتنياهو بأن جهاز الاستخبارات “الموساد” تمكّن من جلب أكثر من مائة ألف وحدة فحص للكشف عن فيروس كورونا من دول عربية لا تربطها علاقات رسمية بتل أبيب، لكن الصحف الإسرائيلية لمّحت في حينه إلى أن الحديث يدور عن الإمارات.

كما أكد الموقع لصحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية مطلع يوليو/تموز 2020 أن تلك المعدات جُلبت من الإمارات.

وبلغت مظاهر التطبيع أوجها في شهري مايو/أيار ويونيو/حزيران الماضيين، من خلال إرسال أبوظبي طائرة من الطيران الإماراتي الرسمي إلى مطار بن غوريون مباشرة بحجة نقل مساعدات طبية للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، لمواجهة جائحة كورونا. ورفض الفلسطينيون استقبال المساعدات كي لا تكون غطاء للتطبيع مع الاحتلال.

وتكرر إرسال الطائرة في يونيو، فيما بلغ الأمر ذروته في المقالة التي نشرها السفير الإماراتي يوسف العتيبة في صحيفة “يديعوت أحرونوت” تحت ستار رفض ضم إسرائيل أجزاء من الضفة الغربية، تحت عنوان إما الضم أو التطبيع.

تعاون واتفاقيات

لكن يوم 25 يونيو الماضي، شهد إعلاناً إماراتياً وإسرائيلياً عن اتجاه الطرفين للتعاون في مجال العلوم ومواجهة كورونا.

وهو إعلان صدر بداية عن نتنياهو، حول إعلان مرتقب لوزيري الصحة في الإمارات وإسرائيل بخصوص التعاون لمواجهة كورونا. وفي الثاني من يوليو/تموز 2020، أعلنت شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية، توقيع اتفاق تعاون وصفته بـ”التاريخي” مع “مجموعة 42” الإماراتية، في مجال مكافحة فيروس كورونا.

ووفقاً لبيان الشركة الإسرائيلية وما نقلته هيئة الإذاعة العامة “كان”، فقد جرى توقيع الاتفاق خلال محادثة بتقنية “فيديو كونفرنس” مع الشركة الإماراتية عبر قسم “أنظمة التا” في شركة الصناعات الجوية الإسرائيلية.

هذا التحوّل في العلاقات لا يمكن فصله عن التغييرات في الإمارات من جهة، وفي الرؤية الإسرائيلية لدول الخليج خلال العقد الأخير، من جهة أخرى. وحتى اندلاع ثورات الربيع العربي، كانت النظرة الإسرائيلية التقليدية لدول الخليج تنطلق من كونها تشكّل منظومة واحدة، لها موقف موحّد من مجمل القضايا المتعلقة بسياسة هذه الدول العربية والخليجية والإقليمية مع إعطاء ثقل خاص للسعودية باعتبارها أكبر هذه الدول وذات مكانة خاصة في العالم العربي كما في الاستراتيجية الأميركية، يكفي أن تتخذ موقفاً ما حتى تتبعها بقية الدول، أو أن تعطي ضوءاً أخضر حتى تسارع دول الخليج الأخرى لترجمة هذا الضوء إلى سياسات على الأرض.

وبنت إسرائيل منذ أكثر من ثلاثين عاماً، آمالاً على قبول دول الخليج بإسرائيل ضمن صفقة سلام إقليمية، مع إدراكها أن أي تقدّم في العلاقات مع الخليج سيكون مرهوناً بحل للقضية الفلسطينية، ووضعت إسرائيل له سيناريوهات لم تخلُ من العنصرية والاستعلاء، منذ وضع شمعون بيريز عام 1992، خلال التنافس على زعامة حزب “العمل” بمواجهة إسحق رابين، معادلته العنصرية “العقل الإسرائيلي والمال الخليجي والعمالة العربية الرخيصة”، التي يمكنها مجتمعة أن تنتج ما سماه بيريز الشرق الأوسط الجديد.

لكن ثورات الربيع العربي التي فاجأت إسرائيل أيضاً، أدخلت دولة الاحتلال في حالة صدمة وترقب متوتر بانتظار وضوح اتجاه الريح، وكيف سترد الدول العربية في الدائرة الثانية على موجات هذا الربيع والثورات التي من شأنها أن تغيّر البيئة المجاورة لإسرائيل. ومع بدء الفرز في ردود الأنظمة على ثورات الربيع العربي، لا سيما في تونس ومصر، برز دور الإمارات إلى جانب السعودية على رأس محور الثورة المضادة.

ولكن فيما فضّلت السعودية البقاء في مربع السياسات التقليدية تجاه إسرائيل، مكتفية برسائل سرية ووراء الكواليس، عدا عن زيارة الجنرال السعودي أنور العشقي إلى إسرائيل ولقاءات وحوارات الأمير بندر بن سلطان مع مسؤولين إسرائيليين، فإن إقدام الإمارات على رفع راية الحرب ضد الثورة في مصر وتونس، تحت شعار محاربة “الإخوان المسلمين”، رشح أبوظبي لتكون عنواناً لإسرائيل لتبادل الرسائل المباشرة، وغير المباشرة، الموجّهة عبرها إلى دول خليجية أخرى.

وعزز الموقف الإماراتي المعارض لحركة “حماس” والمهاجم لها، كما لـ”حزب الله” في لبنان، الأهمية التي بدأت دولة الاحتلال توليها لأبوظبي، باعتبارها تمثل إضافة “نوعية” جديدة تمكّن دولة الاحتلال من الحديث عن “محور سنّي معتدل” وعدم قصر ذلك على الأردن ومصر اللتين ترتبطان معها باتفاقيات سلام رسمية.

ومع أن الإمارات ترتبط بعلاقات جيدة مع إيران، إلا أن مجرد استعدادها، كما السعودية، لتبني موقف الاحتلال الإسرائيلي، ولا سيما تحت قيادة نتنياهو، حول ما يسمى “الخطر الإيراني المشترك، ومحاربة الإرهاب الإسلامي والتطرف الإسلامي، وحركة الإخوان المسلمين”، زاد من هذه الأهمية، لا سيما أنه اعتُبر موقفاً يعبّر عن السعودية أيضاً.

وشكّل مضي الإمارات في هذا الخط، بالتزامن مع صعود نجم ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، كقائدين مستقبليين، مؤشراً مريحاً ومطمئناً لإسرائيل بإمكانية الركون إلى التعاون الإماراتي خارج هذا المربع.

وبالفعل، انخرطت الإمارات أيضاً في سياسات معارضة لتركيا تحت قيادة رجب طيب أردوغان، اعتبرتها إسرائيل مدماكاً إضافياً يعزز العلاقات مع الإمارات، لا سيما بعد مشاركة طيارين من سلاح الجو الإماراتي في العامين الأخيرين، في مناورات عسكرية مشتركة إلى جانب ضباط وطيارين من إسرائيل، وتحديداً في المناورات العسكرية الأميركية المتعددة الجنسيات، المعروفة باسم العلم الأحمر، ومرة أخرى في العام الماضي في مناورات مشابهة مع سلاح الجو اليوناني وبمشاركة طيارين إسرائيليين أيضاً.

لكن أبرز أسباب هذا الإقبال الإسرائيلي على الغزل الإماراتي، يبقى نابعاً من تبنّي واعتقاد قيادة الإمارات الحالية والثنائي بن زايد وبن سلمان، بأن خدمة مصالح دولتيهما والحفاظ على النظام فيهما يبدآن وينتهيان في واشنطن، لكنهما يمران بالضرورة بالرضا الإسرائيلي، وهو ما يفسر بدوره النشاط التطبيعي و”التقريبي” (من تقريب) الذي يلعبه السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة، مع نظيره البحريني عبدالله بن راشد آل خليفة، والسفير الإسرائيلي السابق رون ديرمر، وهو نشاط توج بلقاء العتيبة وبن راشد مع نتنياهو في مطعم في العام الماضي، ومشاركتهما في “حفل” إعلان خطة ترامب-نتنياهو لتصفية القضية الفلسطينية، والترويج للخطة والموقف الإسرائيلي بتسوية لا تتجاوز حكماً ذاتياً موسع الصلاحيات للفلسطينيين.

دفع الحلفاء للتطبيع

تتورط الإمارات كذلك بمدّ خطوط تواصل مباشرة أو غير مباشرة بين حكام ومسؤولين عرب معروف أنهم تابعون للإمارات في القرار السياسي العام من جهة، وبين إسرائيل من جهة ثانية.

ففي فترة قصيرة زمنياً، أذيعت تفاصيل لقاء رئيس مجلس السيادة في السودان (الحاكم الفعلي منذ إطاحة عمر البشير العام الماضي) عبد الفتاح البرهان ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، في فبراير/شباط الماضي، في أوغندا، وفتحت الأجواء السودانية أمام طائرات إسرائيل.

حصل ذلك بترتيب إماراتي، وفق ما كشفته وكالة “أسوشييتد برس” الأميركية، من دون صدور أي نفي من أبوظبي أو من الخرطوم أو من تل أبيب، وذلك بعد أشهر من تمهيد تولته وزيرة الخارجية السودانية السابقة، أسماء عبد الله، عبر إعلانها انفتاح الخرطوم على العلاقات مع إسرائيل “في التوقيت المناسب” على حد تعبيرها في حينه.

كذلك لم تنقطع التصريحات العلنية عن استعداد اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر ومساعديه للتعاون مع تل أبيب وطلب مساعدتها.

وصارت رائجة مواقف مسؤولي المجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن، خصوصاً هاني بن بريك، المقيم في أبوظبي معظم الوقت، حول عدم وجود مشكلة بينهم وبين دولة الاحتلال.

المشترك بين الحالات الثلاث المذكورة أعلاه، هو طبعاً الوجود الضمني أو الصريح للإمارات، بما أنه ليس سراً أن كلا من المكون العسكري في السودان، وتحديداً البرهان، وخليفة حفتر في ليبيا ومساعديه، ومسؤولي المجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن، من عيدروس الزبيدي وهاني وأحمد بن بريك وغيرهم، تربطهم بأبوظبي علاقات يتراوح وصفها بين التحالف الوطيد والتبعية الكاملة.

لا مجال للاستعانة بالصدفة إذاً في تفسير ظاهرة تسابق أطراف عربية ثلاثة محسوبة على النفوذ الإماراتي في المنطقة، على إنشاء علاقات مع إسرائيل، أو على الأقل للتمهيد نفسياً وسياسياً لإعلان انطلاق قطار التطبيع العلني لتلك العلاقات.

وربما يعتبر حكام أبوظبي، الإمارة والعاصمة، أن قدرتهم على توسيع رقعة التطبيع العربي مع تل أبيب، هي أحد نقاط قوتهم في عيون مسؤولي الإدارتين الإسرائيلية والأميركية، وأنه لا بد من أن تُترجم نتيجة جهودهم تلك، على شكل حصص نفوذ تتغاضى بموجبها واشنطن خصوصاً، والغرب عموماً، عن أدوار إقليمية تؤديها الإمارات، أكان في اليمن أو ليبيا أو السودان وسورية وفي منطقة الخليج نفسه، في إطار طموحاتها لتكون دولة إقليمية أساسية تحظى بدعم أميركي كبير، بغض النظر عن هوية ساكن البيت الأبيض، أكان ديمقراطياً أم جمهورياً، بعد التجربة المريرة التي عاشها محور السعودية ــ الإمارات خصوصاً مع كل من باراك أوباما (حيال إيران خصوصاً) ودونالد ترامب، الذي كان ولا يزال يرهن دعم حلفائه في الخليج بابتزاز مالي علني. بالتالي، ربما تكون الخدمات الكبيرة التي تقدمها الإمارات لجهة توسيع رقعة التطبيع العربي مع إسرائيل، والتخلص من عبء ما تبقى من مقاومة جهود تصفية القضية الفلسطينية، حلاً مهماً بالنسبة لحكام الإمارات للخروج من وطأة ذلك الابتزاز الدائم والمهين الذي يربط الدعم الأميركي بصفقات بالمليارات فقط، على أمل أن تصبح أبوظبي بالنسبة لواشنطن ولتل أبيب، حاجةً حقيقية في المنطقة، وحليفاً متمكناً، لا مجرد دفتر شيكات.

من هنا، يمكن لأي عمل يحاول تتبع جذور تلك العلاقات أن يلاحق سؤالاً مركزياً: هل إن نسجَ الإمارات علاقات بين وكلائها/حلفائها/أتباعها في البلدان العربية من جهة، وإسرائيل من ناحية ثانية، هو دور تطوّعت هذه الدولة الخليجية لتأديته من تلقاء نفسها؟ هل هو ترجمة لـ”النظرية” التي تروجها هذه العاصمة عن أن الحل السحري للمشاكل الداخلية للبلدان العربية، من فقر وبطالة وأزمات أمنية وسياسية، يكمن في الانفتاح على إسرائيل لكسب رضا شاغل البيت الأبيض، خصوصاً في ظل رئاسة دونالد ترامب، وذلك لكي يحسم كل مسؤول سياسي النزاع الداخلي في بلده لمصلحته؟ أم أنه بمثابة تكليف مطلوب منها تلبيته في إطار الحلف الذي تسعى واشنطن وتل أبيب إلى إرسائه ضد إيران خصوصاً، ليشمل إسرائيل وعواصم ما يسميه كل من المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين “محور الاعتدال العربي”؟ أم أن الأمر يتعلق بتطوّع إماراتي لأداء هذا الدور، وبتكليف معاً؟ فوفق هذه الفرضية، ربما يكون الدور الذي تطمح أبوظبي إلى تأديته في المنطقة عبر تصوير نفسها كرائدة “السلام” و”الإصلاح الديني” و”الانفتاح” و”الاعتدال” ونقيض لـ”اللغة الخشبية” الخاصة بفلسطين، و”التعايش” بين سكان المنطقة (طبعاً تُستثنى دول مثل تركيا وقطر وأحياناً إيران من هذا التعايش الذي تنادي به الإمارات)، ربما يكون متكاملاً مع رغبة أميركية وإسرائيلية لجهة توسيع رقعة التطبيع العربي الحكومي والشعبي مع إسرائيل، لا بل التحالف معها بعدما تم إيجاد العدو البديل: إيران.

لكن يبقى الأساس، هو العلاقات بين إسرائيل والإمارات، فهي المنطلق لتصدير التطبيع أو التحالف أو الصداقات المستجدة إلى بلدان عربية أخرى لم يكن العقل الصهيوني يحلم بنسجها، السودان وليبيا واليمن في الحالة الراهنة.

والعلاقات مع الإمارات حققت لإسرائيل ما لم تحققه ربما أربعة عقود من السلام مع مصر منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وعقدان ونصف العقد مع الأردن منذ وادي عربة، تحديداً لجهة جعل التطبيع مع الاحتلال وكأنه أمر عادي، طبيعي، وهو ما ترافقه أجواء تحريض وعداء حدّته غير مسبوقة في بعض الإعلام العربي التقليدي والحديث وفي مواقع التواصل الاجتماعي، ضد الفلسطينيين وقضيتهم وتصويرهم بشكل نمطي مسيء وكاذب على كل حال، وتبني آلاف الحسابات الحقيقية أو الوهمية سرديات صهيونية حول مسؤولية الفلسطينيين عن نكبتهم، جرياً على مقولة تكررها أبواق إعلامية موالية للسعودية وللإمارات، وحرفيتها أنه “لولا وجود المقاومة، لما كانت هناك إسرائيل”، وهو ما يمكن تطويره وفق الفرضية المريضة تلك للقول إنه لولا وجود الفلسطينيين، لما كانت هناك مشكلة ولا قضية فلسطينية أصلاً.

إذاً، العلاقات الإسرائيلية ــ الإماراتية كانت ولا تزال الأساس لمد جسور التواصل بين تل أبيب وعرب آخرين، في السودان وليبيا واليمن في الفترة الحالية.

وقد قامت تلك العلاقات، منذ عام 2003، على محددات ثلاثة: استراتيجية أميركية هدفها إيجاد عدو جديد للعرب هو إيران بدل إسرائيل. ورغبة حكام الإمارات في جعل بلدهم حليفاً ثابتاً لأميركا في المنطقة، لا بل وكيلاً، لا تتغير مكانته بتغير السياسات الأميركية الخارجية بين ديمقراطيين وجمهوريين.

وأخيراً إنشاء تحالف مصالح لكل من يرفض موجات التغيير الديمقراطي المحتملة في المنطقة العربية، إن لم تعلن سلفاً، رغبتها في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، أو على الأقل عدم ممانعتها في فعل ذلك.

بناءً على هذه المحددات الثلاثة، تطورت العلاقات الإسرائيلية الإماراتية بسرعة قياسية لتشمل قطاعات أمنية وسياسية واقتصادية وصحية (كورونا) ورياضية ودينية حتى، لا ينقصها سوى فتح سفارات واعتراف إماراتي بعلاقات دبلوماسية “رسمية” مع تل أبيب، وقد وصلت تلك العلاقات اليوم إلى مستوى قول السفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، في مقال نشره بتاريخ 12 يونيو/حزيران الماضي في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، إن “إسرائيل فرصة وليست عدواً” بالنسبة لبلده.

هي “فرصة” تفسر ربما اعتبار أبوظبي كل حركة تحارب إسرائيل أو تعلن نيتها مقاومتها، “إرهابية”، على قاعدة أن أعداء إسرائيل هم أنفسهم أعداء الإمارات، في الكثير من الأحيان على الأقل.

لكن كل ذلك لم يمنع استمرار العلاقات الإماراتية ــ الإيرانية، خصوصاً اقتصادياً، إذ ظلت الإمارات الشريك التجاري الأكبر لإيران من بين جميع دول مجلس التعاون الخليجي الست.

وحتى في ظل التوتر الأمني الكبير الذي شهدته منطقة الخليج صيف العام الماضي، ومطلع السنة الحالية، سُجلت زيارات إماراتية رفيعة المستوى إلى طهران، حيث تم توقيع اتفاقيات أمنية مشتركة في ما وصف في حينها إعلامياً ببوادر مصالحة إماراتية ــ إيرانية. كل ذلك من دون الحديث عن مفارقة تولي الإمارات التسويق عربياً لإعادة تعويم نظام بشار الأسد بما يرمز إليه من أحد أركان الأذرع الإيرانية في المنطقة، وإعادة افتتاح سفارتها في دمشق، وجرّ عواصم أخرى إلى حذو حذوها.

ولا يمكن فصل تسارع وتيرة نسج الإمارات علاقات بين حلفائها/ وكلائها/أتباعها، وبين دولة الاحتلال، عن خطة دونالد ترامب – وبنيامين نتنياهو لتصفية القضية الفلسطينية والتي تقوم في جزء أساسي منها على تطبيع العلاقات بين أكبر عدد ممكن من الدول العربية ودولة الاحتلال، بما يشكل ضغطاً إضافياً على الفلسطينيين يساهم في محاولة إجبارهم على التنازل عن حقوقهم والقضاء رسمياً على قضايا الحل النهائي.

أصلاً، كانت المباركة الإماراتية لخطة ترامب ــ نتنياهو علنية، تُرجمت بحضور يوسف العتيبة إياه، المؤتمر الصحافي لترامب ولنتنياهو في واشنطن نهاية يناير/كانون الثاني الماضي لإعلان خطتهما المشتركة التي تسمى زوراً “صفقة” تحتاج إلى طرفين في العادة، وهو ما لا يتوفر في خطة إملاءات ترامب ونتنياهو.

وتحضر السياسة الأميركية كعامل رئيسي موثر ودائم في العلاقات بين دول عربية (بما في ذلك الإمارات) وإسرائيل، إذ إن أحد أسباب التحول في العلاقات بين الطرفين يعود إلى الاعتقاد الذي ساد لدى حكام أبوظبي في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بوجود توجه لإعادة صياغة العلاقة بين أميركا ودول الخليج من جهة، وبين أميركا وإيران من جهة ثانية.

وتعززت المخاوف الخليجية (السعودية – الإماراتية خصوصاً) على نحو واضح بعد الموقف الأميركي من الانتفاضات العربية، والذي فُسر ضمناً على أنه تخل عن حلفاء رئيسيين في المنطقة (حسني مبارك في مصر نموذجاً) والمفاوضات التي جرت مع إيران ومهدت لتوقيع الاتفاق النووي في صيف 2015، والذي انفردت الإمارات والسعودية وإسرائيل، برفضه بشدة.

وتشير ورقة منشورة على موقع مؤسسة كونراد أديناور (كاس) في إبريل/نيسان 2020 بعنوان العلاقات الخليجية مع إسرائيل وخطة ترامب للسلام، للزميل الباحث ومدير البرنامج محمد ياغي، إلى أن ثلاثة أسباب تفسر موقف دول الخليج من إسرائيل في الفترة السابقة لعام 2011: أولها أنه “حتى انتخاب الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عام 2008، كان هناك حشد عسكري أميركي في دول الخليج أدى إلى إنشاء 18 قاعدة عسكرية في الدول الست لمجلس التعاون… إلى جانب العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران بعد الكشف عن برنامجها النووي عام 2002.

وقد خلقت القواعد العسكرية إحساساً بالأمن في دول الخليج، مما يعني أنها لم تكن بحاجة إلى القيام بمبادرات تجاه إسرائيل”.

وثاني الأسباب أنه “على الرغم من تهديد العديد من رؤساء الوزراء الإسرائيليين مراراً وتكراراً بضرب المنشآت النووية الإيرانية، إلا أنهم لم يتلقوا ضوءاً أخضر أميركياً، كما لم يوافق كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين في إسرائيل على مثل هذه الضربة.

وإدراكاً لهذه القيود، لم تعتقد دول الخليج أن إسرائيل يمكن أن تضيف الكثير نوعياً إلى أمن هذه الدول”. وأخيراً يقول الكاتب إن مجموعة من الأسباب الجيوسياسية والوطنية والثقافية منعت دول الخليج من إقامة علاقات مع إسرائيل.

وبحسب الورقة، فإن “هذه القيود، التي منعت دول الخليج من تطبيع العلاقات مع إسرائيل، لم تتغير. لكن جاء التحول من مكان آخر: فما تغيّر، واستفز بعض دول الخليج لتطوير علاقاتها مع إسرائيل كان التحوّل في السياسة الأميركية تجاه الشرق خلال فترتي حكم أوباما” (2008-2016).

أولاً “اعتقدت بعض دول الخليج، لا سيما الإمارات، وفي ما بعد السعودية، أنه خلال الانتفاضات العربية عام 2011، لم تمانع إدارة أوباما في استبدال الولايات المتحدة حلفاءها التقليديين بأنظمة جديدة، حتى لو تبنّت هذه الأنظمة أيديولوجية الإخوان المسلمين”.

أما العامل الثاني فلخصه الباحث بأن “حكّام دول الخليج اكتشفوا أن إدارة أوباما كانت تجري سراً مفاوضات مع إيران حول برنامجها النووي من دون إبلاغهم، في ملعبهم الخلفي، في سلطنة عُمان. شعروا بالخيانة والإهانة”.

وأخيراً، والكلام للباحث نفسه، “اعتقدت دول الخليج أن الولايات المتحدة كانت تخطط لانسحاب عسكري من المنطقة، لا سيما أنه في ذلك الحين، باتت أقل اعتماداً على نفط دول الخليج. علاوة على ذلك، كانوا مقتنعين بأن الولايات المتحدة كانت تخطط لترتيب أمني جديد لمنطقة الخليج يشمل إيران”.

وترافقت هذه المخاوف لدى الرياض وأبوظبي مع تحولات على صعيد القيادة في البلدين: في السعودية تولى الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم، وبدأ عملية تجهيز نجله محمد لتولي القيادة في 2015.

في موازاة ذلك، كان ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، يقود مهمة توسيع الدور الإماراتي في المنطقة لتشمل تدخلات سياسية وعسكرية مباشرة وأخرى من خلف الكواليس في أكثر من دولة عربية، دعماً لتمرد المجلس الانتقالي الجنوبي الذي تأسس برعاية ودعم إماراتيين في مايو/أيار من ذلك العام، ورعاية مطلقة للواء المتقاعد خليفة حفتر ودعم محاولته إسقاط المدن الليبية، بما في ذلك العاصمة طرابلس.

وفي السياق، يشير الباحث المتخصص في شؤون الشرق الأوسط في معهد بايكر للسياسة العامة في جامعة رايس في تكساس، كريستيان كوتس أولريشسن، في حوار أجراه معه مدير تحرير في مركز كارنيغي للشرق الأوسط مايكل يونغ بعنوان: الإمارات “تحمّل نفسها أكثر من طاقتها” منشور في 1 يوليو/تموز 2020 إلى أن جذور صعود الإمارات كلاعبٍ أساسي في الشؤون الإقليمية وحتى الدولية تعود إلى ما قبل اندلاع الربيع العربي.

فقد بدأ هذا الدور يتبلور في مرحلة التسعينيات (من القرن العشرين) والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وأحد أسباب ذلك هو التحوّل على مستوى الجيل الذي يتولى زمام القيادة، إذا أصبح محمد بن راشد آل مكتوم في دبي ومحمد بن زايد آل نهيان في أبوظبي أكثر بروزاً في مجال صنع القرار، بعد وفاة والديهما في عامَي 1990 و2004 على التوالي.

ويوضح أن ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد، عمد “في إطار مقاربته للاضطرابات التي شهدتها المنطقة في عام 2011، إلى إعادة ترتيب العلاقات الإماراتية مع السعودية، بعدما كانت مصدراً مستمراً للتشنجات في العقد الأول من القرن الحالي. وتولّى زمام المبادرة في محاولة احتواء وردع التهديد الذي اعتبر أن الإسلاميين والتيارات المناهضة يشكلونه على الاستقرار الإقليمي.

لكنه يجيب رداً على سؤال حول ما هي عوامل الخطر التي تترتب على اتّباع الإمارات سياسة ناشطة في مختلف أنحاء المنطقة، بأنه تخطر في البال على الفور عوامل خطر عدة، أحدها أن الإمارات خلقت لنفسها أعداء في مختلف أنحاء المنطقة، وهؤلاء قد يكونون لها بالمرصاد يوماً ما، خصوصاً إذا مُنيت المناورات على النفوذ بالفشل، كما حصل في ليبيا أخيراً، ويُرجَّح أن يحدث أيضاً في اليمن.

قد يؤدّي التدخل التركي واسع النطاق في ليبيا إلى تورّط الإمارات على نحوٍ أكبر في نزاع يتعذّر على الأرجح الانتصار فيه، ومن الممكن أن يتحوّل إلى مصدر استنزاف كبير لمواردها. العامل الثاني هو “أنه بعدما ركّزت الإمارات كثيراً على إظهار قطر بأنها تتدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى وتُهدّد الاستقرار الإقليمي، تجد نفسها الآن معرّضة بقوة للتهمة نفسها، والأدلة وافية على ذلك”.

في ظل هذه الأجواء، تسلم دونالد ترامب الحكم في يناير/كانون الثاني في 2017، وتبنّى سياسات أكثر تشدداً تجاه إيران (مصدر القلق الرئيسي لدول الخليج العربية)، ونسجت الإمارات علاقات قوية مع إدارته، بحسب ما كشفته التسريبات الخاصة ببريد السفير الإماراتي في الولايات المتحدة يوسف العتيبة، بما في ذلك وعد مستشاري ترامب للسفير بأنهم سيضعون مصالح دولته في قلب سياسة الإدارة الأميركية الجديدة المتعلقة بالشرق الأوسط، وأن العلاقة بين الإماراتيين والدائرة المقربة من ترامب قد نسجت في وقت أبكر مما كان يعتقد، وهو ما تبين أنه تم بالفعل في ما يتعلق بأكثر من ملف.

إلا أن ذلك كله لم يكن كافياً لطمأنة دول خليجية، بعد اعتماد ترامب مقاربات متقلبة على نحو سريع، واعتماده على مبدأ الابتزاز في إدارة العلاقات الأميركية مع الدول، بغض النظر عن حجم المصالح التي تجمع واشنطن بأي منها.

وهو ما جعل الإمارات خصوصاً تعتقد أن التحالف مع إسرائيل هو الخيار الأنسب، لأن ذلك وفق منظورها قادر على حمايتها، وفي نفس الوقت ضمان استمرار التأثير داخل واشنطن، خصوصاً بعدما أغرقت نفسها في أكثر من دولة عربية وبات نفوذها مهدداً بالتراجع أكثر من أي وقت مضى. وعمدت إلى الاستثمار بعلاقاتها القديمة والحديثة مع شخصيات إسرائيلية من “الصف الأول”، فصارت أخبار لقاء يوسف العتيبة مع بنيامين نتنياهو في واشنطن، وتغريدات وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد عن “التحالف الإسرائيلي الإماراتي”، أخباراً “عادية”، لتنتقل تدريجياً من العلاقات السرية إلى العلنية، إلى جانب تبرع الإمارات بتأدية دور ربط حلفائها ووكلائها في المنطقة، مع دولة الاحتلال.