موقع إخباري يهتم بفضائح و انتهاكات دولة الامارات

عن قمع الإمارات الممنهج للمعارضة ب”السلطوية الرقمية”

386

أدى إشعال البائع المُتجوِّل النار في نفسه في تونس في ديسمبر/كانون الأول عام 2010، إلى كسر حاجز الخوف بالنسبة للعرب، الذين أُسكِتُوا وأُرهِبوا طويلاً على يد الزعماء المُستبدِّين السُلطويين في كافة أرجاء المنطقة.

وأثارت طريقة محمد البوعزيزي اليائسة في الاحتجاج موجةً من النشاط في المجتمع المدني والعصيان والاحتجاج والثورة التي أدَّت بنهاية المطاف إلى الإطاحة بعددٍ من أقوى الزعماء السُلطويين الأكثر قوةً في المنطقة. وبعد ثماني سنوات، تمنحك النظرة إلى الوضع الاجتماعي السياسي في المنطقة المزيد من أسباب القلق وليس التفاؤل.

إذ أُخرِسَت الأصوات المُطالبة بالتغيير في سوريا وليبيا واليمن بفعل أهوال الحرب الأهلية، أما المُعارضون المصريون والبحرينيون فتعرضوا للقمع على يد القوات الرجعية، ولم تنج سوى تونس بنجاحٍ محدودٍ بعد أن حقَّقت بعض التحرُّر الاجتماعي السياسي من السلطوية.

يقول الباحث والأكاديمي البريطاني أندرياس كريج، في مقالته بموقع Middle East Eye البريطاني، إنه وفي الوقت ذاته، ظهرت قوتان مناهضتان للربيع العربي، في الخليج: الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، تحت قيادة وليي العهد الطموحين محمد بن زايد ومحمد بن سلمان -على التوالي- وهما الرجلان اللذان قرَّرا ترسيخ أقدام السلطوية في العالم العربي رداً على انتشار فكرة التحرَّر الاجتماعي السياسي.

وانطلاقاً من الرهاب الذي يشعرون به تُجاه نشاط المجتمع المدني الذي نشر المُعارضة والاحتجاجات في كافة أرجاء المنطقة بين عام 2010 و2011، سعى بن زايد وبن سلمان للثأر من المفهوم المتنازع عليه في المجال العام العربي. ولم تقتصر حملتهما الرامية لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء على دولتيهما فقط، بل كما نرى في حالة بن زايد تحديداً أنَّه استثمر باستفاضةٍ أملاً في إعادة «جِنِّيّ» المجتمع المدني إلى المصباح الذي أتى منه مرةً أخرى في المنطقة.

وفي خِضَم هذه الأوقات التي لا تزال تشهد نشاطاً سياسياً كبيراً، يشن بن زايد وبن سلمان حملةً لإبعاد المجتمع المدني عن السياسة، وهي المساحة اللازمة لمنح الرعية منتدى لمناقشة وربما التصدي للقرارات التي يتَّخِذُها الحاكمون.

وبحسب تعريف الفيلسوف يورغن هابرمان، يخلق المجتمع المدني مجالاً عاماً أشبه بـ”عالمٍ للحياة الاجتماعية يُمكن أن يُشكَّل داخله ما يُشبِه الرأي العام” من الأسفل إلى الأعلى، دون تدخُّلٍ من الدولة.

وفي الأصل، يخلق المجتمع المدني ساحةً سياسيةً غير مُقيَّدةٍ حيث يُمكن للشعب أن ينطق بالحقيقة أمام السلطة، كما حدث في المرحلة الأولى للربيع العربي. وتحوَّل نشاط المجتمع المدني من المعارضة إلى الثورة حين قُوبِلَ الحديث العام عن المظالم ودعاوى التغيير في الوضع السياسي الراهن بقمعٍ عنيف.

ويضيف كريج الباحث المختص بالدراسات الأمنية: خلقت “تكنولوجيا التحرُّر” الخاصة بمواقع التواصل الاجتماعي المحتفى بها مساحةً عامةً عالميةً كانت غير مُقيَّدةٍ، في البداية على الأقل، وشاملةً وتعدُّدية.

واحتُضِنَت أفكار الربيع العربي داخل ذلك المجال العام على الإنترنت، قبل أن تتسرب إلى الشوارع عام 2010.

أما بالنسبة لأبوظبي والرياض، فإن مجرد فكرة وجود مجالٍ عامٍ غير مقيَّدٍ يُمكنه أن يُشكِّك في أي جانبٍ من جوانب الوضع الاجتماعي السياسي الراهن، هي كابوس. وبالنسبة لوليي العهد اللذين سمحا بقدرٍ بسيطٍ للغاية من الحوار العام على الإنترنت وفي الشارع، فإن تلك الفكرة ستُقوِّض الأساس الذي بُنيت عليه الدولتان.

وفي غمرة سرعة الأحداث التي تكشَّفت بين عامي 2010 و2011، دشَّن بن زايد “عملية لتأمين النظام” خارج شبكة الإنترنت بموجةٍ من الاعتقالات السياسية بحق النشطاء والإسلامويين السياسيين عام 2011. ثم حوَّل اهتمامه إلى ليبيا، حيث تحوَّل الدعم العسكري الإماراتي لحملة حلف الناتو العسكرية الرامية للإطاحة بمعمر القذافي إلى محاولةٍ للسيطرة على أضرار العمليات، بضمان عدم ظهور مساحةٍ سياسيةٍ تعدُّديةٍ تسمح للأطراف العلمانية والإسلاموية بالمشاركة في الحكم في البيئة التي ستعقُب الثورة، وهي الاستراتيجية التي تبنَّتها الإمارات في اليمن أيضاً.

وبوصول بن سلمان إلى اللعبة متأخِّراً، أطلق حملته لقمع المجتمع المدني في المملكة عام 2016. وبعد أن فهم دروس مُعلِّمه في أبوظبي، استهدف بن سلمان المُعارضين السياسيين -الذين كان أغلبهم داخل السجن أو في المنفى- وقادة الرأي والنشطاء الذين يُمكن أن يستغلُّوا تأثيرهم في التعبئة ضد النظام. واعتُقِلَت النساء اللاتي مارسن ضغطاً عبر الإنترنت للمطالبة برفع الحظر عن قيادة المرأة للسيارات، رغم أن بن سلمان قرَّر إلغاءه بالفعل. واختفى الدعاة وعلماء الدين الذين تطرَّقوا قليلاً إلى السياسة في خطبهم على الإنترنت، أو انتهى بهم الأمر في السجن. وشكَّل ذلك كله جهوداً راميةً لتأكيد احتكار الدولة للحوار العام.

ولكن يبدو أن السيطرة على الحوار العام صعبةٌ بالنسبة للسعودية التي يمتلك مواطنوها أكثر من 11 مليون حساب على تويتر فقط. ولا تُعَدُّ تراخيص مواقع التواصل الاجتماعي والعقوبات القاسية، للأشخاص الذين يُعبِّرون عن آرائهم المناهضة لسياسة الحكومة، كافيةً داخل السعودية والإمارات.

لذا لجأ بن زايد وبن سلمان إلى التخريب السيبراني لاستعادة السيطرة المفقودة على المجال العام العالمي في الفضاء السيبري.

يقول كريج، لا تعتمد السلطوية 2.0 (عبر الإنترنت) على اللجان الإلكترونية لتضخيم روايات الحكومة والبوت نت لإسكات وجهات النظر البديلة فقط. بل تستثمر أيضاً في رعاية قادة الرأي الذين يُبعدون “السياسة” عن المجتمع المدني على الشبكات الاجتماعية، مثل خالد العامري مُدوِّن الفيديو الإماراتي الذي جذب عشرات الآلاف من المتابعين برسائله الإيجابية عن الحياة العائلية في الإمارات.

وبالإضافة إلى حملتهم الأوسع لطمس الحديث عن السياسة بالتركيز على “الخبز والترفيه”، تأتي رسائل قائدة الرأي دقيقة الصياغة بمفاهيم سياسية أليفة وضحلة في محاولة لترسيخ الحوار العام حول الترفيه وأسلوب الحياة، بعيداً عن المساحة الأكثر نشاطاً من الناحية السياسية.

ولا تقوم تلك الشخصيات المؤثرة غير السياسية بتسويق الأخبار في صورةٍ ترفيهية، بل يُسوِّقون الترفيه في صورةٍ إخبارية. وتستهلك رسائلهم المتقنة التي تُبرِّر قرارات الحكومة وتمتدح “القيادة الحكيمة” مساحاتٍ كبيرةٍ من المجال العام المقموع.

ويُعَدُّ تكييف المجتمع المدني العربي على احتضان روايات الاستقرار السلطوي المُناهضة للثورة بمثابة مشروعٍ زاحف، لكنه مشروعٌ سينجح عن طريق إبعاد السياسة عن الحوار العام بالإكراه والغصب. ولم تُؤدِّ السطلوية 2.0 إلى العمى والخرَّس الذي أصاب المجتمع المدني داخل السعودية والإمارات فقط، بل منحت الزعماء السلطويين في كافة أرجاء المنطقة الشرعية الأخلاقية لمضاعفة قمعهم للنشطاء داخل بلادهم.

ولم يتبق الآن سوى عدد محدود من المناطق التي تضمن قدراً من الحرية المدنية في المنطقة، ولكن السلطويين الرقميين يعتدون عليها بشكلٍ مُتزايدٍ هذه الأيام.