موقع إخباري يهتم بفضائح و انتهاكات دولة الامارات

تحقيق: هكذا دفع محمد بن زايد الإمارات في مستنقع التوترات الإقليمية

383

لا يخلو صراع إقليمي أو مواجهة عسكرية أو سياسية على مدار العشرة أعوام الماضية تقريبا، إلا ويبرز اسم دولة الإمارات فيها حاضرا بقوة مؤامراتها لتعزيز نفوذها.

إذ أن ولي عهد أبو ظبي الحاكم الفعلي لدولة الإمارات محمد بن زايد دفع بالدولة إلى مستنقع التوترات الإقليمية كما لا يحدث لأي دولة أخرى وهو ما يضع أبو ظبي تحت ضغوط سياسية وينذرها بمخاطر غير مسبوقة.

ومنذ تأسيسها عام 1971، ظلت الإمارات العربية المتحدة على الأغلب بعيدةً عن صراعات العالم العربي العديدة. وتحوّلت إلى أعجوبةٍ اقتصادية في المنطقة، وأرض أحلامٍ صحراوية تعُجّ بناطحات السحاب اللامعة، ومراكز التسوّق اللانهائية، والمطارات ذات الأرضيات الرخامية.

لكن وصول محمد بن زايد إلى سُدّة صناعة القرار، غيّر الكثير من هذه الصورة، إذ تحولت الدولة من التركيز على أعمالها الخاصة، لتصبح الدولة الأكثر تدخلًا في العالم العربي.

ومع تدفقات البترودولار تحولت الدولة الصغيرة التي يبلغ عدد سكان إماراتها الـ7 نحو 10 ملايين (منهم نحو مليون نسمة فقط مواطنين أصليين) لتصبح ثالث أكبر مستورد للأسلحة في العالم وجندت المئات من المرتزقة.

يحتاج رجل أبو ظبي القوي في خطته الطموح إلى كل هذه الأسلحة والجنود، ليواصل حربه التي بدأها قبل سنوات، ضد الإسلام السياسي في الإمارات ووفي مصر وليبيا وتونس واليمن وسوريا وحتى في السعودية، الجار والحليف والأخ الأكبر.

حرب استخدم فيها محمد بن زايد كل الأسلحة، من الأموال إلى المدرعات، لكنه لم يحسمها، بل أصبحت حربا مفتوحة، تهدد الدولة بخسائر على كل الجبهات.

هذا التقرير يستعرض أهم ملامح خطة بن زايد ضد الإسلام السياسي، وأسباب العداء، ومدى تأثير ذلك على صورة الإمارات، ومصالحها، ومستقبلها.

من أفغانستان إلى نيويورك: نقطة التحول الكبيرة في سياسات محمد بن زايد

لم يتصور زايد بن نهيان أن نجله محمد وقع طوال فترة تنشئته تحت تأثير الفكر الإسلامي، لكنه سهّل عن غير قصد تلقين الفكر الإسلامي له، حين أوكل تعليمه للقيادي الإخواني المصري عز الدين إبراهيم. وكان زايد يعلم بانتماء إبراهيم للإخوان المسلمون، لكنّه لم يكُن يرى في التنظيم خطراً وقتها.

بلغ محمد بن زايد الـ18 من عمره في عام 1979، والعالم العربي والإسلامي على أعتاب تحولات تاريخية ما زالت تترك بصماتها حتى الآن على العالم:

بدأ غزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان، واندفع الشباب المسلم من كافة أنحاء العالم إلى بيشاور للانضمام للمجاهدين.

وأطاحت التظاهرات الشعبية بشاه إيران، وعاد الخميني إلى وطنه الأم لقيادة الثورة.

ارتبطت تلك الأحداث بفكرةٍ مثيرة بالنسبة للكثيرين؛ وهي أنّ “الدمى الحاكمة المدعومة من الغرب في المنطقة فشلت، وسيُوفّر الإسلام الآن دليلاً إرشادياً من أجل مجتمعٍ أفضل وأكثر أصالة”.

أدرك محمد بن زايد، بعد عودته إلى أبوظبي أوائل الثمانينيات، أنّ أفكاره التي روّج لها الإخوان لم تكُن متوافقةً مع دوره الجديد بوصفه وريثاً للحكم.

وفي الـ11 من سبتمبر/أيلول عام 2001، كان محمد بن زايد في شمالي إسكتلندا يستمتع بآخر صباحٍ من رحلة صيد أرانب -لمدة أسبوع- مع صديقه الملك عبد الله الثاني من الأردن. وودّع صديقه ليصعد على متن طائرةٍ خاصة إلى لندن، ووصل بعد موعد الغداء مباشرة. وقبل أن يُغادر الطائرة، ركض إليه أحد المصريين ضمن حاشيته عبر بوابة الطائرة وهو يصرخ: “نيويورك تحترق!”، بحسب مسؤولٍ كان حاضراً حينها.

وبحلول الوقت الذي حطّت خلاله طائرة محمد بن زايد داخل أبوظبي في ساعةٍ متأخّرة من ذلك اليوم؛ علِم بوجود اثنين من الإماراتيين ضمن الـ19 الذين اختطفوا الطائرات.

ومثّلت هجمات الـ11 من سبتمبر/أيلول لحظةً فارقةً بالنسبة لمحمد بن زايد، إذ كشفت عُمق التهديد الإسلامي وحالة الإنكار التي يعيشها العالم العربي تجاهه.

بعد أيام كان بن زايد يشهد لقاء لوالده مع رئيس عربي، كان ينظر إلى الهجمات بوصفها عملاً داخلياً نفّذته وكالة الاستخبارات المركزية أو الموساد.

وبعد مغادرة ذلك الرئيس، التفت الشيخ زايد إلى نجله محمد وسأله عن رأيه. فقال محمد بن زايد: “أبي، لدينا أدلة”.

وفي ذلك الخريف، ألقت الأجهزة الأمنية الإماراتية القبض على 200 إماراتي ونحو 1,600 أجنبي كانوا يُخطّطون للسفر إلى أفغانستان والانضمام إلى تنظيم القاعدة، ومن بينهم ثلاثة أو أربعة أشخاص تعهّدوا بأن يكونوا من الانتحاريين.

بعد 2011: المطاردة مستمرة للإسلاميين الذين وصلوا للحكم

لم تحاول الإمارات إخفاء مخاوفها من ثورات الربيع العربي، وهي تشاهد خريطة سياسية جديدة تتشكل للمنطقة.

وعلى الفور اعتمد وليّ العهد خطةً طموحا للغاية من أجل المشاركة في إعادة تشكيل مستقبل المنطقة، بالمشاركة مع محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي الشاب الذي يُعتبر محمد بن زايد مُرشده إلى حدٍ كبير.

تعاونا معاً لمساعدة الجيش المصري على التخلّص من الرئيس الإسلامي المنتخب للبلاد عام 2013.

وفي ليبيا عام 2015، دخل محمد بن زايد وسط الحرب الأهلية، مُتحدّياً الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة والدبلوماسيين الأمريكيين.

حارب حركة الشباب الإسلامية في الصومال، مستغلاً موانئ بلاده التجارية ليصير سمساراً للنفوذ في القرن الأفريقي.

وانضم إلى الحرب السعودية في اليمن، للقتال ضد ميليشيا الحوثي المدعومة من إيران.

وفي عام 2017، كسر تقليداً قديماً بتنظيم حظرٍ عدائي ضد جارته الخليجية قطر. وكان يهدف بكل ذلك إلى القضاء على ما رآه تهديداً إسلامياً يلوح في الأفق.

ولا يُميّز محمد بن زايد بين الجماعات الإسلامية، كما يضيف تقرير الصحيفة الأمريكية، إذ يُصِرُّ على أنّها جميعاً تتشارك الهدف نفسه: ألا وهو الوصول إلى نسخةٍ من الخلافة يحلّ فيها القرآن الكريم محل الدستور.

ويبدو مقتنعاً بأنّ خيارات الشرق الأوسط الوحيدة هي اللجوء إلى نظامٍ أكثر قمعيةً أو الوصول إلى كارثةٍ مُحقّقة.

لكن بحلول عام 2012، بات محمد بن زايد قلقاً بشدة حيال المستقبل، وهو يشاهد من نافذته الافتراضية في أقصى الشرق العربي، تطورات غير عادية:

انتفاضات الربيع العربي أطاحت بالعديد من الحكام المستبدين.

الإسلاميون السياسيون صعدوا لملء الفراغ السياسي.

فاز الإخوان المسلمون الحركة الإسلامية التي تأسست عام 1928- وشركاؤهم بالانتخابات في مصر وتونس.

انتشرت الميليشيات الجهادية في ليبيا.

بدأت الثورة ضد بشار الأسد في سوريا تقع في أيدي الميليشيات الإسلامية.

بدأ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) صعوده، ليجتاح الحدود العراقية في أقل من عام، ويسيطر على أراضٍ بمساحة بريطانيا.

وفي الوقت ذاته، راقب محمد بن زايد بفزعٍ الجيوش وهي تحتشد على الجانب الآخر للانقسام الطائفي في المنطقة:

استغلال الميليشيات الشيعية، التي تدين بالولاء للقائد الإيراني الراحل قاسم سليماني الفراغ في أعقاب عام 2011، لنشر نفوذها العقائدي على سوريا والعراق واليمن.

كان الأمر أشبه بوصفةٍ للعنف الذي سيقضي على العالم، خاصةً وأنّ القوى الإقليمية لم تبذل جهداً لإيقافه.

وكان السعوديون متردّدين، يعوّقهم ملكٌ مريضٌ وطاعنٌ في السن في إشارة إلى الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، بتعبير صحيفة The New York Times الأمريكية.

تعاظم الدور الإماراتي تدريجيًا، واعتمدت نهجًا صقوريًا تجاه الأزمة القطرية التي شكلت فرصة جيدة لمحمد بن زايد لإضعاف الدور القطري أو القضاء عليه باعتباره المنافس الأكبر للدور الإماراتي.

وانفرد محمد بن زايد بإدارة المشهد الإقليمي، ومطاردة كل ما ينتسب للإسلام السياسي في كل مكان.

فيما يلي أبرز معاركه مع الإسلام السياسي في العالم العربي.

في الإمارات: المعركة الأولى على “الإصلاح” ووقف مشروع تحفيظ القرآن

تمكن الإخوان المسلمون في الإمارات من المشاركة بوزير واحد، في أول تشكيل حكومي  بعد الاستقلال في 1971، بتعيين سعيد عبد الله سلمان، أحد مؤسسي جمعية الإصلاح، وزيراً للإسكان بترشيح من نائب رئيس الدولة الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم.

وفي عام 1974 وافقت الدولة على إشهار جمعية الإصلاح، المعبرة عن توجهات الإخوان.

ويورد موقع هولندي أن رئيس الدولة في حينها الشيخ زايد آل نهيان دعا الطلبة الإسلاميين بعد فوزهم في الانتخابات، وكان من بينهم سلطان بن كايد القاسمي، أحد أفراد العائلة الحاكمة في إمارة رأس الخيمة، والذي أصبح فيما بعد رئيساً للحركة الإسلامية في الإمارات، قبل أن يعتقل في العام 2012 ويقضي حكما بالسجن حتى الآن.

بقيت العلاقة الودية هي السائدة حتى عقد الثمانينات عندما سعت الإمارات بحسب التقرير إلى إعادة تنظيم أجهزتها الأمنية، مستعينة بضابط الأمن المصري السابق فؤاد علام، الذي يتهمه كثيرون في جماعة الإخوان المسلمين المصرية بممارسة التعذيب بحقهم خلال فترة حكم عبد الناصر.

في 1994 قررت الحكومة بحل مجلس إدارة جمعية الإصلاح، وأسندت الحكومة الإشراف عليها إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، ماعدا فرع رأس الخيمة الذي لم يزل حتى اليوم يحظى باستقلالية تحت حماية وتعاطف حاكمها الشيخ صقر القاسمي، حسب تقرير لمركز المسبار.

ودشّن محمد بن زايد مرحلة جديدة ضد الإسلاميين من خلال خطة عرفت باسم “تجفيف الينابيع” تهدف لعزلهم وحرمانهم من شغل المناصب العليا في مؤسسات الدولة والحد من نشاطاتهم الجماهيرية.

لم يسلم من هذه الخطة أحد من الإسلاميين، بما في ذلك حتى أولئك الذين لم يعرف عنهم الاهتمام بقضايا السياسة مثل جماعة التبليغ، كان من نتائجها إغلاق عدد من الجمعيات الخيرية ومؤسسات المجتمع المدني التي تنشط في الجانب الاجتماعي، بما في ذلك جمعية أبو ظبي الخيرية، ولجنة الإغاثة الإسلامية، وعدد من صناديق الزكاة المحلية، وفقا لتقرير الموقع الهولندي.

وتتابعت الخطوات، حيث صدر في العام 1992 أمر بوقف حلقات تحفيظ القرآن الكريم في المساجد طال مشروعا وطنيا عرف باسم “مشروع الشيخ زايد للقرآن الكريم”، والذي كان أطلق في العام 1982، قبل أن يشهد العام 1994 قرارا أمر بحظر ومصادرة جمعية الإصلاح وعدد من فروعها في مختلف أنحاء الإمارات.

ثم قررت حكومة الإمارات في 2015 حل وتصفية “جمعية الإصلاح” ومصادرة أموالها. قرار في ظاهره ينهي الوجود المادي للجمعية، لكنه كان قرارا سياسيا، يريد أن يمسح “جمعية الإصلاح” من الذاكرة الجمعية للإماراتيين، وينتقم من الحملات الإعلامية التي يقودها مناصرو الجمعية من أوروبا، حيث اختاروا المنفى هناك هربا من ملاحقات الأمن.

من اليمن إلى أوروبا: معارك بن زايد على الإسلاميين خارج الإمارات

كانت الولايات المتحدة تدعم الرئيس المصري حسني مبارك، وغيره من الحكام المستبدين طوال عقود، وتُعامل الإخوان المسلمون بوصفهم مُتشدّدين خطيرين. لكن إدارة ترامب قبلت النتيجة حين فاز محمد مرسي الإخواني بالانتخابات الرئاسية في مصر عام 2012، في حين لم يقبل محمد بن زايد بتلك النتيجة.

وبحلول أوائل عام 2013، دعمت الإمارات حركة تمرد، وهي حركة شعبية انتفضت ضد مرسي. واندلعت تظاهراتٌ ضخمة ضد مرسي في 30 يونيو/حزيران، قبل الإطاحة به من جانب الجيش في الثالث من يوليو/تموز، ليصعد قائد الجيش عبدالفتاح السيسي إلى السلطة.

وتعهّدت الإمارات -وحلفاؤها الخليجيون- بدفع مليارات الدولارات لدعم الحكومة الجديدة. وحافظ المسؤولون الإماراتيون على صمتهم المتحفّظ بشأن دورهم، لكن كافة الدبلوماسيين الذين تحدّثت The New York Times إليهم مقتنعون بأنّ الإمارات تواصلت مع السيسي ووضعت شروط الدعم المالي قبل الإطاحة بمرسي، إذ قال دبلوماسيٌ سابق: هناك العديد من الأسباب التي تُؤكّد أنّه هو من دبّر الانقلاب. وإنّه لإنجازٌ كبير أن تنجح دولةٌ خليجية صغيرة في الإطاحة بحاكم مصر.

ووضعت الإمارات الغنية ثقلها المالي وراء الثورات المضادة وإفشال مشاريع وحركات الإسلام السياسي، إذ بلغ مجموع نفقات الإمارات على مصر 12 مليار دولار بهدف تثبيته في الحكم، وهو ما يوازي المساعدات الإماراتية لمصر منذ عام 1971 حتى عام 2014.

ثم اندلعت ثورة سوريا. كانت الإمارات من الدول السباقة إلى تأكيد وقوفها مع المعارضة السورية منذ بداية ما يُعرف بالثورة السورية على نظام بشار الأسد. لكن هذا الدعم، كما يقول مصطفى العاني الخبير بقضايا الأمن والإرهاب في دبي، لم يصل حدّ مساعدة التنظيمات الجهادية، بل توقف عند حدود تنظيمات معيّنة منها الجيش الحر وفصائل علمانية وأخرى إسلامية معتدلة.

ودخلت الإمارات على خط الثورة السورية، حيث صنّفت 20 فصيلًا سوريًّا في قوائم الإرهاب الإماراتية، ثم عمقت علاقاتها مع فصائل المعارضة المعادية لتيار الإسلام السياسي السوري، والمقربة من وزارة الدفاع الأمريكية، كفصيلي “مغاوير الثورة”، و”الجبهة الجنوبية”، الذي تمكنت الإمارات عبره من تنفيذ عمليات اغتيال لشخصيات سورية.

وبمعاداتها للنظام السوري عبر فصائل معينة، وبمواجهة “تنظيم الدولة” وفصائل الإسلام السياسي مباشرة، أكملت الإمارات صراعها داخل الثورة السورية عن طريق معارضيها المدعومين، والذين أدخلتهم ضمن شبكتها وأهدافها الإقليمية. ووصل الأمر في 2018 إلى حديث عن وجود قوات عسكرية من الإمارات والسعودية في مناطق سيطرة التنظيمات الكردية الانفصالية شمالي شرقي سوريا، كما ذكرت تقارير صحفية تركية، تحت غطاء القوات الأمريكية.

خاضت الإمارات حربها في سوريا ضد أعدائها الواضحين:

الثورات الشعبية.

وما يطلق عليه “الإسلام السياسي”.

في هذه الأثناء فإن أبو ظبي تعتبر التجربة التونسية أكبر مشكلة لها. هذا ما يقوله سياسيون تونسيون علنا في الإعلام الوطني، وهم يتهمون الإمارات باستعداء التجربة الديمقراطية التونسية والسعي إلى مصادرة القرار السيادي من خلال ضخ كثير من الأموال بالساحة ودفع الأمور في اتجاه يشبه ما حدث بمصر.

ارتبط اسم دولة الإمارات بحالة الانتكاس التي شهدتها ثورات الربيع العربي في مصر وليبيا واليمن بالأساس، وسال كثير من الحبر حول أموال طائلة بذلتها في تونس من أجل صد موجة صعود تيار الإسلام السياسي إلى سدة الحكم.

وبعد أشهر قليلة من نجاح انتخابات المجلس التأسيسي، نهاية العام 2011، التي فازت فيها حركة النهضة الإسلامية بالأغلبية، وانتخاب المنصف المرزوقي رئيساً لتونس، بدأت الدولة العميقة بالتعاون مع حلفائها بأبوظبي في إعداد خطة محكمة لإفشال تجربة الانتقال الديمقراطي بتونس.

قطعت الإمارات عن تونس أي شكل من أشكال المعونة بعد أن كانت، قبل عام 2011، ثاني شركائها التجاريين بعد ليبيا، احتجاجا على فوز النهضة.

وظلت سياسة الإقصاء الإماراتية تجاه تونس سارية في عهد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، حتى إن كان وجود النهضة ينحصر في حقيبة وزارية واحدة.

السيناريو الذي رغبت فيه الإمارات، وهو الإطاحة الكاملة بالإخوان المسلمين من السلطة كما حدث في مصر في صيف 2013، لم يتحقق؛ إذ تجنب قائد النهضة تكرار هذا السيناريو في تونس بقبوله التخلي عن رئاسة الحكومة في يناير 2014، متأثرًا إلى حد ما بالأحداث المصرية.

وكشفت وثيقة مسرّبة عن 8 توصيات لتعامل الإمارات مع تونس، تبدأ بـ”تحريك جمعيات ومواقع إعلامية داخل تونس ضد حركة النهضة، بزعم أنها مسؤولة عن وجود أعداد كبيرة من الداعشيات التونسيات”. وتكشف هذه التوصية أن الإمارات تدفع الأموال لبعض وسائل الإعلام في العالم العربي؛ من أجل الخلط بين قوى الإسلام السياسي الديمقراطي وبين تنظيم الدولة الإسلامية.

وفي يناير/ كانون أول 2018، كشفت وثائق مسرّبة عن شبكة تجسس في تونس، يديرها جهاز أمن الدولة الإماراتي، “لشراء ولاءات وذمم عدد من أعضاء البرلمان التونسي وتشغيل بعضهم كعملاء لأبوظبي من أجل تمرير الأجندة الإماراتية المعادية للثورة وللتيار الإسلامي في البلاد”.

لا تتوقف محاولات أبو ظبي لبسط نفوذها ورؤيتها على المشهد التونسي، وكان آخرها التخطيط “لانقلاب” على السلطة في تونس، بالتعاون مع وزير الداخلية السابق لطفي براهم، الذي أقاله رئيس حكومته يوسف الشاهد بعد تقرير لموقع mondafrique عن مقابلة سرية بين وزير الداخلية المُقال، ورئيس مسؤول المخابرات الإماراتي بجزيرة جربة التونسية.

يرجع تورط الإمارات في ليبيا إلى عام 2011، حيث شاركت بمقاتلات من طراز ف16- في عمليات الناتو التي شنتها فرنسا ضد نظام الرئيس معمر القذافي. وشرعت القوات الخاصة الإماراتية، منذ ذلك التاريخ، في دعم بعض الميليشيات غير الإسلامية. بعد 2011 انتشر الجهاديون في كل مكان.

وبدأت أبو ظبي في تزويد اللواء السابق المنشق خليفة حفتر بالدعم العسكري، “المتقاعد المُستبدٌ، الذي يُشارك محمد بن زايد نفس مشاعره تجاه الإسلاميين”، كما تصفه The New York Times.

ولكن بحلول نهاية عام 2016، كانت الإمارات قد أنشأت قاعدةً جوية شرقي ليبيا؛ وانطلقت منها الطائرات بدون طيار والمقاتلات لقصف خصوم حفتر في بنغازي.

بالتحالف مع مصر، تساند الإمارات عسكريًا المشير خليفة حفتر، والمعروف بمعارضته لحكومة الوفاق الوطني التي تشكلت في طرابلس عقب جهود مضنية وبدعم دولي.

فضلاً عن معاداة الإسلاميين، فإن نقطة التوافق الأخرى بين مصر والإمارات هي العمل لمكافحة الإرهاب، لكنه شعار فقد محتواه مع مرور الزمن، لأن الإمارات لا تميّز بين عناصر التنظيمات الإرهابية، مثل “داعش” و”القاعدة” والحركات المسلحة، ومجرد المعارضين.

وقالت دبلوماسيةٌ أمريكية سابقة، تكُن الكثير من الاحترام لمحمد بن زايد، إنّ تعامله مع الفوضى الليبية أكّد على خطورة التمادي في النفوذ. “إنّهم يتطلّعون إلى إدارة وتصفية الأطراف التي لا تُعجبهم. وسيُدركون أنّهم لا يستطيعون فعل ذلك. إذ يُمكنّك أن تُحرّك محتويات إناء على النار؛ فيغلي ويفور بسبب تدخلك”.

تحت عنوان يتحدث عن “إضعاف الإسلام السياسي بأي ثمن”، يقول المحلل السياسي الفرنسي مارك شير لو بارين، وهو لواء سابق في سلاح الجو، إن حرب بن زايد على الإسلام السياسي وصلت إلى حد استبعاد “النسخة السعودية” نفسها من الدين، لصالح تصوراته الجديدة.

وظهر ذلك جليًا خلال مشاركة أبو ظبي في تنظيم مؤتمر بعنوان “أهل السُنّة والجماعة” في الشيشان 2016، بحضور شيخ الأزهر، وخرجت التوصيات بإشارة إلى أن في الوهابية والسلفية  تشويهًا للإسلام السني، وخروجا على إجماع أهل السنة والجماعة.

أرادت الإمارات، من خلال تأييدها لاستبعاد المذهب السلفي الذي تروِّج له السعودية، أن تفصح بوضوح عن معارضتها لجميع أشكال الإسلام السياسي المتهمة بتفريخ التيار الجهادي، حتى لو كان بعضها في البيت السعودي.

حظي محمد بن زايد بحليفٍ قوي: ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وهي علاقة غطّت على خلافٍ تاريخي. إذ إنّ السعودية هي “أب وأم الإسلام السياسي”، كما كان الصحفي السعودي المغدور جمال خاشقجي يُحب وصفها.

وحين تزعّم السعوديون الحملة العسكرية ضد الحوثيين، ومعهم الإمارات، توقّع الكثيرون أن لا تدوم سوى بضعة أشهر على أقصى تقدير. وبدلاً من ذلك، استمرت لقرابة الخمس سنوات، وتحوّلت إلى كارثةٍ أذهلت ضمير العالم.

والإمارات مسؤولةٌ عن هذه المأساة الهائلة رغم أنّها لم تنفّذ عمليات القصف التي ألحقت هذا القدر من الدمار بشمالي اليمن، وحاولت التوسط في صفقاتٍ سياسية لإنهاء الحرب، إلا أن ضابطا أمريكيا رفيع المستوى قال لصحيفة The New York Times إنّ النجاحات العسكرية على أرض الواقع تُنسب للإماراتيين بنسبةٍ تتراوح بين 95 و100%.

ومنذ البداية، كان السعوديون على استعداد للعمل مع أحزاب إسلامية على غرار “الإصلاح” لمحاربة خصمهم المشترك، أي الحوثيين، وتحقيق الاستقرار في شمال اليمن. وكانت الإمارات مترددة في القيام بذلك، حتى أنها اتُهمت باستهداف أفراد “الإصلاح” بشكل كبير في جميع أنحاء الجنوب.

ونأى قادة الإصلاح بحزبهم عن الإخوان حتى ينالوا ثقة بن زايد، وبالفعل دعاهم إلى أبو ظبي نهاية 2018، ونشر صور الاجتماع على حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي. وقال ولي العهد إن الإمارات وافقت علناً على انفصال “الإصلاح” عن “الإخوان المسلمين” وأنها تعتبر الحزب لاعباً مهماً، إن لم يكن شريكاً كلياً، في اليمن.

ولا يعني هذا أن العلاقة أصبحت “سمنا على عسل”.

فالإمارات لم تغير حتماً رأيها في الإسلاميين السياسيين، لكن التفاهم مع “الإصلاح” يضمن النفوذ مع لاعب ربما يكون مناسباً في فترة ما بعد الحرب.

وبالنسبة لـ “الإصلاح”، قد يبدو الادعاء العلني بالانفصال عن الإخوان مساومة عادلة في الوقت الراهن.

مات أكثر من 100 إماراتي في المعارك، وربما كان هذا الرقم ضئيلاً عند مقارنته بأعداد الضحايا اليمنيين الهائلة؛ لكن هذا الصراع يُعتبر بمثابة أكثر الحروب الإماراتية تكلفةً من الناحية الإنسانية.

الثمن الفادح للمغامرة: صاروخ منفرد قادر على وضع كلمة “النهاية”

كان محمد بن زايد يقود سيارةً وبجواره سفيرٌ أمريكي سابق، حين أشار السفير إلى عدم وجود أيّ حراس أمن. فقال له محمد بن زايد: “لا تقلق. وانظر إلى الأرضية أسفل قدميك”.

ونظر السفير تحت قدمي ولي العهد، واندهش: فقد رأى سلاحاً آلياً يربض في أرضية السيارة.

في فبراير/ شباط 2019، كتب ديفيد كيركباتريك، رئيس مكتب نيويورك تايمز في القاهرة، أن ولي عهد أبو ظبي “مهووس بعدويْن اثنين، هما إيران والإخوان المسلمين، وهما اللذان سعى دونالد ترامب للتحرك ضدهما بكل قوة. وفي الواقع، فإن الرئيس تبنى في عدة مناسبات المواقف التي يريدها ولي عهد أبوظبي، رغم التحفظات التي كان يبديها أعضاء الحكومة ومسؤولي الأمن القومي، حول مواضيع مثل إيران وقطر وليبيا والسعودية والإخوان المسلمين”.

وحين تحدث وزير الدفاع السابق جيمس ماتيس خلال زيارةٍ إلى أمام حشدٍ من الشخصيات الرفيعة الإماراتية والأجنبية، بمدينة أبوظبي في مايو/أيار الماضي، كان يُقارن الإمارات بأثينا وأسبرطة.

والإشارة هنا إلى مدينة يونانية قديمة كانت تعرف بأنها “دولة مدينة”. كانت دولة عسكرية ذات أهداف توسعية دائمة، واعتبرت الحرب هي وسيلة الكسب والردع، فضلًا عن تعظيم العمل العسكري في المجتمع الإسبرطي، حتى أصبح الجندي في أعلى درجات السلم الاجتماعي.

في النهاية دفعت أسبرطة اليونانية المعروفة بـ”الدولة المدينة” التي حافظت على استقلالها عن إمبراطورية أثينا، ثمن ذلك حروبًا دامية، وكان ازدياد ثروة الدولة وتوسع نفوذها الواقعي والمعنوي على ما جاورها من المدن الإغريقية، سببا في زوالها.

الإمارات أيضا، كانت كانت طموحاتها أكبر من قدراتها ومواردها بكثير.

في اليمن كان الهدف الرئيسي من التدخل هو طرد جماعة أنصار الله الحوثية الموالية لإيران وتقطيع أوصال جماعة الإخوان المسلمين.

لكن الإمارات اضطرت إلى التراجع، خاصة مع تزايد نظرة الازدراء إليها كقوة احتلال.

كان للإمارات الدور الأكبر في الحصار المفروض على قطر. لكنه أيضا فشل وانقلب على قطر قوة داخلية وخارجية، ولم ينل من الحدث المرتقب في عام 2022 والمتمثل في تنظيم بطولة العالم لكرة القدم.

مليارات الدولارات التي ضختها الإمارات إلى مصر بهدف تثبيت دعائم الحكم لنظام السيسي هناك، ما زالت لم تأت أكلها بعد، علاوة على القمع والاضطهاد المتزايدين في مصر.

الأزمات في اليمن وليبيا والسودان ومصر وقطر هي الأهم التي تضطلع فيها الإمارات بدور محوري. لكن الخطر الفعلي سيكون في حال ارتداد الفشل في دولة منها أو أكثر على قادة أبو ظبي.

“تنتهج الإمارات العربية المتحدة سياسةً خارجية أقل هيمنة من السعودية وأكثر تكتماً من قطر، وتنشط بشكل خاص في محاربة الإسلام السياسي في كل أشكاله. وتستهدف أكثر ما تستهدف الإخوان المسلمين، فتجد نفسها بالتالي في مواجهة مع قطر والمملكة السعودية”. هكذا كتب موقع orientxxi الذي يرأس تحريره الصحفي الفرنسي المرموق، والمتخصص في شؤون الشرق الأوسط، آلان غريش.

تقوم سياسة أبو ظبي الخارجية على محورين رئيسيين:

الاحتماء من إيران.

ومحاربة الإسلام السياسي بشتى صوره.

في المحور الأول تلجأ إلى المهادنة والحوار أحيانا، بدليل تبادل الزيارات والتنسيق مع إيران.

لكن مع الإسلام السياسي يواصل وليّ العهد سياسته المتشددة.

وغالبية الإماراتيين الذين تحدثوا إلى The New York Times عن حملة محمد بن زايد القمعية ضد الإسلاميين، فعلوا ذلك بشرط السرية وعبر تطبيقات مشفّرة. فعلى عكس الغرب، تستطيع الحكومة الإماراتية استخدام الكاميرات الشخصية، لمنح السلطات رقابةً استثنائية على كل ما يجري في كافة أنحاء البلاد.

لدرجة أنّ تطبيق رسائل مُعتمد جرى إطلاقه في الإمارات العام الماضي، ToTok؛ تبيّن مؤخراً أنّه كان أداة تجسّس للمخابرات الإماراتية.

ويُسارع المسؤولون الإماراتيون للدفاع عن هذه التكتيكات، إذ إنّ قنبلةً إرهابية واحدة -أو صاروخاً إيرانياً منفرداً- يُمكن أن تدفع بالمغتربين إلى الفرار وتُلحِق ضرراً هائلاً بدور البلاد بوصفها مركز تجارةٍ ونقلٍ آمن.

لم تعد الإمارات ذلك البلد الذي كان يُضرب فيه المثل. فقد أصبح الشغل الشاغل لقادة البلد الوقوف في وجه تغيير فات أوانه في الدول العربية، وهو الأمر الذي سترتد نتائجه السلبية على الإمارات، ولو بعد حين.