منذ تأسيس منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) قبل أكثر من ستة عقود، شكّلت السعودية عمودها الفقري والضامن لتماسكها. لكن في السنوات الأخيرة، وتحديدًا مع صعود الطموحات الإماراتية الجامحة، بدأت أبوظبي تتصرف كأنها دولة فوق قواعد الكارتل، تسعى لتقويض قيادة الرياض للمنظمة، وربما حتى كسرها من الداخل.
ففي الحادي والثلاثين من مايو 2025، أعلنت أوبك+ عن ضخ 411 ألف برميل إضافي يوميًا في يوليو، في ثالث زيادة شهرية متتالية. لكن خلف هذا الإعلان التقني تختبئ أزمة عميقة تنذر بتفكك محتمل، تقودها الإمارات بصمت ولكن بإصرار.
الإمارات: العضو المتمرد في عباءة الانضباط
بينما تواجه أوبك ضغوطًا متزايدة بسبب ذروة الطلب المحتملة على النفط خلال العقد المقبل، تتصرف أبوظبي كمن يخطط للفرار من السفينة وهي على وشك الاصطدام بالجبل الجليدي.
فالإمارات، التي تعد ثالث أكبر مصدر للنفط في أوبك، لطالما ظهرت كعضو متمرّد يحظى بمعاملة استثنائية. ورغم أنها تدّعي الالتزام بحصتها الإنتاجية البالغة 2.9 مليون برميل يوميًا، إلا أن تتبّع شحنات الناقلات يشير إلى أن صادراتها وحدها تقترب من 2.8 مليون، دون احتساب التكرير المحلي أو التخزين.
مصادر متعددة داخل السوق، وحتى وكالة الطاقة الدولية، تشير إلى أن أبوظبي قد تكون تضخ فعليًا أكثر من 3.4 مليون برميل يوميًا — أي بفارق يصل إلى نصف مليون برميل فوق حصتها الرسمية.
حسابات مزدوجة وتلاعب بالأرقام
اللافت أن هذا التلاعب يتم تحت ستار من التواطؤ غير المعلن. فشركات الاستشارات التي تعتمد عليها أوبك لتقدير الإنتاج، وهي جهات تجارية بالأساس، تحتفظ بعلاقات زبائنية مع كل من أرامكو السعودية وأدنوك الإماراتية.
أما الصحفيون، فيخشون من فقدان وصولهم إلى المعلومات، ما يحول دون كشف الحقائق علنًا. في هذا المشهد الغامض، تبدو الإمارات وكأنها تكتب قواعدها الخاصة وتفرضها على الجميع، مستغلةً ما تبقّى من تماسك المنظمة لتحقيق أهدافها القومية الضيقة.
لماذا تصمت السعودية؟
قد يتساءل البعض: لماذا لا تواجه الرياض هذه التجاوزات علنًا؟ الإجابة تتعلق بطبيعة التوازنات داخل أوبك، والخشية من أن يؤدي الصدام المباشر إلى انسحاب أبوظبي — وهو سيناريو سبق وهددت به الإمارات في عام 2021، وكان من شأنه أن يوجه ضربة قاصمة للمنظمة.
ومع إدراك السعوديين أن الطاقة الإنتاجية الفائضة للإمارات تمثل أداة ابتزاز دائمة، فهم يفضّلون إدارة الخلاف ببرود تكتيكي، على أمل تفادي الانفجار.
لكن هذا التردد السعودي يمنح الإمارات هامشًا أوسع للمناورة، ويكرّس واقعًا جديدًا تسعى من خلاله أبوظبي لفرض نفوذها كمنافس مكافئ — أو حتى بديل — للرياض على المسرح النفطي العالمي. ومع استمرار هذه الديناميكية، يصبح استمرار أوبك بصيغتها الحالية أمرًا مهددًا.
ما يثير القلق أكثر هو أن تحركات الإمارات داخل أوبك ليست فقط تعبيرًا عن طموحات اقتصادية، بل تعكس توجهًا سياسيًا واسعًا لمزاحمة السعودية على أدوار القيادة الإقليمية والدولية.
فمن التغلغل في أفريقيا عبر أدوات “المساعدات الإنسانية”، إلى التسلل إلى الأوساط المؤثرة في واشنطن، مرورًا بالاستثمار الهائل في الذكاء الاصطناعي وقطاعات الطاقة المتجددة، تتحرك أبوظبي وفق استراتيجية موازية هدفها الأساسي انتزاع صفة “اللاعب الأهم” في الخليج، ولو على حساب استقرار المنظومة الخليجية والعربية ككل.
وفي السياق النفطي، يعكس سلوك الإمارات موقفًا أكثر ميلًا لتخفيض الأسعار واستعادة الحصص السوقية ولو على حساب العوائد، إذ لا تحتاج أبوظبي سوى إلى 50 دولارًا للبرميل لتحقيق التوازن في ميزانيتها، بينما تحتاج الرياض إلى نحو 90 دولارًا بسبب إنفاقها الكبير على مشاريع مثل نيوم والخطط العقارية الضخمة.
هذا التباين في الأهداف الاقتصادية يُترجم إلى سياسات متباعدة داخل أوبك، ويفتح الباب أمام التصعيد.
انفجار مؤجل أم انسحاب وشيك؟
في ظل تراكم الخلافات حول الحصص، ورفض أبوظبي الالتزام بسقف إنتاج لا يواكب قدراتها المتنامية — خصوصًا مع استثمارها 62 مليار دولار في مشاريع جديدة — يصبح احتمال انسحابها من أوبك أكثر واقعية.
وإذا حدث ذلك، فلن يكون مجرد خطوة تقنية، بل زلزالًا يضرب كارتل النفط من داخله، وربما يفتح الباب أمام تحالفات جديدة خارج إطار المنظمة.
ويذهب بعض المحللين إلى أن الإمارات تتعمد دفع أوبك نحو حافة الهاوية لفرض مراجعة شاملة للحصص، أو تمهيدًا لتشكيل تكتل بديل على أسس مختلفة. وفي كلتا الحالتين، فإن الهدف النهائي هو كسر التفوق السعودي وإعادة رسم معادلة النفوذ في سوق النفط العالمي.
مواجهة لا مفر منها
الخلاف بين السعودية والإمارات لم يعد مجرد تباين في وجهات النظر حول الحصص أو الأسعار، بل يعكس صراعًا أعمق على القيادة والهيمنة.
وإذا استمرت أبوظبي في مسارها الحالي، فإنها لا تقوض فقط وحدة أوبك، بل تسعى إلى تقويض الترتيبات الإقليمية التي ضمنت استقرار أسواق الطاقة لعقود.
وعلى الرياض أن تدرك أن الصمت لم يعد مجديًا، وأن المواجهة الحاسمة مع “الشريك المتمرّد” باتت مسألة وقت، لا خيار.
