كشفت صحيفة نيويورك تايمز عن خيوط شبكة معقدة من الصفقات التي جمعت بين طموح اقتصادي إماراتي متسارع، وحسابات سياسية أميركية متشابكة، لتضع أبوظبي في قلب جدل متصاعد داخل واشنطن حول حدود التداخل بين الأمن القومي ومصالح التجارة الخاصة.
وتصدّر طحنون بن زايد آل نهيان، مستشار الأمن الوطني وأحد أبرز رجال الأعمال في أبوظبي، مشهد هذه الصفقات. فقد لعب دورًا محوريًا في مسارين متزامنين:
الأول: ضخ استثمارات ضخمة بلغت نحو ملياري دولار في مشروع ناشئ للعملات المشفرة يُسمى وورلد ليبرتي فاينانشال، أسسه زاك ويتكوف، نجل رجل أعمال مقرب من الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
الثاني: الحصول على إذن استثنائي للإمارات لشراء مئات الآلاف من رقائق إنفيديا، وهي التقنية الأهم في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي.
وبحسب الصحيفة عززت هذه التطورات من نفوذ الإمارات اقتصاديًا وتكنولوجيًا، لكنها في المقابل أثارت تساؤلات حساسة داخل الأوساط السياسية الأميركية.
تجارة مثيرة للجدل
وفرت صفقة العملات المشفرة لأبوظبي موطئ قدم في صناعة مالية محفوفة بالمخاطر والجدل، بينما منحت في الوقت ذاته حلفاء ترامب مكاسب مالية محتملة بملايين الدولارات سنويًا.
هذا التشابك أوحى لكثيرين في واشنطن بأن النفوذ المالي يمكن أن يتحول إلى مدخل للتأثير على قرارات استراتيجية تخص الأمن القومي الأميركي.
المثير أن المصادقة على صفقة الرقائق الحاسوبية جاءت بعد أسابيع قليلة فقط من الإعلان عن الاستثمار الإماراتي، الأمر الذي خلق ـ بحسب الصحيفة ـ “انطباعًا مقلقًا” بوجود علاقة غير مباشرة بين الحدثين، حتى مع نفي الإدارة الأميركية لأي صلة مباشرة.
التكنولوجيا في قلب الحسابات
بالنسبة للإمارات، لا تعد هذه الصفقات مجرد رهانات مالية، بل هي جزء من مشروع استراتيجي لتحويل أبوظبي إلى مركز عالمي في التكنولوجيا المتقدمة.
شركة G42، المرتبطة بالشيخ طحنون، تندفع بقوة نحو الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، وتبرم شراكات مع شركات كبرى مثل مايكروسوفت وإنفيديا.
الطموح مدعوم بثروة سيادية هائلة تتجاوز 1.5 تريليون دولار، ما يمنح أبوظبي قدرة نادرة على الجمع بين رأس المال الضخم والتطلعات الجيوسياسية.
لكن هذا التوجه لا يخلو من المخاطر؛ إذ أثارت صلات بعض الشركات الإماراتية السابقة مع الصين قلقًا متناميًا لدى أجهزة الأمن الأميركية، التي حذرت من إمكانية تسرب التكنولوجيا إلى أطراف منافسة.
في الداخل الأميركي، وضعت هذه التطورات عائلة ترامب مجددًا تحت مجهر الانتقادات. فالعلاقة المالية بين الإمارات ومشروع العملات المشفرة الذي يرتبط مباشرة بمقربين من ترامب اعتُبرت خرقًا للأعراف السياسية الراسخة، والتي طالما فصلت بين قرارات الأمن القومي والصفقات التجارية الخاصة.
يرى خبراء في أخلاقيات الحكم أن تضارب المصالح بات واضحًا: مصالح شخصية لعائلة سياسية نافذة تقف على تماس مباشر مع قرارات استراتيجية تمس مكانة الولايات المتحدة في سباق الذكاء الاصطناعي.
جدل واشنطن.. مصالح خاصة أم أمن قومي؟
أشارت نيويورك تايمز إلى أن تزامن الصفقتين سلّط الضوء على ثغرات بنيوية في منظومة اتخاذ القرار الأميركي. فواشنطن تجد نفسها أمام أسئلة صعبة:
هل يمكن أن تؤدي الاستثمارات الأجنبية في مشاريع مرتبطة بعائلات سياسية نافذة إلى التأثير على قرارات الأمن القومي؟
إلى أي مدى تستطيع الولايات المتحدة ضمان استقلالية قراراتها في ظل تغوّل المصالح الخاصة؟
ويعكس هذا الجدل توازنًا هشًا بين الرغبة في جذب استثمارات أجنبية ضخمة من دول ثرية مثل الإمارات، والحاجة إلى حماية التكنولوجيا المتقدمة من التسرب إلى قوى منافسة.
مكاسب إماراتية.. وخسائر أميركية؟
في المحصلة، خرجت الإمارات حتى الآن بأكبر المكاسب:
مالياً: نفوذ استثماري في قطاع العملات المشفرة الصاعد.
تكنولوجيًا: وصول استثنائي إلى أحدث الرقائق الأميركية، ما يضعها في موقع متقدم في سباق الذكاء الاصطناعي.
أما الولايات المتحدة، فتواجه معضلة مزدوجة:
داخليًا، تزايد الانتقادات بشأن تضارب المصالح والتأثيرات غير الشفافة في صناعة القرار.
خارجيًا، تآكل صورتها كدولة تضع الأمن القومي فوق الحسابات التجارية الخاصة.
وتكشف هذه القضية عن ملامح استراتيجية إماراتية واضحة: شراء النفوذ عبر استثمارات ضخمة، واستخدام المال كأداة لاختراق أكثر الصناعات حساسية في العالم. وفي المقابل، تُظهر هشاشة في المنظومة الأميركية، حيث قد تتداخل مصالح خاصة لعائلات سياسية نافذة مع ملفات ترتبط بأمن قومي عالمي.
وإن كان هناك فائز واضح في هذه المرحلة فهو أبوظبي، التي حوّلت المال إلى نفوذ، وربطت مستقبلها بمفاصل الاقتصاد الرقمي والتكنولوجيا المتقدمة.
أما واشنطن، فهي أمام اختبار صعب: إما أن تضع حدودًا فاصلة بين التجارة والسياسة، أو أن تواجه مستقبلاً تُتّهم فيه بأن قراراتها الاستراتيجية مرتهنة لمصالح ضيقة.
