قالت دراسة بحثية دولية إن الإمارات تحت قيادة “أبناء فاطمة” إحدى زوجات مؤسس الدولة زايد بن سلطان آل نهيان تعزز تدخلاتها الخارجية بهدف كسب النفوذ والأطماع الاقتصادية بما في ذلك لعب دور رئيسي في تشكيل هياكل السياسة والحوكمة في جميع أنحاء المنطقة، وتأمين الطرق التجارية في جوارها الأوسع، باعتبارها محورًا اقتصاديًا يربط بين شرق أفريقيا وجنوب آسيا.
ونبه الباحث بيتر ساليزبري محلل أول لشؤون اليمن في مجموعة الأزمات الدولية، إلى صعود نجم الإمارات على مدى العقد الماضي، باعتبارها لاعبًا مؤثرًا في السياسات الإقليمية لتتحوَّل بذلك عن سياستها الخارجية المحافظة، التي كانت تركز في السابق على حماية نفسها باعتبارها أولوية قصوى.
وغالبًا ما تُحَلَّل السياسة الخارجية والأمن القومي الإماراتي في الغرب استنادًا إلى مبادرات بعينها- مثل: دعمها لخليفة حفتر في ليبيا أو للانفصاليين والمجموعات الأخرى في اليمن، أو دورها في أزمة قطر 2017- تشير في ظاهرها إلى وجود استراتيجية شاملة أو مجموعة من النوايا.
وتلفت الورقة، المنشورة باعتبارها جزءًا من برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس)، إلى أن النموذج الإماراتي يدمج بين الانفتاح الاقتصادي، والحوكمة القوية، وتقديم الخدمات، والبيئة الاجتماعية العلمانية والليبرالية (بالنسبة للمنطقة) نسبيًا، جنبًا إلى جنب مع النظام السياسي المغلق الذي يراقب الخطاب العام ويتمحور حول الدولة الأمنية الراسخة.
وما يحظى بالقدر ذاته من الأهمية في هذا الصدد هو معارضة الإمارات لأي أيديولوجية سياسية أو دينية قد تتحدى سيادة الدولة ونفوذ قادتها.
ويرجع ذلك إلى أن المسؤولين الإماراتيين يرون أن أيديولوجيات الإسلام السياسي العابرة للحدود التي تروج لها إيران وجماعة الإخوان المسلمون السنية وداعموها – بما في ذلك قطر وتركيا على سبيل المثال لا الحصر – تشكل تهديدًا وجوديًا لرؤيتها العلمانية الواسعة للشكل الذي ينبغي أن تكون عليه الحكومة، وكذلك لاستقرار ما يسمى بقوى “الوضع الراهن” في المنطقة، وتعمل محفِّزًا للتطرف الإقليمي.
لكن اللافت أن أبوظبي كانت أكثر حزمًا بكثير من الإخوان المسلمين ومؤيديها، لكنها في المقابل كانت أكثر حذرًا بكثير في نهجها تجاه إيران.
وأبوظبي، أكبر وأغنى الإمارات السبع، هي التي تحدد اتجاه الإمارات في الداخل والخارج، ويرتبط تطور “النموذج الإماراتي” ارتباطًا رئيسيًا بولي عهد أبوظبي وزعيمها الفعلي محمد بن زايد.
وبينما يتبنى محمد بن زايد ودائرته الداخلية الموثوقة رؤية عالمية مشتركة، إلا أنهم لا يعملون بالضرورة انطلاقًا من مخطط رئيسي استراتيجي. وغالبًا ما تقوم مجموعة صغيرة جدًا ببلورة الخيارات السياسية، التكتيكية والتفاعلية، لكن مثل هذه الطريقة في صناعة القرار قد تؤدي إلى تردد مفرط وفرص ضائعة.
وبينما يميل صناع السياسة الغربيون إلى الانبهار بالليبرالية الإماراتية المُتَصَوَّرة، وقدرة مسؤوليها على التحدث بلغتهم، حرفيًا ومجازيًا، ينصحهم الباحث بالتعرف أفضل على (النموذج الإماراتي) من جميع جوانبه، واضعين في الاعتبار أن أبوظبي تتوقع أن تُعامل على قدم المساواة، لكنه في الوقت ذاته يرى أن التعامل مع الإمارات باعتبارها شريكًا قويًا وناضجًا سيعني أيضًا إظهار استعداد أكبر لمعارضتها.
وشهدت سياسة الإمارات الخارجية وأمنها القومي سلسلة من التحولات، منذ إنشاء الاتحاد عام 1971، التي كانت مدفوعة بالتطورات الإقليمية والتقديرات السياسية الداخلية والسمات الشخصية لقادتها.
ينقل الباحث شهادة زكي نسيبة، الذي عمل لعدة سنوات مترجمًا للشيخ زايد آل نهيان، الذي كان أميرًا لأبوظبي من عام 1966 ورئيسًا للإمارات العربية المتحدة من عام 1971 حتى وفاته في عام 2004.
قال زكي نسيبة أثناء مقابلة أجريت معه في عام 2009: كانت هناك غيوم كثيفة من الشكوك حول قدرة هذا المكان (دولة الإمارات) على البقاء. كان كل الصحفيين الذين رافقتهم آنذاك، وكذلك المحررين وكبار الشخصيات الذين يزورون البلد، ينظرون جميعًا إلى الإمارات ويقولون: إنها لن تبقى على قيد الحياة… ظنوا أن كل الدول المجاورة الأكبر ستضم الإمارات المُكَوِّنة للاتحاد إمارة تلو الأخرى. ولا ننسى أن الثورات كانت تشتعل من حولنا؛ كانت هناك الشيوعية والماركسية، وببساطة كان لدينا جيران أكبر مثل إيران والسعودية.
يذكر المسؤولون ورجال الأعمال الذين عملوا مع الشيخ زايد أن نهجه في إدارة السياسة الخارجية كان مدفوعًا إلى حد كبير بمزيج من المثالية والواقعية؛ إذ كان يطمح إلى تعزيز شكل من أشكال القومية العربية من خلال تفعيل المنظمات متعددة الأطراف المشابهة للمنظومة الفيدرالية الإماراتية، مثل جامعة الدول العربية وفيما بعد مجلس التعاون الخليجي.
في فترة التأسيس، كانت الإمارات ضعيفة عسكريًا مقارنة بمعظم جيرانها، وهي نقطة ضعف فضحتها الحرب الإيرانية – العراقية (1980-1988) وغزو العراق للكويت (1990). وكان اقتصاد الإمارات العربية المتحدة – ولا يزال – يعتمد اعتمادًا كبيرًا على حركة التجارة البحرية، التي أظهرت “حرب الناقلات” في أواخر الثمانينيات أنها في مهب الصراع الإقليمي.
ثم تجلى هذا الضعف مرة أخرى في مايو 2019 عندما وقعت سلسلة من الهجمات على السفن التي تبحر قبالة سواحل الإمارات، ووُجِّهَت أصابع الاتهام فيها إلى إيران.
هذا الضعف المتأصِّل دفع الشيخ زايد إلى تبني نهج يعتمد على الوساطة والتعددية؛ ونتيجة لذلك كان له دور فعال، إلى جانب نظيره الكويتي الشيخ جابر الأحمد الصباح (أمير الكويت ما بين 1977-2006) في تشكيل مجلس التعاون الخليجي عام 1981.
لكن الشيخ زايد اتخذ أحيانًا موقفًا مخالفًا لدول مجلس التعاون الخليجي الأخرى تجاه الأحداث الإقليمية، حين تبنى مثلًا موقف الحياد النسبي خلال الحرب بين إيران والعراق، وهو الموقف الذي يرجح الباحث أنه كان نتيجة وضع الإمارات الهش والعلاقات التجارية الوثيقة بين بعض الإمارات وإيران.
وكانت الإمارات واحدة من ثلاث دول فقط اعترفت بنظام طالبان في أفغانستان بعد إقامته في عام 1996، كما دعا الشيخ زايد إلى تخفيف العقوبات على العراق في أواخر التسعينيات، مستشهدًا بمعاناة الشعب العراقي، وحاول بدأب منع الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وقيل إن أمير دبي محمد بن راشد آل مكتوم عرض على صدام حسين اللجوء إلى الإمارة بمباركة الشيخ زايد.
لكن بعد وفاة الشيخ زايد، ظهرت الانقسامات داخل أفراد عائلة آل نهيان، وبين أبوظبي والعائلات الحاكمة الأخرى في الإمارات، حول وتيرة ومدى التغيير المرغوب تحقيقه في الإمارات، وهي التوترات التي أعاقت في البداية صياغة سياسة خارجية متماسكة في حقبة ما بعد الشيخ زايد.
بدأت دبي، التي تطورت إلى مركز تجاري رئيسي خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، في اتباع مسار أكثر وضوحًا للسياسة الخارجية، بقيادة ولي عهد دبي آنذاك، محمد بن راشد آل مكتوم، الذي أصبح حاكمها منذ عام 2006. ثم تحولت الإمارات مؤخرًا إلى تبني موقف أكثر تماسكًا وحزمًا تجاه الشؤون الخارجية، وهو الاتجاه الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بصعود ولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد.
مرحلة ما بعد زايد
لم يكن بمقدور محمد بن زايد (أبو خالد، كما يناديه المقربون) أن يتبع نهجًا أكثر عدوانية في الشؤون الإقليمية لو لم يرسخ أقدامه أولًا في أبوظبي وعبر دولة الإمارات باعتباره شخصية مرهوبة الجانب.
تلقى محمد بن زايد تعليمه في المغرب، والتحق بأكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية في المملكة المتحدة، وتلقى تدريبًا على الطيران.
ولأنه الابن البكر للسيدة فاطمة، الزوجة الثالثة والمفضلة للشيخ زايد، والابن الثالث في قائمة تضم 19 من أبناء الشيخ زايد، يبدو أن والده ووالدته ربياه منذ نعومة أظفاره ليتولى دورًا قياديًا، إلى جانب أشقائه الخمسة، الذين يشار إليهم جميعًا (بما في ذلك محمد بن زايد) بـ”أبناء فاطمة”.
تجلّى ذلك في تعيين محمد بن زايد رئيسًا لهيئة أركان بالقوات المسلحة الإماراتية في عام 1993، جزءًا من عملية إعادة هيكلة شهدت تعيين عدد من أبناء الشيخ زايد في مناصب حكومية رفيعة المستوى.
وهي الفترة التي يصفها المراقبون المعاصرون أحيانًا بأنها فترة “تدريب” للجيل الجديد من حكام الإمارات، والتي اتسمت بتقليل الاعتماد على العديد من المستشارين غير الملكيين الذين ارتقوا إلى مناصب عليا خلال العقود الأولى من عمر الاتحاد.
صحيح أن محمد بن زايد يتبع وفقًا للترتيب الهيكلي وزير الدفاع (أمير دبي) والقائد الأعلى ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، إلا أنه هو الذي تولى تحديث القوات المسلحة، ودفع باتجاه شراء أسلحة على نطاق واسع، وأبرم اتفاقيات دفاع متعددة مع القوى الغربية وروسيا، وعمَّق العلاقات التي حفزتها الثورة الإيرانية والحرب الإيرانية – العراقية واكتسبت ضرورة ملحة بعد غزو العراق للكويت.
كما شجّع محمد بن زايد – الذي تشير التقارير إلى أنه كان المستشار الأمني الرئيسي لوالده – على تبني نهج احترافي في صفوف القوات المسلحة، ولا سيما القوات الخاصة داخل الحرس الرئاسي، وتطوير برنامج محلي لتصنيع الأسلحة.
وفي حين زادت دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى إنفاقها الدفاعي بعد الغزو العراقي للكويت، ويرجع ذلك جزئيًا إلى رغبتها في الحصول على الحماية من الجيوش والدول التي اشترت منها تلك الأسلحة، أظهرت الإمارات استعدادًا لبناء جيشها الخاص، بل وإرسال قواتها إلى مناطق الصراع الملتهبة.
تعزيز النفوذ بشركات السلاح
ولأن محمد بن زايد يُنظَر إليه على نطاق واسع باعتباره قائدًا كفؤًا، لم يكن مستغربًا أن يتولى منصب ولي عهد أبوظبي في عام 2004، بعد وفاة الشيخ زايد وترقية أخيه غير الشقيق خليفة إلى منصب حاكم أبوظبي ورئيس دولة الإمارات.
فُسِّر صعود محمد بن زايد في بعض الدوائر على أنه علامة على صعود “أبناء فاطمة”، الذين اضطلعوا – بحلول تلك المرحلة – بأدوارٍ واضحة في مجالات الدفاع والاستخبارات والشؤون الخارجية والسياسة الاقتصادية، لكونهم من بين أكفأ رموز الجيل التالي.
لكن لأن هذه المجموعة كانت تؤيد إحداث تغيير سريع في أبوظبي، واتباع نهج أكثر إقدامًا على المخاطر في إدارة موارد الدولة والسياسة الخارجية، أفادت التقارير بأن هؤلاء النخبة الطموحة واجهت مقاومة من الفروع الأكثر تحفظًا داخل الأسرة الحاكمة.
كما ارتقى “أبناء فاطمة” إلى مواقع بارزة في وظائف الدولة الرئيسية، بما في ذلك صياغة السياسة الخارجية والإشراف على الأمن ليس فقط في أبوظبي ولكن عبر إمارات الاتحاد.
الإمارات ما بعد الأزمة الاقتصادية العالمية
ثم جاءت الأزمة المالية في 2008-2009 لتزيد من نفوذ أبوظبي في جنبات الحكومة الإماراتية. ففي عام 2009، طلبت دبي من أبوظبي حزمة إنقاذ تقدر بنحو 20 مليار دولار، وفي المقابل، تنازلت دبي عن بعض صلاحياتها في صنع السياسات الخارجية وبعض سلطاتها الأمنية لأبوظبي. ثم حدث تعديل حكومي كبير في عام 2011، تمخض عن ترسيخ أقدام “أبناء فاطمة” ومن بينهم محمد بن زايد، في أبوظبي، ليهيمن ولي العهد ودائرته الداخلية على ملفات الأمن والشؤون الخارجية الإماراتية.
منذ أوائل العقد الفائت فصاعدًا، وصف المسؤولون الغربيون محمد بن زايد بأنه “الحاكم الفعلي” لإمارة أبوظبي، وبالتالي أقوى شخصية في الإمارات، بموازاة تدهور صحة الشيخ خليفة بسرعة خلال العقد الماضي، بعد أن خلف الشيخ زايد حاكمًا لأبوظبي ورئيسًا لدولة الإمارات. مع زيادة مركزية السلطة في دولة الإمارات، وبعد اندلاع انتفاضات الربيع العربي، تذهب الورقة إلى القول بأن الاتحاد اتخذ منعطفًا نحو الاستبداد الأعمق، وسجن المعارضين وتجريد بعضهم من جنسيتهم.
وفي حين كان المسؤولون الغربيون يميلون إلى عدم التدخل في الشؤون الداخلية الإماراتية، كانوا يشعرون بالقلق حيال سلوك الإمارات مع الرعايا الأجانب، مثل إلقاء القبض على طالب الدكتوراة البريطاني، ماثيو هيدجز، في مايو 2018، بتهمة التجسس لصالح المخابرات البريطانية.
لرسم ملامح السياسة الخارجية لدولة الإمارات، ترصد الورقة العوامل المحدِّدَة للمصلحة الوطنية للدولة، حسبما يرى صناع القرار في أبوظبي، والمخاطر ذات الأولوية القصوى للأمن المحلي والإقليمي.
وعندما طلب الباحث من الأشخاص الذين أجرى معهم مقابلات تحديد أكبر مخاوف محمد بن زايد وحاشيته المقربة، أشاروا إلى وجود تركيز شديد على قضيتين، لخصهما مسؤول غربي في كلمتين: “إيران والإخوان”.
إيران.. براجماتية تمنع الانزلاق
لطالما خشي محمد بن زايد، على غرار والده، أن تشن إيران هجومًا على الإمارات، حتى أن دبلوماسيًا غربيًا بارزًا سابقًا، كانت له تعاملات طويلة الأمد مع ولي العهد، يصفه بأنه “مهووس” بفكرة الهجوم الإيراني المحتمل على الإمارات، ربما ردًا على هجوم أمريكي أو إسرائيلي ضد المنشآت النووية الإيرانية، والوثائق الدبلوماسية الأمريكية التي نشرها موقع ويكيليكس في عام 2010 تدعم هذه الصورة.
بالإضافة إلى التهديد الاستراتيجي الذي تشكله إيران، يقال إن محمد بن زايد يساوره القلق من أن السكان الإيرانيين والشيعة في الإمارات (حوالي 5-8 في المائة من سكان الإمارات من أصل فارسي) يمكن أن ينقلبوا ضد الدولة.
وبينما يدافع ولي العهد بقوة عن اتخاذ موقف متشدد تجاه طهران، فإن نهجه – ونهج حاشيته المقربة – أكثر براجماتية من المنافسين الإقليميين الآخرين لإيران. وتستدل الورقة على ذلك بعدة مواقف:
عندما شعرت الإمارات بالقلق من الرد الإيراني المحتمل على حملة “الضغط الأقصى” الأمريكية، عملت على تهدئة التوترات الإقليمية للحول دون وصولها إلى درجة الغليان.
كما سافر مسؤولون إماراتيون إلى طهران لمناقشة آليات خفض التصعيد بعد انفجارات مايو 2019 التي استهدفت ناقلات نفط قبالة ساحل الفجيرة ونسبتها أمريكا إلى إيران.
وعقب الهجوم المنسوب أيضًا لإيران على منشآت النفط السعودية، واغتيال قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري، قاسم سليماني، أطلقت الإمارات دعوات علنية لتهدئة التوترات.
بينما تحسب أبوظبي خطواتها بعناية حين تتعامل مع إيران، تلفت الورقة إلى أنها تتبنى نهجها أكثر صرامة تجاه الإخوان المسلمين. ويقال إن محمد بن زايد يعتبر الإسلام السياسي أداة يستخدمها المنافسون الإقليميون، مثل إيران وقطر وتركيا، لإبراز سلطة بلاده وإضعاف الملكيات الخليجية والجمهوريات العلمانية في المنطقة.
ليس ولي العهد فقط، بل كل “أبناء فاطمة” يعتبرون الإخوان المسلمين أكبر تهديد للأمن الداخلي لدولة الإمارات والنظام الإقليمي على المدى الطويل. وفي حين ستظل إيران تمثل تهديدًا استراتيجيًا، بغض النظر عن القيادة التي تحكم البلاد، تخشى الإمارات أن التغيير السريع للنظام في طهران قد يكون أكثر تكلفة من من الحفاظ على الوضع الراهن. في المقابل، يرى المسؤولون الإماراتيون أن بإمكانهم منع الإخوان من الوصول إلى السلطة وتوجيه سياسة الدولة.
وتلفت الورقة إلى أن محمد بن زايد يخلط بين الإخوان والأيديولوجيات الأخرى الأكثر تطرفًا من الطراز الذي يتبناه تنظيما القاعدة وداعش. وعلى امتداد هذا الخط، ينتقد المسؤولون الإماراتيون بهدوء ترويج السعودية للعقيدة السلفية المتشددة في الخارج منذ أواخر السبعينيات فصاعدًا.
ولأن محمد بن زايد ومحمد بن راشد يعتقدان أن التعليم والتنمية الاقتصادية أداتان رئيسيتان لمكافحة التطرف، فإنهما يدعمان تدشين مؤسسات التعليم الخاص العلمانية على النمط الغربي في الإمارات.
أما جذور العداء العميق الذي يكنه محمد بن زايد لحركات الإسلام السياسي – التي يعتبرها العدو اللدود للإمارات كما يقول الدبلوماسيون الأمريكيون – فليست واضحة تمامًا.
لكن الورقة ترصد بعض الدوافع التي يعلن عنها المسؤولون الإماراتيون أنفسهم، مثل: تراجع الولايات المتحدة عن دورها المفترض باعتبارها ضامنًا للاستقرار والأمن الإقليميين، وتنامي نفوذ المنافسين الرئيسيين في المنطقة خاصة بعد اندلاع انتفاضات الربيع العربي في عام 2011.
وبناءً على السلوك والاستثمار والأدلة المحكيّة التي نقلها الباحث عن الأشخاص الذين أجرى معهم مقابلات، رصدت الورقة ثلاث أولويات عامة لدولة الإمارات: إفشال الإخوان المسلمين ومؤيديهم المتصورين، تركيا وقطر، وتوسيع التجارة من خلال الشراكات والاستثمار في البنية التحتية للموانئ وحماية طرق التجارة، وبناء علاقات “متوازنة” مع القوى العالمية الكبرى، بهدف تنويع العلاقات الاستراتيجية للاتحاد كيلا تقتصر على الولايات المتحدة، الضامن التقليدي للأمن الإقليمي.
وما لفت انتباه الباحث هو عدم وجود أي رغبة لدى الإمارات في خوض مواجهة مباشرة مع إيران، على الرغم من أنها المنافس الإقليمي الرئيسي للسعودية، والشغل الشاغل لصناع السياسة في واشنطن. بدلًا من ذلك، تدعو الإمارات إلى تبني سياسات تهدف إلى إحداث “تغيير في سلوك” طهران.
تماشيًا مع هذا الهدف، ضغطت لنقض خطة العمل الشاملة المشتركة، ودعمت حملة إدارة ترامب لممارسة “أقصى ضغط” على الجمهورية الإسلامية من خلال العقوبات.
وبينما عملت السعودية على مواجهة النفوذ الإيراني في سوريا و(إلى حد أقل) العراق، من خلال دعم المقاتلين والقبائل المحلية التي تقاتل نظام الأسد والميليشيات المدعومة من طهران، حرصت الإمارات على تجنب الانزلاق إلى أي من الصراعين. ولم تشارك الإمارات مباشرة في أي نزاع إقليمي يشمل إيران سوى في اليمن.
وينقل الباحث عن مسؤول استخباراتي غربي قوله إن الإمارات راقبت ما كان يحدث في سوريا خلال عامي 2011 و2012، لكنها اختارت عدم التدخل الكامل، بل وتحركت لاحقًا لإعادة مد الجسور مع نظام بشار الأسد.
تدعم ذلك تصريحات المسؤولين الإماراتيين والدبلوماسيين الغربيين، الذين يشيرون إلى أن أبوظبي غير راضية عن الدعم الذي قدمته دول الخليج الأخرى لمجموعات متعددة، ترى أنها تتبنى فكر الإسلام السياسي و / أو متطرفة.
أما الإمارات فاختارت، في العراق على سبيل المثال، أن تدعم مبادرات تطوير الشرطة المحلية، وشاركت في الحملة الرامية لهزيمة تنظيم الدولة (داعش) في عامي 2016 و2017، لكنها اختارت عدم التورط في السياسة المحلية.
ولخص دبلوماسي سابق النهج الإماراتي البراجماتي الهادئ تجاه إيران بالقول: الإمارات لا تحب إيران، وتعدها ورمًا خبيثًا في جسد المنطقة، لكنها لا تعتقد أنها تمتلك القدرة العسكرية على “صد” إيران.
ولأنها تخشى من العواقب الوخيمة التي سيتكبدها اقتصادها إذا عبثت مع الإيرانيين؛ فإنها تشجع ممارسة الضغوط، لكنها لا تريد في الواقع أن تشتعل حربًا مع إيران عبر المنطقة، لأنها ستكتوي بنيرانها.
في بعض السياقات، أظهرت الإمارات استعدادًا للتنافس على النفوذ مع إيران بطرق لا ترغب في اتباعها مع الإخوان المسلمين. ذلك أن أبوظبي أدركت وجود نفوذ إيراني قوي على السودان، لكنها عمقت علاقاتها مع الخرطوم بعد عام 2015 – مثلما فعلت السعودية – بموازاة سعيها للحصول على دعم عسكري لحرب اليمن، وربطت هذه العلاقة بتخفيض السودان مستوى علاقاته مع إيران.
وبالفعل أصبحت القوات السودانية لبعض الوقت من بين أكبر وحدات القوات الأجنبية – إن لم يكن أكبرها – التي تعمل إلى جانب التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن، كما قطعت الخرطوم علنًا علاقاتها مع طهران.
وعندما اندلعت احتجاجات حاشدة في السودان عام 2019، لعبت الإمارات دورًا رئيسيًا في الإطاحة بالرئيس عمر البشير وتشكيل المجلس العسكري الجديد قبل أن تجبرها الولايات المتحدة على دعم تشكيل حكومة وحدة. لكن منذ انتفاضة 2019، سحبت الخرطوم جميع قواتها تقريبًا من اليمن.
وتشهد منطقة القرن الأفريقي سلسلة من المنافسات المتداخلة بين دول الخليج وخصومها الإقليميين للاستحواذ على النفوذ، وهي المنافسات التي شهدت تحولات متعددة على مدار السنوات القليلة الماضية.
على سبيل المثال، اتُهمت إريتريا بالعمل مع طهران، قبل عام 2015، كما كانت أسمرة تتمتع بعلاقات جيدة مع الدوحة. ولكن عندما أسفر الخلاف مع شركة موانئ دبي العالمية في عام 2015 عن عدم اتفاق القيادة الإماراتية وجيبوتي على تدشين قاعدة بحرية في القرن الأفريقي، تقربت الرياض وأبوظبي من القيادة الإريترية بعرض لتقديم دعم اقتصادي وإعادة الاندماج السياسي بعد سنوات من العزلة الدولية، مقابل السماح باستخدام قاعدة عصب البحرية غير النشطة إلى حد كبير.
تُوِّجت هذه الجهود بإبرام اتفاقية منحت الإمارات موطئ قدم جديد في القرن وخففت من نفوذ منافسيها. ويشير موقع الإمارات في إريتريا وبقية القرن الأفريقي – بحسب الورقة – إلى اهتمامها المتزايد ليس فقط تجاه العالم العربي أو الشرق الأوسط، ولكن أيضًا بـ”جوارها” الأوسع.
ويلفت الباحث إلى أن الجوار الإماراتي الأوسع يشمل: الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والنصف الغربي من المحيط الهندي، لا سيما الممرات المائية في خليج السويس والبحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن ومضيق هرمز وبحر العرب الأوسع الممتد إلى غرب الهند وباكستان.
تعتمد دولة الإمارات على تدفق التجارة عبر غرب المحيط الهندي؛ لتصدير النفط والحفاظ على مكانتها التي تعود عليها بالأرباح كمحور للتجارة الدولية. وسوق إعادة التصدير الإقليمي يحظى بأهمية خاصة لاقتصاد دبي.
ويمكن أن تتسبب قوة منافسة أخرى في أضرار لا يمكن إصلاحها لصادرات النفط الإماراتية وتجارتها الأوسع؛ من خلال إغلاق مضيق هرمز، المتاخم لها، أو مضيق باب المندب بين خليج عدن والبحر الأحمر – بوابتها إلى خليج السويس والأسواق الأوروبية – الذي كان الحوثيون اليمنيون يسيطرون على جانبه الشرقي بين أواخر 2014 ومنتصف 2018 قبل أن تستولي القوات المدعومة من الإمارات على مساحات كبيرة من الأراضي الساحلية.
ركزت أبوظبي ودبي أيضًا على تنويع اقتصادهما من خلال الاستثمار، ليس فقط في مراكزهما التجارية والسياحية، ولكن أيضًا في المراكز الموجودة في جميع أنحاء المنطقة.
وتدرك الإمارتان تمام الإدراك إمكانات جيرانهما، وتركيز مبادرة الحزام والطريق الصينية تركيزًا كبيرًا على اقتصاداتهم (وصل هذا التركيز بالفعل إلى أبوظبي في شكل استثمار بقيمة 300 مليون دولار في ميناء خليفة).
يلفت العديد من الأشخاص الذين أجرى معهم الباحث مقابلات إلى أن هذا الواقع أدى إلى نهج مزدوج يجمع بين السعي لتطوير محاور تجارية محتملة في الجوار وتقييد مجال النفوذ ومساحة الأنشطة المحتملة لإيران وقطر وتركيا.
وبينما تحتل الإمارات الآن مواقع عسكرية واقتصادية في المكلا وعدن والمخا (اليمن) وبوساسو (بونتلاند / الصومال) وبربرة (أرض الصومال / الصومال) وعصب (إريتريا)، اقتصر الاهتمام القطري والتركي على مقديشو والسودان.
في بعض الأحيان، تؤدي هذه المنافسة الاستراتيجية / الاقتصادية إلى عواقب غير متوقعة على الإطلاق. ففي عام 2017، على سبيل المثال، وردا على حصار الرباعية العربية، سحبت قطر قواتها لحفظ السلام من المناطق الحدودية بين جيبوتي وإريتريا، ما أثار مخاوف من اندلاع مواجهة عسكرية بين جيبوتي وإثيوبيا من جانب وإريتريا من جهة أخرى.
ويشير الكاتب إلى أن جهود أبوظبي اللاحقة لإقامة علاقات مع أديس أبابا مكنتها من لعب دور وسيط بين إثيوبيا وإريتريا، وحال دون نشوب صراع كان من شأنه أن يعطل أنشطتها في عصب، وبالتالي في اليمن، مما أدى في نهاية المطاف إلى اتفاق السلام الذي توسطت فيه الإمارات بين البلدين.
تخلص الورقة إلى أن السياسة الخارجية والأمنية لدولة الإمارات تمنح الأولوية لحماية الممرات التجارية الحيوية، مع تعزيز العلاقات التجارية، وتجفيف منابع الدعم لجماعة الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية السنية الأخرى، وبناء تحالفات في الخارج، والتخفيف من خطر التوسع الإيراني دون إثارة مواجهة مباشرة مع طهران.
وتشير الإجراءات التي تتخذها الإمارات في هذا السياق إلى شعور متزايد في أوساط الدائرة الأساسية لصناع القرار بأنهم يقفون على قدم المساواة مع اللاعبين الآخرين في المنطقة، وأنهم لا يستطيعون التعويل فقط على الدعم المقدم من الضامنين التقليديين للأمن الإقليمي.
انطلاقًا من هذا الشعور، أظهرت أبوظبي إقدامًا أكبر على المخاطرة، وأصبحت أكثر استعدادًا للتعامل مع الفوضى إذا كانت تخدم مصالحها على المدى الطويل، على غرار ما يقال عن إيران.
ويلفت الباحث إلى أن صراع السلطة مع الإخوان على وجه الخصوص لعبة محصلتها صفر، لا بد وأن تنتهي برابحين وخاسرين؛ ولذلك أيقنت الإمارات أن تحقيق النتائج التي ترجوها قد يستغرق عقودًا، وهو أفق زمني أطول بكثير من أي دورة لصنع السياسات في الغرب. ويلفت أحد المحللين الذين قابلهم الباحث إلى أن الإماراتيين يتطلعون إلى نهاية النفق، ويؤمنون بإمكانية تحقيق أهدافهم، وهم على استعداد لاستخدام أي وسيلة لتحقيق ذلك أيًا كان الثمن.
دائرة صغيرة من صناع القرار
وجهة النظر القوية التي يعبر عنها القادة الإماراتيون، والوضوح الذي يتحدثون به عن الأمور الإقليمية، يؤدي غالبًا إلى شعور بأن أبوظبي تعمل انطلاقًا من خطة رئيسية صاغها “أبناء فاطمة”، أي أن سياساتها تنبع من رؤية استراتيجية طويلة المدى.
لكن الورقة تخلص إلى أن هذا الانطباع قد يكون مضللًا، أو على الأقل يخلط بين وجود رؤية واسعة للمنطقة، والتحرك وفق استراتيجية محددة بعناية.
استنادًا إلى المقابلات التي أجراها الباحث مع المسؤولين الإماراتيين والأجانب الذين عملوا في الحكومة الإماراتية والمحللين والدبلوماسيين وغيرهم من المسؤولين الأجانب الذين لديهم خبرة في العمل مع الإمارات، استطاعت الورقة رسم ملامح أسلوب الحكم الذي يتبعه محمد بن زايد.
يعتمد ولي العهد على دائرة داخلية صغيرة من المستشارين الموثوق بهم، يبلغ عددهم حوالي 12 شخصًا، بحسب العديد من التقديرات، لتزويده بخيارات السياسة، وتقديم وجهات نظر فردية يدافع عنها أصحابها.
تشمل هذه العملية مساهمات من الدبلوماسيين العاملين في الخارج – الذين يمكنهم استشراف التأثير المحتمل للقرارات في العواصم الأجنبية – وعملية البحث والتحليل التي تصدر بها تكليفات من الوزارات الإماراتية، وكوكبة من بيوت الاستشارات ومراكز الفكر ومؤسسات البحث التي ترسخت في الإمارات على مدى العقد الماضي.
ومن أبرز هؤلاء المستشارين أربعة من الإخوة الأشقاء لمحمد بن زايد: وزير الخارجية (عبد الله) والشؤون الرئاسية (منصور) ومستشار الأمن القومي (طحنون) ورئيس المخابرات (هزاع). أما حمدان، أكبر أبناء فاطمة الذي كان يُنظر إليه يومًا على أنه الزعيم الفعلي للمجموعة، فجرى تهميشه إلى حد ما منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ لأسباب لا تزال غامضة وتثير تكهنات عريضة.
كما يتولى بعض “أبناء موزة” – زوجة الشيخ زايد الأخرى – أدوارًا رئيسية على المستوى الاتحادي وداخل المجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي. وتشير الورقة إلى أن بعضهم يحظى بنفوذ خاص، وعلى رأسهم وزير الداخلية سيف بن زايد، والمدير العام لهيئة أبوظبي للاستثمار حامد بن زايد.
ويشير الباحث إلى أن صعود “أبناء فاطمة” تزامن مع تقليص تواجد الحرس القديم في الوزارات الرئيسية – يرتبط الكثير منهم بالشيخ خليفة – وتوظيف كادر جديد من الموظفين المدنيين الذين تتجاوز آفاقهم الحدود القبلية والولاء السياسي.
كما يحرص محمد بن زايد على تعيين أفراد موالون له في المناصب الرئيسية – بحسب مستشار سابق عمل في الإمارات – مثل يوسف العتيبة، سفير الإمارات في الولايات المتحدة، وخلدون خليفة المبارك، عضو المجلس التنفيذي لإمارة أبوظبي وجهاز الشؤون التنفيذية والرئيس التنفيذي لشركة مبادلة للتنمية – صندوق الثروة السيادي لإمارة أبوظبي – ورئيس مجلس إدارة سيتي جروب، الشركة المالكة لنادي مانشستر سيتي والعديد من أندية كرة القدم الأخرى، التي أصبحت أداة مهمة لقوة الإمارات الناعمة.
من الأسماء الأخرى التي تسلط الورقة عليها الضوء: علي الشامسي، رئيس جهاز المخابرات الإماراتية، الذي يضطلع أيضًا بدور مهم. ومع ذلك، يدفع بعض المراقبين بأن هناك فارق بين التأثير النسبي لـ”أبناء فاطمة”، وغيرهم من أفراد العائلة المالكة، الذين يطلق عليهم “المحافظون”.
وتعتمد الإمارات أيضًا على المواهب الخارجية لسد الفجوات في القدرات التي تفتقر إليها الدول الشابة سريعة النمو في العادة:
على مستوى الجيش الإماراتي، يبرز اسم الأسترالي مايك هندمارش، قائد الحرس الرئاسي الإماراتي (يشمل القوات الخاصة التي لعبت دورًا رئيسيًا في عمليات الإمارات العسكرية في الخارج).
وفي المجال الاقتصادي، يبرز اسم ماوريزيو لا نوس، الرئيس التنفيذي السابق لقسم النفط والغاز في شركة مبادلة، باعتباره أحد المقربين من ولي العهد.
علاوة على ذلك، أصبح “أبناء فاطمة” يعتمدون على عدد من الأفراد الذين تربطهم علاقات بشخصيات وجماعات مؤثرة في الخارج. ولعل أبرزهم محمد دحلان، رئيس جهاز الأمن السابق في غزة، الذي يعمل الآن “مستشارا” لمحمد بن زايد، و”يبدو متواجدًا في كل مكان الآن” – على حد قول مسؤول غربي – من غزة ومصر وليبيا إلى صربيا والصومال.
يلفت الباحث إلى ملاحظةٍ توافق عليها معظم الدبلوماسيين والمسؤولين الإماراتيين وغيرهم مفادها أن التحدي الأساسي الذي يواجه أبوظبي في هذا الصدد هو أن عدد الأشخاص المشاركين في عملية صنع القرار صغير جدًا، وبالتالي تصبح كل هذه المهام المتشعبة فوق طاقتهم في بعض الأحيان.
والعدد الذي أجمع عليه المراقبون هو 10-20 شخصًا يتمتعون بمكانة تُمَكِّنهم من تقديم المقترحات ومناقشة السياسات مع محمد بن زايد، الذي هو في الواقع صانع القرار النهائي.
حتى أن مسؤولا إماراتيًا يقول إن “صناع القرار لا يهنأون بقدر كافٍ من النوم”. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى خلق فراغات في عملية وضع السياسة، وغرس الشعور بالانفصال بين موظفي الخدمة المدنية الذين تتمثل مهمتهم في البحث والتحليل وصياغة السياسات.
وعندما تتعامل أبوظبي مع أزمات متعددة، تميل إلى أن تتبنى نهجًا أكثر تكتيكية وتفاعلية. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى اختراقات مثل تقدم حفتر على جبهة طرابلس في منتصف عام 2019، بتشجيع سعودي وأمريكي، لكنه في أحيان أخرى قد يؤدي إلى رد فعل مبالغ فيه مثلما حدث في مقديشو حين انسحبت الإمارات من البلاد ووثقت علاقاتها مع الأقاليم الانفصالية.
التحالفات الناشئة
من بين أكبر تحولات السياسة الخارجية الإماراتية على مدى العقد الماضي، تسلط الورقة الضوء على علاقة أبوظبي بالرياض، التي تحولت من عدم الثقة المكتومة إلى علاقة عمل وثيقة، على الرغم من بعض الاختلافات الدقيقة بينهما.
برز هذا التحوُّل بعد عام 2011، في البداية رد فعل على الانتفاضات العربية، ثم نتيجة للعلاقة القوية بين محمد بن زايد ومحمد بن سلمان. لكن عمليًا، يجد المسؤولون السعوديون صعوبة في التماشي مع نظرائهم الإماراتيين خاصة على صعيد القضايا الحرجة مثل اليمن.
ورصدت الورقة تغييرا واضحًا في العلاقة بين البلدين منذ عام 2018، وهو ما ظهر بعد اغتيال جمال خاشجقي داخل القنصلية السعودية في اسطنبول في أكتوبر من ذلك العام، وتجسد في اختلاف مواقف البلدين تجاه ليبيا والسودان، والأهم من ذلك اليمن.
لكن العلاقة بين المحمدين بن زايد وبن سلمان ظلت ودية، ويشعر كبار القادة الإماراتيون أنه ليس لديهم خيار سوى مواصلة الرهان على ولي العهد السعودي باعتباره خير من يقود تحوُّل المملكة نحو نموذج أكثر انفتاحا – على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي – وأقل تديُّنًا.
تنتقل الورقة للحديث عن الشراكة مع مصر والأردن، وتلفت إلى أن التقارب مع هذين الحليفين لم يمنع من وجود بعض المقاومة من النخبة العسكرية في القاهرة لمحاولات الإمارات تعزيز نفوذها في الداخل، وبعض الشكاوى من المسؤولين العمانيين لنظرائهم الغربيين من مخاطر النهج الخليجي – بما في ذلك الإمارات – على الاستقرار الإقليمي، خاصة منذ اندلاع الخلافات داخل البيت الخليجي في عام 2017.
ثم تفاقمت التوترات مع عمان في عام 2019 عندما فرت هيا بنت الحسين، أخت العاهل الأردني الملك عبد الله وزوجة الشيخ محمد بن راشد من الإمارات إلى لندن، وشنت من هناك سلسلة اتهامات لاذعة ضد حاكم دبي.
جرأة إماراتية على تحدي المعايير الدولية
اتُّهِمَت الإمارات في بعض الأحيان، بالتدخل في شؤون الدول الغربية، مثل وساطتها لعقد لقاء بين الروس وممثلي ترامب، أصبح لاحقًا جزءًا من تحقيق مولر حول التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية.
ولم تخش أبوظبي أن تتخذ إجراءات لا تتوافق مباشرة مع المعايير الدولية، حتى تلك التي وافق عليها مجلس الأمن الدولي (على الرغم من أن هذا بالطبع لا يختلف عن الطريقة التي يتصرف بها بعض أعضاء مجلس الأمن أنفسهم).
يستشهد الباحث على ذلك بالدعم الإماراتي لخليفة حفتر الذي يتعارض مع موقف مجلس الأمن بشأن العملية السياسية في ليبيا، ويمكن أن يمثل انتهاكًا لحظر الأسلحة الذي يفرضه مجلس الأمن. كما أن بناء قاعدة عسكرية إماراتية بالقرب من الميناء العميقة الإريترية في عصب، وعلاقات أبوظبي الطيبة مع القيادة العسكرية الإريترية، قد يمثل أيضًا خرقًا لعقوبات مجلس الأمن.
في ظل التراجع الأمريكي الملحوظ من المنطقة، والتدقيق المتزايد من الصحافة الغربية لسلوك الإمارات، لجأت أبوظبي أيضًا إلى توثيق علاقاتها الاقتصادية والدبلوماسية مع القوى العالمية الأخرى منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وفي هذا السياق، زار الرئيس الصيني شي جين بينج الإمارات في عام 2018، وهي الزيارة الأولى التي يقوم بها رئيس صيني إلى الإمارات منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، أعقبتها زيارة قام بها محمد بن زايد إلى الصين في العام التالي. وعلى النسق ذاته، وثق محمد بن زايد علاقته مع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي.
وفي حين أن المصالح الاقتصادية تلعب دورًا مهمًا في كل هذه الارتباطات، يلفت الدبلوماسيون الغربيون والمراقبون الإقليميون إلى وجود عامل آخر يتمثل في النموذج الاستبدادي الذي يتماشى مع توجهات الإمارات، وهو ما يتجسد في التقارب بين محمد بن زايد والرئيس الروسي فلاديمير وبوتين.
استنتاجات ختامية
تقول الورقة: إن الإمارات مثال نادر على مشروع بناء الدولة في الشرق الأوسط، الذي توافر له مزيج من وفرة الموارد، والموقع الجغرافي الاستراتيجي، والتطوير المؤسسي، والرؤية السياسية والاقتصادية المستقبلية؛ لتحقيق التنمية الاقتصادية، ونشر القوة الناعمة والصلبة.
من نواحٍ عديدة، قد تكون المجموعة الحالية من صناع القرار في أبوظبي ضحايا لنجاحهم الشخصيّ- حسبما يحذر الباحث- ذلك أنهم بنوا مثل هذا المركز القيادي بسرعة كبيرة لدرجة أن المكانة التي وصلوا إليها كانت في كثير من الأحيان تتجاوز طاقتهم، بينما يحاولون مواجهة التحديات الجديدة وجها لوجه.
هناك أيضًا خطر الوقوع في فخ الغطرسة الناتجة عن الثقة المفرطة. ومشكلة الإمارات في المستقبل، في رأي دبلوماسي أجرى الباحث معه مقابلة في إطار إعداده لهذه الورقة، هي أنها “لم تخسر أبدًا” على مدى العقدين الماضيين، ونجت من أي تدقيق ذي معنى في الخارج، حتى عندما تتسم أفعالها بالتهور، وتكون مزعزعة لاستقرار مصالح شركائها.
وكانت هناك تكاليف لهذا الصعود الصاروخي في الداخل أيضًا: على وجه الخصوص، أسفرت حرب اليمن عن مشاهد تظهر إماراتيين (معظمهم من الإمارات الشمالية الأكثر فقرًا) عائدين إلى الوطن جثثًا معبأة في أكياس. كما عانى اقتصاد الإمارات – خاصة دبي – نتيجة الحصار المفروض على قطر، وحملة إدارة ترامب لممارسة “أقصى ضغط” على إيران.
كما تختلف رؤية الإمارات للمنطقة تمامًا عن الفكرة التي تتبناها معظم الحكومات الغربية حول ما هو مطلوب لبناء مستقبل مستقر وآمن للشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فالإمارات تفضل الأوتوقراطيات التنموية، التي يقودها رجال أقوياء يديرون أجهزة أمنية قوية ويقمعون حرية التعبير، ولكن ليس هناك ما يضمن قابلية هذا النموذج للتكرار أو الاستدامة.
في الواقع، بدأت العيوب تظهر في تلك الرؤية التي جُرِّبت في البلدان الفقيرة والأكثر اكتظاظًا بالسكان، مثل: مصر منذ عام 2013. كما تدرك الحكومات الغربية جيدًا أيضًا أن الإمارات تركز تركيزًا متزايدًا على بناء علاقات مع خصوم الغرب الجيوسياسيين، مثل روسيا والصين، في محاولة لتحقيق التوازن بين المصالح الاقتصادية والسياسية.
كما أن القيود المتعلقة بالقدرات، والمفروضة على مستوى صنع القرار في الإمارات، تثير القلق أيضًا، مما يؤدي في بعض الأحيان إلى اتخاذ قرارات تكتيكية قصيرة المدى، يعاد صياغتها بأثر رجعي كاستراتيجية. ويمكن أن يكون لهذه القرارات تداعيات ضارة، مثلما حدث في حالة مقديشو.
قد يتغير هذا، كما يدعي المسؤولون الإماراتيون، لكن “أبناء فاطمة” لا يزالون يكافحون للتعامل مع زيادة التدقيق العام، وسيتعين عليهم إدراك أن العلاقات الاستراتيجية لها حدود. يقول الباحث: لا تزال أمام الحكومات الغربية فرصة للتأثير على أبوظبي، ولكن يجب أن يضع الغرب في اعتباره أنهم لم يعودوا في وضعٍ يتيح لهم إعطاء محاضرات لقادة الإمارات حول الطريقة التي يعمل بها العالم.
وتزداد قناعة الإمارات بأن علاقتها مع الغرب علاقة متكافئة، ويُحسِن الدبلوماسيون الغربيون صُنعًا إذا اعترفوا بذلك – كما ينصح الباحث – ويجب أن يفهموا أيضًا أن الإمارات وإن كانت دولة لديها مؤسسات، فإن الأفراد الذين يحكمون هم الذين ينبغي أن يُضغَط عليهم ويُقنَعون بالقضايا السياسية الرئيسية.
ويتعين على حلفاء الإمارات أيضًا أن يفهموا أين يكمن نفوذهم، وأن يكونوا على استعداد لاستخدامه. وتلفت الورقة إلى أن الإمارات تدرك تمامًا صورتها الدولية؛ إذ حاولت عزل قطر، واتهمت بتمويل انقلابات في الخارج، وحاولت التأثير على الحكومات الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، خارج القنوات الدبلوماسية التقليدية.
لكن على الرغم من ذلك كله، لم تكن هناك استجابة عقابية، ويرجع ذلك جزئيًا إلى المخاوف الغربية من خسارة شريك مهم. ولكن إذا كان الغرب يعتقد أن الإمارات شريك قوي وناضج، ينصحهم الباحث بأن يكونوا أكثر استعدادًا لمعارضتها.