انقلب السحر على الساحر وارتد الترويج المبالغ فيه من النظام الحاكم لدولة الإمارات لزيارة بابا الفاتيكان فرنسيس إلى أبو ظبي بنتائج عكسية في ظل سلسلة تقارير حقوقية ومقالات صحف دولية سلطت الضوء على انتهاكات الإمارات وسجلها الحقوقي الأسود.
وجاء ذلك بخلاف ما سعى إليه النظام الحاكم في الإمارات من تلميع لصورته والتغطية على جرائمه من خلال مناسبة استقبال أول زيارة لبابا الفاتيكان إلى شبه الجزيرة العربية.
لكن الزيارة التي وصفت بالتاريخية حملت بما لا تشتهى سفن حكام الإمارات تسليط دولي للضوء على الإمارات وانتهاكاتها الجسيمة لحقوق الإنسان داخليا وخارجيا وتوجيه مكثف للانتقادات على ممارساتها.
وبدلا من الترويج الزائف لتبني الإمارات شعار التسامح وسماحها بحرية ممارسة الشعائر الدينية، فإن ما ظل يبرز في الصورة انتهاكات أبو ظبي لحقوق الإنسان وخصوصا جرائمها في حرب اليمن.
خرق للمحرمات
يلتزم البابا في كثير من الأحيان الدبلوماسية لحظة وصوله لأي بلد يسافر إليه، بل ويفضل أن ينتظر ويغادر البلد ثم يوجه له الانتقادات.
لكن البابا لم يكتف بما صرح به قبيل مغادرته روما، متوجهاً إلى أبوظبي، عندما حث في عظته المعتادة بمدينة الفاتيكان كل أطراف الصراع في اليمن على تنفيذ الاتفاق والمساعدة في توصيل المساعدات، بل إنه كان صريحاً واستثنائياً أيضاً خلال كلمته التي ألقاها في أبو ظبي.
فقد أثار البابا قضايا يفضل حكام الإمارات عدم مناقشتها أو التطرق لها علناً، وأكد في خطاب ألقاه أمام مئات الزعماء من الطوائف الدينية على ضرورة أن تتوقف الإنسانية عن ارتكاب العنف باسم الدين.
وقال فرنسيس “تتطلب الأخوة البشرية منا، كممثلين عن ديانات العالم، رفض بكل الوضوح كلمة الحرب” وهو ما شكل إحراجا هائلا لحكام الإمارات.
وندد فرنسيس “بمنطق القوة المسلحة” في اليمن وسوريا وغيرها من الحروب في الشرق الأوسط وقال للمسيحيين والمسلمين إن الصراعات لا تجلب سوى البؤس والموت.
والإمارات تشارك بقوة في حرب اليمن، التي أدت إلى مقتل عشرات آلاف الأشخاص، وجعلت نحو 16 مليون شخص على شفا المجاعة على مدار 4 أعوام.
حقوق المواطنة في الإمارات
تطرق البابا أيضاً إلى ملف قد تعتبره الإمارات شأناً داخلياً، فدعا الدول في جميع أنحاء الخليج إلى تعديل قانون المواطنة للأقليات الدينية.
وبعد أن أثنى البابا على حرية العبادة في الإمارات، والتنمية المثمرة فيها، قال إن هناك بعض القيود على حقوق المهاجرين من غير المسلمين.
وأضاف: “أتطلع إلى مجتمعات يتمتع فيها الأشخاص من ذوي الأديان المختلفة بنفس الحق في المواطنة، ولا يتم نزع هذا الحق إلا في حالة العنف بأي شكل من أشكاله”.
والحصول على المواطنة في الإمارات من الأمور الصعبة، كما أن الطوائف الدينية غير المسلمة تمارس عباداتها خلف الجدران المغلقة فقط بحسب صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.
وأشارت الصحيفة إلى أنه تم حظر جماعات حقوق الإنسان في الإمارات كانت تقوم بإجراء بحوث في البلاد.
تزكية للاستبداد
صرح الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين علي القره داغي إن الاتحاد يؤيد الحوار والزيارات والتواصل مع المؤسسات الدينية والمدنية، لكنّ زيارة بابا الفاتيكان إلى أبو ظبي المنخرطة في كبت الحريات ودعم الانقلابات وفي حرب عدوانية على إرادة الشعوب والحصار الظالم لدولة عربية مسلمة، هي زيارة قد تفسر بأنها تزكية لانتهاك حقوق الإنسان والاستبداد.
وضمّ الاتحاد صوته إلى أصوات المنظمات الحقوقية في دعوة البابا إلى مطالبة حكام الإمارات بإطلاق سراح السجناء، وإنهاء الحروب والفتن، ورفع الحصار عن دولة قطر.
وأضاف الاتحاد أن الإمارات تناقض الشعار الذي رفعه حكامها للعام الحالي بأنه عام التسامح، بينما لم يَبدُ منهم أي تسامح مع مواطنيهم ولا مع ضيوفهم الرياضيين القطريين.
ضغوط حقوقية على البابا
تصاعدت دعوات منظمات حقوقية دولية لدولة الإمارات إلى أن تظهر التسامح مع شعبها وتوقف قمعه بدل التباهي باستضافة ما أسمته مؤتمرا عالميا للأخوة الإنسانية بمناسبة استقبالها بابا الفاتيكان.
وقالت منظمة العفو الدولية (أمنستي) عبر حسابها في تويتر إن الإمارات تحاول إطلاق وصف “عام التسامح” على 2019، وإن سلطات أبو ظبي تسعى لجعل زيارة فرانشيسكو بابا الفاتيكان بمثابة دليل على احترامها للتنوع.
وتساءلت أمنستي عما إذا كان ذلك يعني أن الإمارات مستعدة للتراجع عن “سياسات القمع الممنهج” ضد كل أشكال المعارضة والنقد.
وشددت المنظمة على أن الأمر يتطلب أكثر من عقد اجتماعات رمزية للتغطية على سجل الإمارات المروّع في مجال حقوق الإنسان.
وأضافت أن العديد من المدافعين عن حقوق الإنسان مثل أحمد منصور وناصر بن غيث ومحمد الركن -الذين سُـجنوا لمجرد ممارستهم لحقهم في حرية التعبير- لن يتمكنوا من حضور مراسم استقبال البابا.
ودعت أمنستي البابا إلى إثارة قضية النشطاء الحقوقيين المعتقلين بسجون الإمارات مع المسؤولين بأبو ظبي، ودعت إلى إطلاقهم فورا دون قيد أو شرط.
وشددت على أنه إذا كانت السلطات الإماراتية جادة بشأن الإصلاح فعليها إلغاء القوانين والممارسات التي تكرس التمييز، وأن تعمل على إطلاق جميع سجناء الرأي.
من جهتها، طالبت هيومن رايتس ووتش بابا الفاتيكان بالضغط على الإمارات لوقف الانتهاكات الحقوقية الجسيمة التي ترتكبها قواتها في اليمن، وإنهاء قمعها للمنتقدين بالداخل.
وفي رسالة إلى البابا، قالت ووتش إن للإمارات دورا بارزا في العمليات العسكرية باليمن، من قصف المنازل والأسواق والمدارس وعرقلة المساعدات الإنسانية واستخدام الذخائر العنقودية.
وأضافت أن سلطات الإمارات تعتدي باستمرار على حرية التعبير وتكوين الجمعيات منذ عام 2011، وأن آلاف العمال المهاجرين هناك معرضون بشكل كبير للعمل الجبري.
كما دعت مؤسسة سكاي لاين الحقوقية، ومقرها السويد، فرانشيسكو إلى إثارة مسائل انتهاك الخصوصية والقرصنة الإلكترونية والتجسس مع المسؤولين بالإمارات. ووصفت المجموعة تلك الانتهاكات بأنها واسعة النطاق بحق مواطنين ومقيمين.
وقالت المؤسسة إنها سجلت منذ سنة 2011 إقدام السلطات الإماراتية على إخراس المعترضين والمنتقدين من ناشطين ومحامين وأكاديميين وصحفيين من خلال الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب وسوء المعاملة.
كما دعت البابا إلى إثارة ما توصل إليه تحقيق وكالة رويترز من قيام عملاء استخبارات أميركية بالعمل لصالح الإمارات في جنوب اليمن.
حملة من صحف دولية
بموازاة ذلك اهتمت الصحف الدولية بنشر تقارير ومقالات ترصد زيارة بابا الفاتيكان لكن ليس كما يتوهم حكام الإمارات بالترويج لصورتهم وسجلهم الحقوقي الأسود أو كما يفعل الإعلام الرسمي في الإمارات.
إذ أن الإعلام الدولي أبرز انتهاكات الإمارات لحقوق الإنسان.
ومن أمثلة ذلك نشر الكاتب الفرنسي جورج مالبرونو مقالا تحدث فيه أن أبو ظبي عاصمة دولة الإمارات تضع مكافحة التنظيمات الإسلامية على رأس أولوياتها، في حين تتسامح مع الأديان الأخرى غير الإسلام، بما في ذلك الكاثوليكية، مما جعل البابا فرانشيسكو يخصها بالزيارة.
ويضيف مالبرونو في مقال نشرته صحيفة لوفيغارو أن الحرب على “الإسلام الراديكالي” -خاصة الإسلام السياسي- أصبحت هوسا لدى أبو ظبي، حيث لم تعد تكتفي بوضع تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة وحزب الله اللبناني على لوائحها السوداء للإرهاب، بل وضعت عليها الفرع الفرنسي لجماعة الإخوان المسلمين والاتحاد السابق للمنظمات الإسلامية في فرنسا الذي أصبح معروفا بـمسلمي فرنسا.
ويشير إلى أن أبو ظبي تعتبر كل الضربات مسموحة في هذه الحرب ضد الإسلاميين.
ويضيف الكاتب أن أبو ظبي -التي أعلنت 2019 عام التسامح- منعت في الوقت نفسه المشجعين القطريين من حضور نهائي كأس آسيا لكرة القدم الذي فازت به قطر، وهي خطوة في غاية عدم التسامح، بحسب ما يشير إليه العديد من مستخدمي الإنترنت في انتقادهم للإمارات.
ويضيف مالبرونو أن العمال الأجانب في الإمارات -خلافا للسعودية- إذا تمكنوا من ممارسة الديانة الكاثوليكية فإن السلطات تتحكم في ممارساتهم الدينية وتقمع أي احتجاج سياسي أو استغلال للدين.
وينسب الكاتب إلى مسؤول إماراتي قوله “نحن نتدخل في خطب الجمعة من أجل المصلحة العامة، ولتجنب انتشار خطاب الكراهية الذي رأيناه في العديد من البلدان، بما في ذلك أوروبا”.
ويضيف أنه في بلد السكان فيه مراقبون خفية وبشكل صارم فإن اتهام المخابرات أي شخص بأنه عدو يسمح للسلطات بقمع يتجاوز حد المعقول، ومثال ذلك سجن الإمارات باحثا بريطانيا أربعة أشهر قبل العفو عنه في نهاية العام الماضي.
من جهته حث ديتمير بيبر -في مقال نشرته له مجلة دير شبيغل الألمانية- بابا الفاتيكان على مجاهرة حكام الإمارات بـ “الوجه الشرير” لبلدهم.
واستهل الكاتب مقاله بعنوان “الوجه الشرير” مشيرا إلى انتشار لافتات دعائية عملاقة عبر الطرق والشوارع في كل مكان بمدينتي أبو ظبي ودبي، وعليها صور لحكام الإمارات بوجوه ضاحكة.
ويضيف أنه رغم ما تعكسه هذه الصور من رغبة شيوخ الإمارات في الترويج لأنفسهم كقادة أذكياء وتقدميين ومستنيرين، فإن شقوقا تظهر بين حين وآخر بهذه الاستعراضات الدعائية، مثلما حدث قبل أيام أثناء تكريم الفائزين بجوائز مسابقة للمساواة بين الجنسين.
ويشير الكاتب إلى أن حاكم دبي ظهر في الصورة الرسمية لهذا الاحتفال بين أربعة رجال لم تكن معهم سيدة واحدة، وهو ما جعل هذه الصورة تبدو مضحكة وتثير موجة واسعة من السخرية على وسائل التواصل الاجتماعي في العالم.
ويقول إنه على العكس من الضحك الذي أثارته هذه الصورة، فإن الكثير مما يقع ويجري في الإمارات لا يبعث على الرضا، خاصة ما كشفت عنه منظمة هيومن رايتس ووتش في تقريرها السنوي من تردي أوضاع حقوق الإنسان في هذه البلاد.
واعتبر الصحفي الألماني أن ما وثقه تقرير المنظمة الحقوقية أظهر الوجه الشرير للإمارات، وأوضح أن ووتش خلصت إلى أن الحكم على الناشط الحقوقي أحمد منصور بالسجن عشر سنوات -لمجرد انتقاده لقيادة بلاده- يظهر أن الإمارات أصبحت بلادا مخيفة وغير آمنة للصحفيين والأكاديميين والنشطاء والناقدين.
ويذكر أنه رغم الانتقادات التي أثارها الحكم القضائي على الناشط البارز، فإن الغضب العالمي من تردي الأوضاع الحقوقية بهذا البلد الخليجي لا يبدو واضحا، وذلك لأن شيوخ أبو ظبي ودبي نجحوا باستغلال الثروة النفطية في الترويج لبلدهم كمقصد سياحي يمكن لزائريه أن يشعروا وكأنهم يعيشون في الغرب.
كما أن إطلاق حكام الإمارات وصف عام التسامح على 2019 -كما يشير الكاتب- سيكمل صورة يسعون لترويحها مع الزيارة التي بدأها اليوم البابا لأبو ظبي حيث سيفتتح كنيسة كاثوليكية تعتبر الأولى من نوعها التي تقام فوق أرض شبه الجزيرة العربية.
ويختتم الكاتب بأن بابا الفاتيكان بإمكانه تحويل هذه الزيارة لفرصة تاريخية إن تحدث بوضوح مع شيوخ الإمارات عن المساوئ الموجودة في بلدهم.