كشف مركز دراسات دولي عن الطبيعة المثيرة للجدل للتغلغل الإماراتي في أفريقيا خلال السنوات الأخيرة، والبُعد الخفي الذي يرافق استثمارات أبو ظبي في القارة والذي يتداخل فيه المال الفساد بالسياسة بهدف تعزيز نفوذها المشبوه.
وأبرز تقرير صدر حديثًا عن مركز ستراسبورغ للسياسات (SPC)، أن دولة الإمارات استثمرت مليارات الدولارات في قطاعات مختلفة عبر القارة الأفريقية، من البنية التحتية والطاقة إلى التعدين والعقارات، في ما بدا للوهلة الأولى وكأنه مساهمة إيجابية في التنمية الاقتصادية للدول الأفريقية.
غير أن هذه التدفقات المالية، بحسب تقرير SPC، كانت مصحوبة بمخاطر جسيمة تتعلق بـالفساد المستشري، وغسل الأموال، والتهرب الضريبي، والتأثير السياسي غير المشروع.
في مقارنة صريحة بين سياسات التمويل الغربي وتلك الخليجية، يشير التقرير إلى أن الإمارات أصبحت الخيار المفضل للنخب الحاكمة في عدد من الدول الأفريقية، بسبب خلوّ عروضها الاستثمارية من الشروط السياسية المرتبطة بحقوق الإنسان والحوكمة الرشيدة.
فبينما تضع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي معايير تتعلق بالديمقراطية والشفافية، تعرض الإمارات شراكات مبنية على المصالح الاقتصادية المباشرة، مع ضمان مستوى عالٍ من السرية والحماية القانونية.
دبي… الوجهة الأولى لغسل الأموال الأفريقية
أحد المحاور الأساسية في التقرير هو السرية المالية التي تتمتع بها إمارة دبي، والتي جعلت منها ملاذًا آمنًا للأصول غير المشروعة.
ويؤكد الباحثون أن القطاع المالي في دبي لعب دورًا محوريًا في تسهيل غسل الثروات المنهوبة من أفريقيا، عبر بنوك غير خاضعة للرقابة الصارمة، وشركات وهمية، وسوق عقارات فاخر يعاني من فجوات تنظيمية.
استند التقرير إلى معطيات وردت في تحقيقات عالمية، منها أوراق باندورا بعنوان “دبي المكشوفة”، ليُظهر كيف أن عشرات الشخصيات السياسية الأفريقية البارزة، والتي تُعرف بأنها “أشخاص معرضون سياسيًا” استخدمت النظام المصرفي الإماراتي لنقل الأموال وتبييضها، غالبًا من خلال شراء عقارات فاخرة في دبي وأبو ظبي.
الذهب والفساد… شبكة معقدة من التهريب
واحدة من أخطر القضايا التي تناولها تقرير SPC تتعلق بـالتهريب الواسع للذهب الأفريقي عبر الإمارات. فأبو ظبي باتت مركزًا رئيسيًا في تجارة الذهب غير الرسمية، مستفيدة من ضعف الأنظمة الرقابية في دول مثل السودان، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وغانا.
ويستشهد التقرير بفضيحة شركة كالوتي للمعادن الثمينة، التي كانت على علاقة باستيراد كميات ضخمة من الذهب دون إثبات مصادرها، في خرق واضح للمعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال.
هذا النمط من السلوك التجاري – بحسب التقرير – لا يُغذي فقط الفساد الداخلي في الدول المُصدّرة، بل يُضعف كذلك جهود الإصلاح والحوكمة فيها.
الإمارات والتدخل العسكري: دعم الفوضى من أجل المصالح
إلى جانب النفوذ الاقتصادي، يرصد التقرير تزايد التغلغل العسكري الإماراتي في أفريقيا، خصوصًا في مناطق النزاع مثل القرن الأفريقي والساحل. فقد دعمت الإمارات ميليشيات مسلحة، مثل قوات الدعم السريع في السودان.
كما أشار التقرير إلى أن الإمارات تحتفظ بقواعد عسكرية في إريتريا وأرض الصومال، مما يضعها في موقع استراتيجي مؤثر على خطوط الملاحة في البحر الأحمر.
هذا الحضور العسكري – بحسب الباحثين – ليس مجرد صدفة، بل جزء من عقيدة سياسية قائمة على تأمين النفوذ عبر شبكات القوة الصلبة والناعمة في آنٍ معًا.
التهرب الضريبي والممارسات التجارية المريبة
أوضح التقرير أن الإمارات لا تكتفي بتوفير بيئة مواتية لغسل الأموال، بل إنها توفر أدوات تنظيمية تمكّن الشركات من التهرب الضريبي، خصوصًا من خلال اتفاقيات الازدواج الضريبي التي وُقّعت مع عدد كبير من الدول الأفريقية.
وقد استخدمت هذه الاتفاقيات، بحسب التقرير، كآلية للتهرب من الالتزامات المالية، واستنزاف الإيرادات العامة في دول تعاني أصلًا من ضعف الموارد وتحديات التنمية.
وفقًا للتحقيقات المرفقة في التقرير، يمتلك أفراد من النخبة السياسية والمالية في نيجيريا، وزيمبابوي، وكينيا، وجنوب أفريقيا، ما يقرب من 800 عقار فاخر في إمارة دبي وحدها، تُقدّر قيمتها بمئات الملايين من الدولارات.
وتستخدم العقارات، التي غالبًا ما تُسجّل باسم شركات أو وكلاء، كأدوات لإخفاء الأصول وتفادي المساءلة في بلدانهم.
إصلاحات شكلية واستمرار الحماية
ورغم أن دولة الإمارات أعلنت عن خطوات لتعزيز أنظمتها لمكافحة الفساد، مثل الانضمام إلى بعض المبادرات الدولية وتعزيز التعاون مع المؤسسات المالية، إلا أن التقرير يُشكك في جدية هذه الخطوات، ويصفها بأنها “إصلاحات تجميلية لا تمسّ جوهر المشكلة”.
فالإمارات، بحسب التقرير، لا تزال توفر ملاذًا آمنًا للقادة الفاسدين، وتسهم عمليًا في تعميق فجوات التفاوت واللاعدالة في أفريقيا.
وفي ختام التقرير، يطالب مركز ستراسبورغ للسياسات المجتمع الدولي بـاتخاذ خطوات ملموسة لمواجهة التدفقات المالية غير المشروعة المرتبطة بالإمارات في أفريقيا:
فرض قيود صارمة على الاستثمارات المشبوهة.
كشف هوية الملاك الفعليين للعقارات والشركات في الإمارات.
تعزيز التنسيق بين الأجهزة المالية الدولية وهيئات مكافحة الفساد.
محاسبة الأفراد والشركات المتورطة في التلاعب المالي والتهرب الضريبي.
وفي ضوء هذا التقرير الكاشف، تبدو الإمارات وكأنها تُعيد رسم خريطة النفوذ في أفريقيا، لا عبر التنمية المستدامة، بل من خلال أدوات مشبوهة تعزز الفساد وتُقوّض الشفافية والحكم الرشيد. وبينما تستفيد النخب الأفريقية من هذا التحالف، تبقى الشعوب هي الخاسر الأكبر، في معركة لم تعد مالية فقط، بل سياسية وأخلاقية بامتياز.

