في قلب كل توسّع جديد لما يُسمّى «اتفاقيات أبراهام» يبرز اسم الإمارات العربية المتحدة بوصفها العرّاب الأكثر نشاطًا وجرأة في تسويق التطبيع مع إسرائيل خارج محيطه العربي التقليدي.
والسؤال حول ما إذا كان لأبو ظبي دور في انضمام كازاخستان إلى هذه الاتفاقيات لا يمكن فصله عن الاستراتيجية الإماراتية الأوسع، التي تجاوزت منذ سنوات حدود التطبيع الثنائي، لتتحول إلى مشروع سياسي–اقتصادي عابر للأقاليم، هدفه إعادة هندسة الاصطفافات الدولية بما يخدم إسرائيل أولًا، ويمنح الإمارات دور «الوسيط الذهبي» لدى واشنطن.
فمنذ توقيعها على اتفاقيات أبراهام، لم تتعامل الإمارات معها كخطوة سيادية معزولة، بل كمنصة انطلاق لبناء شبكة نفوذ جديدة.
وهذا النفوذ لا يقوم فقط على العلاقات الدبلوماسية، بل على الاستثمار، والضغط الاقتصادي، وتقديم «نموذج» يُسوّق على أنه ناجح: علاقات مفتوحة مع إسرائيل مقابل مكاسب اقتصادية، ورضا أمريكي، وتبييض للسمعة السياسية.
في هذا السياق، لا يبدو انضمام كازاخستان – الدولة النفطية الغنية وعضو منظمة التعاون الإسلامي – حدثًا عفويًا، بل حلقة جديدة في سلسلة توسّع مُخطط لها بعناية.
فالإمارات، بوصفها أحد أكبر المستثمرين الأجانب في كازاخستان، تمتلك أدوات ضغط فعّالة لا تقل أهمية عن الضغوط الأمريكية المباشرة.
وتضاعف الاستثمارات الإماراتية في أستانا خلال النصف الأول من عام 2025 رسالة سياسية واضحة بأن الاندماج في مشروع التطبيع العالمي يفتح أبواب المال والنفوذ، والتردد قد يكلّف الكثير.
هكذا تتحول الاستثمارات إلى رافعة سياسية، تُستخدم لدفع دول بعيدة جغرافيًا عن فلسطين، لكنها قريبة من الحسابات البراغماتية، نحو الاصطفاف مع إسرائيل.
الأخطر في الدور الإماراتي أنه يوفّر غطاءً «إسلاميًا» للتطبيع. فبدل أن تبقى اتفاقيات أبراهام محصورة في دول عربية واجهت شعوبها بالرفض والقمع، يجري الآن استقطاب دول مسلمة غير عربية، بعيدة عن ضغط الشارع العربي، لإعطاء الانطباع بأن التطبيع خيار طبيعي داخل العالم الإسلامي، وليس خروجًا فاضحًا عن الإجماع التاريخي الداعم لفلسطين.
بهذا المعنى، تصبح كازاخستان ورقة تبرير إضافية لأبو ظبي، تُستخدم للرد على الاتهامات بأنها انقلبت على إرادة شعوب المنطقة.
ولا يمكن فصل هذا المسار عن البعد الأمني. فالإمارات، التي بنت علاقتها مع إسرائيل على أساس التعاون الاستخباراتي والتكنولوجي، تسعى إلى تصدير هذا «النموذج» لحلفائها الجدد.
كازاخستان، التي تمتلك سجلًا حافلًا في قمع الاحتجاجات، لا سيما خلال أحداث يناير 2022 الدامية، ترى في الخبرات الإسرائيلية – التي روّجت لها أبو ظبي – ضمانة إضافية لاستقرار النظام، حتى وإن كان هذا «الاستقرار» قائمًا على المراقبة والتجسس وقمع الحريات.
برنامج «بيغاسوس» ليس تفصيلًا تقنيًا في هذه المعادلة، بل رمز لتحالف يقوم على تبادل الأدوات القمعية تحت غطاء الشراكة الاستراتيجية.
فالإمارات كانت زبونًا مبكرًا ومتحمسًا لهذه التكنولوجيا، واستخدمتها ضد معارضيها وناشطيها. وحين تُشجَّع دول مثل كازاخستان على السير في الطريق نفسه، فإن أبو ظبي لا تروّج للتطبيع فقط، بل لنموذج حكم أمني يجد في إسرائيل شريكًا مثاليًا.
سياسيًا، يخدم انضمام كازاخستان حاجة إماراتية ملحّة. فالمبادرة التي رُوّج لها باعتبارها «اختراقًا تاريخيًا» بدأت تفقد بريقها مع تعثّر السودان، وتراجع البحرين تحت ضغط الشارع، ورفض السعودية المضي قدمًا دون ثمن فلسطيني واضح.
هنا تظهر الإمارات كمنقذ للمشروع، تبحث عن «توسّع بديل» يعوّض الانكماش العربي، حتى لو كان ذلك على حساب توسيع دائرة التطبيع إلى ما وراء الشرق الأوسط.
في المحصلة، لا يمكن فهم انضمام كازاخستان إلى اتفاقيات أبراهام بمعزل عن الدور الإماراتي. أبو ظبي لا تكتفي بأن تكون أول المطبعين، بل تصرّ على أن تكون المُصدِّر الأبرز للتطبيع، والسمسار الذي يربط بين واشنطن وتل أبيب من جهة، ودول طامحة للرضا الأمريكي من جهة أخرى. إنها سياسة تقوم على تحويل التطبيع من خيار سياسي مثير للجدل إلى «منتج» قابل للتسويق عالميًا.
وفي هذا المشهد، تبدو فلسطين الغائب الأكبر، بينما يضحك عرّاب التطبيع وهو يوسّع دائرته، غير آبه بثمن أخلاقي أو سياسي.
