في مسرحية إعلامية ركيكة اعتاد عليها النظام الإماراتي، تكررت الحيلة القديمة: تقديم الشحنات العسكرية على أنها “رحلات إنسانية” أو أنها في إطار الإجلاء الطبي.
آخر فصول هذه المسرحية جرى في 23 أغسطس/آب 2025، حين كُشف عن هبوط طائرة شحن إماراتية من طراز Il-76 (الرحلة FY4942) في مطار رامون جنوب إسرائيل.
وبمجرد انتشار خبر الهبوط، سارع الإعلام الرسمي الإماراتي إلى ترديد الرواية الجاهزة: “هذه رحلة لإجلاء أطفال جرحى من غزة”.
لكنّ الحقائق تكشف الوجه القبيح للحكاية، وتفضح أن ما جرى لم يكن سوى عملية توريد سلاح متكاملة تحت غطاء إنساني زائف، على النحو التالي:
طائرة شحن لا طائرة إسعاف
أولاً، إن الطائرة التي استخدمتها أبوظبي ليست مهيأة لنقل المصابين أو الحالات الإنسانية، بل هي طائرة عسكرية للشحن الثقيل. فـ Il-76 طراز يُستخدم حصرياً لنقل المعدات والذخائر، ولا يتضمن تجهيزات طبية أو مقاعد إسعاف جوي، ما يجعل الادعاء بأنها مخصصة لإجلاء الأطفال الجرحى مجرد كذبة صريحة.
قاعدة عسكرية بدل مطار مدني
رواية “الإجلاء الإنساني” تهاوت أكثر عندما تبيّن أن الطائرة لم تحطّ في مطار مدني لاستقبال مرضى، بل هبطت في قاعدة “نِبَتيم” العسكرية، وهي منشأة استراتيجية تُستخدم لتخزين الذخائر الثقيلة وإدارة العمليات الجوية الإسرائيلية. هذا التفصيل وحده كافٍ لتفنيد أي مزاعم حول أهداف طبية أو إنسانية للرحلة.
مسار ملتوي بتنسيق مع تل أبيب
المفارقة الأخرى أن الطائرة حلّقت عبر الأجواء السعودية متجنبة الأردن، في مسار غير اعتيادي يعكس حساسية العملية. اختيار هذا المسار لم يكن قراراً تقنياً بريئاً، بل جاء بإيعاز مباشر من تل أبيب، في إطار تنسيق أمني دقيق بين أبوظبي وإسرائيل لضمان سرية العملية وتفادي أي اعتراض محتمل.
خلف الكواليس: شركات السلاح تتكفل بالباقي
مصادر مطلعة أكدت أن ما جرى لم يكن رحلة عابرة، بل عملية عسكرية لوجستية متكاملة رتبتها شركات إماراتية وإسرائيلية على النحو التالي:
شركة إيدج (EDGE) الإماراتية: رتبت العقود والغطاء الرسمي للعملية، وقدمتها كـ”دعم طبي” للإيهام أمام المجتمع الدولي.
شركة Elbit Systems الإسرائيلية: أشرفت على تجهيز وحدات اتصالات عسكرية ضمن الشحنة.
الصناعات الجوية الإسرائيلية (IAI): نسّقت عملية النقل والتخزين في مستودعات قاعدة نِبَتيم، حيث تُكدّس الذخائر الثقيلة التي ستُستخدم لاحقاً في القصف على غزة.
هذه الشركات لم تتحرك بمعزل عن قرار سياسي، بل بتنفيذ مباشر لتفاهمات بين أبوظبي وتل أبيب، تجعل من الإمارات ذراعاً تمويلياً ولوجستياً لآلة الحرب الإسرائيلية.
بين السودان وغزة: الوصفة ذاتها
هذه الحيلة ليست جديدة على الإمارات؛ ففي السودان، استخدم القصر الرواية نفسها لتبرير نقل الأسلحة إلى ميليشيات “قوات الدعم السريع”، حيث كان الإعلام الرسمي يزعم أن الرحلات الجوية تحمل “مساعدات طبية”، بينما كانت في الواقع تمد الميليشيات بالذخائر لإشعال الحرب الأهلية هناك.
واليوم، تُعاد القصة بحذافيرها مع غزة، مع اختلاف وحيد: الضحية هذه المرة هم أطفال محاصرون تحت القصف الإسرائيلي.
المتاجرة بالإنسانية
إن أخطر ما في هذه العملية ليس فقط نقل السلاح تحت غطاء “الإجلاء الطبي”، بل الانتهاك الأخلاقي المروع المتمثل في استغلال معاناة الأطفال.
ففي حين يواجه أهالي غزة المجاعة والحصار وانعدام الدواء، يخرج إعلام أبوظبي ليبشر بعملية “إنقاذ إنساني”، بينما الحقيقة أن الذخائر المنقولة ستُستخدم في سحق هؤلاء الأطفال أنفسهم.
عبارة واحدة تختصر المشهد: “لم تُنقلوا أطفالاً… بل نُقلت ذخائر لسحق الأطفال.”
وما يزيد الفضيحة فجاجة هو الخطاب المزدوج الذي تمارسه الإمارات. فبينما تسوّق نفسها كـ”راعٍ للسلام الإقليمي” و”شريك إنساني” للأمم المتحدة، تكشف الوقائع أنها شريك أصيل في الجريمة، يقدم الغطاء السياسي والمالي والتقني لإسرائيل لمواصلة حرب الإبادة على غزة.
هذا التناقض لم يعد يمر مرور الكرام على الرأي العام العربي والدولي؛ بل يضع أبوظبي في خانة المتورط المباشر، لا مجرد المتفرج.
ورغم وضوح الأدلة على استخدام الطائرة الإماراتية لأغراض عسكرية، إلا أن الصمت الدولي ما زال سيد الموقف. فلا الأمم المتحدة بادرت بالتحقيق، ولا العواصم الغربية التي تتغنى بحقوق الإنسان وجدت حرجاً في تجاهل القصة.
هذا الصمت يعكس تواطؤاً معلناً، ويكشف أن الإمارات تتحرك ضمن شبكة حماية سياسية توفرها واشنطن ولندن وباريس، ما يشجعها على الاستمرار في استخدام “العمل الإنساني” كغطاء لتوريد الموت.
أبوظبي شريك في المجزرة
في المحصلة، فإن رحلة FY4942 ليست حادثة منفردة، بل جزء من استراتيجية ممنهجة تعتمدها الإمارات منذ سنوات: دعم الحروب بالمال والسلاح، ثم تسويق نفسها كفاعل إنساني. من اليمن إلى السودان، ومن ليبيا إلى غزة، تتكرر الوصفة ذاتها: تمويل للدمار، وترويج إعلامي كاذب.
وإذا كانت إسرائيل تضغط الزناد، فإن أبوظبي بلا شك توفر الذخيرة، وتشارك مباشرة في المجزرة. استخدام الأطفال كذريعة وغطاء ليس فقط انحطاطاً سياسياً، بل جريمة أخلاقية مكتملة الأركان.
وعليه فإن الكذب الذي حاول إعلام النظام الإماراتي ترويجه عن “إجلاء طبي” ينهار أمام الوقائع الصلبة: طائرة شحن عسكرية، قاعدة جوية إسرائيلية، مسار جوي ملتوي، وشركات سلاح تدير العملية. الحقيقة أن الإمارات لم تحمل أطفال غزة إلى بر الأمان، بل حملت ذخائر إلى مخازن إسرائيل لقتلهم.
وليس هناك ما هو أبشع من أن تتحول الإنسانية إلى ستار للموت، وأن يستخدم القصر الإماراتي صورة الطفل الجريح ليغطي على جريمة إبادة. إنها كذبة مفضوحة، ووصمة عار تضاف إلى سجل أسود، حيث تتحول أبوظبي من “شريك إنساني” مزعوم إلى تاجر دماء يموّل ويشارك في أكبر مجزرة يشهدها العالم المعاصر.
