ينتهج النظام الحاكم في دولة الإمارات العربية المتحدة سياسة تختار الوقوف ضد المواقف والحقوق الفلسطينية والانحياز لإسرائيل في مشهد سريالي يبرز حدة تورطه بعار التطبيع خدمة لأطماعه في التوسع والنفوذ ولو على حساب الحقوق الفلسطينية.
ومؤخرا كشف المؤتمر الأمريكي المقرر عقده في البحرين الشهر المقبل والموصوف بإجماعٍ فلسطيني، بأنه المدخل الاقتصادي لصفقة القرن عن حدَّة التناقض بين قياداتٍ عربية خليجية وقيادة السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينيتين برئاسة محمود عباس.
ويعد ذلك بمثابة خروج عن الخطِّ العريض العربي الرسمي الذي لم يكن يُظهِر مثل هذا التفارُق، على الأقل في العلن، فالدول التي أبدت حماسةً للمشاركة فيه، وهي الإمارات والسعودية، بالإضافة إلى البحرين، تختار الوقوف ضدّ المواقف الفلسطينية، في هذه المرحلة بالغة الخطورة والمصيرية، وفي وقتٍ تمسُّ فيه حاجةُ القضية الفلسطينية إلى الدعم العربي، فيما كانت هذه الدول العربية الراغبة بالمشاركة في المؤتمر تفضِّل اقتناعَ عباس بالمشاركة، ولو بالضغوط الخفيَّة على القيادة الفلسطينية.
ولكن وقد وصلنا إلى مرحلةٍ خطرةٍ من المواجهة، لما رآه الفلسطينيون وأكثريةُ العرب تصفيةً للقضية الفلسطينية، فإنَّ الافتراق المحرج وقع، ولم يكن لمحمود عباس أن يوافقهم، كما لم يكن لهم أن يحافظوا على التوافق، ولو الظاهري، معه.
جاء الموقف الفلسطيني واضحا وقاطعا، على لسان أبو مازن الذي نقلت عنه وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا) قوله “إنَّ من يريد حلَّ القضية الفلسطينية عليه أن يبدأ بالقضية السياسية، وليس ببيع أوهام المليارات التي لا نعلق عليها آمالا، ولا نقبل بها؛ لأنَّ قضيتنا سياسية بامتياز”.
وقال رئيس الوزراء، محمد اشتية، الذي أعلن رفض الحكومة الفلسطينية لما تخطط له الولايات المتحدة من عقد ورشة عمل اقتصادية في البحرين. وقال إن هذا المؤتمر حلقة من “حلقات صفقة القرن، ويستغرب مجلس الوزراء من الادِّعاء أن مثل هذا المؤتمر لخدمة الاقتصاد الفلسطيني، في الوقت الذي يشنُّ فيه القائمون على هذا المؤتمر حربا سياسية ومالية على شعبنا ومؤسساته، وعلى المؤسسات الدولية العاملة لمساندته”.
ما الداعي؟ وما الدافع لهذا التجاوز من البحرين والإمارات والسعودية لموقف الرئيس محمود عباس؟ هل بسبب تطرُّفٍ اعتراه؟ أم لانحيازه إلى محورٍ إقليميٍّ آخر؟ لا يجد المتتبِّع للموقف الفلسطيني فيه أيَّ تغيُّر عما دعمته جامعة الدول العربية، والدول العربية، والذي جسَّدته مبادرةُ السلام العربية التي تشترط تطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل، بانسحاب الأخيرة من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وإقامة دولة فلسطينية فيها، وعودة اللاجئين، بالإضافة إلى انسحابها من الجولان السوري المحتل.
إذن ما الجديد؟ وأين التغيُّر؟ التغيُّر هو في مواقف قادة الاحتلال؟ ونتنياهو تحديدا بسبب تحالفاته مع اليمين الديني والقومي المتطرِّف والعنصري. وبسبب ضعف إيمانه أصلا بحلِّ الدولتين، إذ بعد أن أعلن، في خطابه في جامعة بار إيلان، عام 2009، قبوله بدولة فلسطينية منزوعة السلاح، عاد في 2015، وتنصّل منه، حين قال إنه لم يعد ذا صلة، نزولا إلى حكم شبه ذاتي، وتكريسا لـ”السلام الاقتصادي”، متوازيا مع تسارُعٍ كبيرٍ في الاستيطان، وتطاوُلٍ متواترٍ على المسجد الأقصى، باحتضانٍ رسميٍّ لجماعاتٍ دينيةٍ متطرِّفةٍ تتبنَّى، علنا، هدم المسجد الأقصى، وإقامة الهيكل المزعوم مكانه.
تبلورت تلك الحالة الاحتلالية في قراراتٍ فرديةٍ خطيرةٍ، دعمتها إدارةُ ترامب، ولعلَّ أهمَّها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، واعتراف أميركي بضمِّ الجولان، وموافقة على الاستيطان، بالإضافة إلى العمل على تصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين. وغير بعيد الموافقة على ضمِّ المستوطنات إلى إسرائيل، وتطبيق القانون الإسرائيلي في مناطق الضفة الغربية. والخلاصة أنَّ نتنياهو صار بمقدوره أن يجني ثمارا مجانية مهمة؛ فلماذا يضطر إلى دفع تلك الأثمان و(التنازلات)؟
لا أحد في إسرائيل يمكنه، حقيقة، أن يتَّهم عباس بالتطرُّف، أو بالإرهاب، أو حتى العنف، اللهم إلا مِن مزايداتٍ هامشية، لا يُؤبَه لها، فهو على الرغم من كل ما يعصف بالقضية الفلسطينية، وبالسلطة الوطنية، اقتصاديا، لا يزال مؤمنا بالحلول السلمية، رافضا الخيارات “العُنْفيَّة” في النضال، ولا يزال، فعليا، ملتزما بالتنسيق الأمني مع الاحتلال. ولا يزال على علاقته الصارمة مع حركة حماس، مُصِرًّا على وَحْدة السلاح؛ ما يعني احتواء سلاح المقاومة، في قطاع غزة الذي يؤرِّق دوما الاحتلال، ويحرج قياداته السياسية والأمنية.
وقد يبقى سؤال: هل بعد أن خرج هذا التعارض المهم إلى العلن تنحدر العلاقة الخليجية الفلسطينية إلى مستويات القطيعة؟ لا يرجَّح ذلك؛ لأسبابٍ يعود بعضها للطرف الخليجي وبعضها الآخر عائدٌ إلى الفلسطينيين.
أما المتعلقة بالطرف الخليجي، فمِن الصعب الدخول في تصعيدٍ يبتُّ الخيوط مع فلسطين، علما أن دور الوساطة والتأثير مطلوب أميركيا، وحتى إسرائيليا، وكذلك لأسباب شعبية؛ إذ مِن الصعب إقناعُ حكَّام خليجيين شعوبهم العربية بشيطنة القيادة الفلسطينية الحالية، وهم يرون أنها لم توفِّر تنازُلا تستطيع تقديمه، ولم تقدّمه، من أجل السلام، وحل الدولتين، سواء على صعيد السياسيات والأفعال، أو على صعيد الخطاب، إذ لم يتوقف عباس في كلِّ سانحة على التأكيد، (وبعضها أمام إسرائيليين)، على الحرص على عيش الفلسطينيين إلى جانب دولة إسرائيل.
وربما هذه الأرضية التي يراوح عليها الموقف الفلسطيني، وهي أرضيةٌ (معتدلة) بلا خلاف، هي التي تُلجِئ بعضَ الأقلام والأصوات الإعلامية إلى الانزلاق، أو الهروب إلى مرافعاتٍ أقرب ما تكون إلى الرواية الصهيونية، بل إنها تتطابق معها، في حالاتٍ غير قليلة، وذلك بالتشكيك بوجود اعتداء صهيوني على فلسطين.
وبالتالي إعفاء الحركة الصهيونية، ودولة الاحتلال، من جرائم القتل والتشريد والتدمير للحياة الفلسطينية، بهدمه مئات القرى، وتدميره المدن الفلسطينية، وتهويدها؛ وصولا إلى اعتبار دولة الاحتلال طبيعية في المنطقة، لها الحقُّ في الدفاع عن احتلالها، وانتهاءً باتهام حركاتٍ فلسطينيةٍ مقاوِمةٍ بالتسبُّب في الحروب والويلات للفلسطينيين، وتبرئة الاحتلال الذي يبلغ، في هذه الآونة، أوْجَ تطرُّفه وفاشيته، فقد صار لزاما تبييض صفحة دولة الاحتلال، وإعادة إنتاج صورتها، بالتوازي مع تشويش الحقِّ الفلسطيني، وبلبلة الرواية الفلسطينية، والعربية. وهذا مسارٌ غيرُ آمِن، بل إنه محكومٌ بالفشل، ونتائجه على من تورّط فيه عكسية.
أما الأسباب المتعلقة بالجانب الفلسطيني، فمِن الملحوظ أن رفض مؤتمر البحرين لا ينحو منحىً حادًّا وهجوميا، بقدر محاولته وضعه في إطار صفقة القرن، والتحذير من مخاطره، ومآلاته، حيث طمس للبُعْد السياسي للقضية الفلسطينية، والقبول العملي بشرعنة الاحتلال، وتأبيده في الأراضي الفلسطينية التي لا تزال، في القانون الدولي، محتلة.
وعند هذا المفترق المحرج، لا يمكن للآملين بمكاسب أميركية وإسرائيلية تحميل قيادة السلطة الفلسطينية المقاطعة لمؤتمر البحرين المسؤولية عن تضييع فرصة ثمينة. ومع هدوء الاستنكار الفلسطيني للانخراط الخليجي (بالضغوط، وبوقف الدعم المالي، على قنوات المؤتمر)، مجرَّد الرفض العلني والمقاطعة يكشف عن رعونة تلك القفزة النيّئة.