مرت قبل ثلاثة أيام الذكرى السنوية التاسعة لتوقيع عشرات الشخصيات من النخبة في دولة الإمارات عريضة تطالب بالإصلاح فيما الغالبية العظمى للموقعين لا يزالون رهن الاعتقال التعسفي في سجون النظام.
عكست الواقعة حقيقة شعار برنامج “التمكين السياسي” الذي أعلنته الإمارات مع تولي خليفة بن زايد الحكم وكيف أنه تحول إلى حبر على ورق وجرى تكريس القمع الشامل بديلا عنه.
فقبل تسعة أعوام تقدم 133 شخصاً من المثقفين والمسؤولين والأكاديميين والناشطين الحقوقيين، عريضة إصلاحات قُدمت لرئيس الدولة لإخراج السلطة من تغوّل جهاز الأمن ومشاركة شعبية في مراقبة وصنع القرار السياسي في الدولة.
تلك العريضة يفترض أنها امتداد لمشروع “برنامج التمكين السياسي” الذي أعلن عنه رئيس الدولة الشيخ خليفة بن زايد مع توليه الحكم في الدولة، والذي يمكن المواطنين من انتخاب كامل أعضاء المجلس الوطني الاتحادي (البرلمان) وحصوله على صلاحيات كاملة؛ لكن جهاز الأمن اعتبره يناهض تغوله في سلطات الدولة الثلاث فقرر محاربته فزج بمعظم الموقعين في السجون السرية والعام.
لكن بعد مرور تسع سنوات على تلك العريضة فإنها تؤكد أن “الإصلاح السياسي” هو الأساس والمتطلب لمعالجة الأزمة الاقتصادية التي تلوح في أفق الدولة، ومكافحة الفساد كما يعزز مراقبة الشعب للمال العام ولعمل السلطات ويحقق “العدالة الاجتماعية” ويعيد ثقة المواطنين بالنظام السياسي وسلطات الدولة بما فيها السلطة القضائية التي استخدمت كأداة في مواجهة الشعب وليس لحمايته.
ولن يتم ذلك إلا بتنفيذ تلك العريضة ومعالجة الآثار التي ترتبت عليه باعتقال عشرات الأحرار الإماراتيين وتعديل الدستور والقوانين التي تُجرم حرية الرأي والتعبير. ولن يأتي ذلك إلا بحوار يضع حداً نهائياً للأزمة الحالية وهي أزمة لا تحلها قوانين القمع والسجون والتعذيب بل تقوم على أسس من التوافق بحماية الشعب وحقوقه ومستقبل البلاد ونظامها السياسي.
ومن المفترض أن يشمل هذا الحوار كل التيارات السياسية في المجتمع بما في ذلك منظمات المجتمع المدني المحظور عملها في الدولة.
ولإنجاح ذلك الحوار والتوافق على عريضة الإصلاحات يجب أن يكون تحت مبدأ (التسامح) وليس ذلك التسامح الذي تعنيه الدولة كمصطلح لتحسين السمعة بل تسامح حقيقي يبدأ بالإفراج عن المعتقلين والاعتذار لهم وتعويضهم عن كل سنوات السجن والحرمان.
وبعد تسع سنوات يبدو الظرف السياسي الحالي مع فقدان السلطة والأجهزة الأمنية لأوراقها المتتابعة وفشل حروب الخارج والأزمات الاقتصادية بصيص أمل واستعادة حياة لإنقاذ الدولة وكل ما تأخر وقت الجلوس على الطاولة والتسامح تزداد الأمور تعقيداً على تعقيدها.
ولا تزال السلطات الإماراتية ماضية في نهج الاعتقالات السياسية وقمع حرية الرأي والتعبير، مع تفاقم الانتهاكات بحق النشطاء السياسيين والحقوقيين، الأمر الذي وثقته عشرات المراكز الحقوقية رغم محاولات السلطات الترويج لصورة زائفة عن واقع حقوق الإنسان في الإمارات وإبراز أنها دولة التسامح والسعادة”.
ولسنوات طويلة أطلقت السلطات الإماراتية الآلة القمعية في الإمارات للتصدي لمطالب الإصلاح، وانطلقت حملات قمع منظمة بدأت بـ6 من الإماراتيين عام 2011، ولم تنته إلى اليوم، مع وصول المعتقلين لأكثر من 200 شخصاً بينهم نساء.
واتهمت الإمارات، جماعة الإخوان المسلمين بالوقوف خلف هذه المطالب، وضغطت السلطات على بعض الشخصيات الموقعة على العريضة لتكذيب توقيعهم، واتهام العريضة بالتزوير.
شملت الحملة التي شنتها السلطات الاماراتية 94 إماراتياً من بينهم 13 امرأة، واستخدم النظام الحاكم كل أدواته السياسية والإعلامية والأمنية لتشوية صورتهم، رغم عدم استطاعة جهة الادعاء أن تثبت أي جريمة تستحق ما تعرضوا له من عقوبة وانتهاكات، سوى شهادات ملفقة لمجموعة من ضباط الأمن.
ولم يكتف ضباط جهاز الأمن الإماراتي باعتقال العشرات، بل قاموا بتعذيبهم لمدة تقارب العام، حتى طلب أحدهم في أول جلسة تعقد أمام المحكمة الاتحادية بأبوظبي حمايته وحماية أسرته، لأنه يخشى على حياته وحياة أسرته، ورويت حينها قصص التعذيب التي لم تلتفت لها محكمة أمن الدولة، ولم تحقق فيما ورد بها، بل كانت المفاجأة أن بعض المتهمين لم يعرفوا أنهم على قائمة المتهمين إلا قبل أيام من جلسة المحاكمة، بل وتدينهم المحكمة دون أن يكون لهم أي أقوال، بل وبدون أدلة أو أسباب توردها المحكمة كدليل على هذه الإدانة
كما أسقطت سلطات الإمارات على بعض من النشطاء والحقوقيين والأساتذة من الموقعين على عريضة الإصلاح الجنسية عليهم وعلى زوجاتهم وأبنائهم وحرموا فوق ذلك من حقّهم في التظلم إداريا وقضائيا ضد قرار سحب الجنسية ونذكر على سبيل المثال الشيخ محمد عبد الرزاق الصديق أحد الموقعين على عريضة الإصلاح المعتقل حاليا في سجن الرزين على خلفية حكم بالسجن لمدة 10 سنوات صدر بحقّه في إطار القضية المعروفة ” الإمارات 94 “والذي سحبت منه الجنسية كما سحبت من أبنائه أسماء وعمر ودعاء.
واحياءا للذكرى التاسعة لتوقيع “عريضة الاصلاح” ومع استمرار الانتهاكات الجسيمة بحق خيرة من أبناء الشعب الاماراتي طالب مركز الإمارات لحقوق الانسان بالإفراج الفوري غير المشروط عن كل النشطاء والمعتقلين السياسيين وفتح تحقيق جدي في كل ما تعرضوا له من انتهاكات خلال وبعد اعتقالهم خاصة بعد توثيق حالات عديدة من التعذيب وسوء المعاملة.
كما شدد المركز على ضرورة المسارعة بتنفيذ ما قبلته دولة الامارات من توصيات حين الاستعراض الدوري الشامل سنة 2017 وتعهّدت بتنفيذها ومنها إنشاء مؤسسة وطنية مستقلة لحقوق الإنسان وتعزيز تعاون الإمارات مع الآليات الدولية لحقوق الإنسان. كما يحثها على احترام وتطبيق التزاماتها وتعهداتها الدولية من خلال الاتفاقيات والمعاهدات التي وقعت عليها ووعدت بالعمل بها.
ودرجت الإمارات على مدى العقود السابقة منذ التأسيس على توفير الخدمات الاجتماعية ودعم المواد الاستهلاكية والوظائف الحكومية، مقابل مشاركة ضئيلة، أو عدم المشاركة على الإطلاق، من جانب المواطنين في اتخاذ القرار – بما معناه عقود اجتماعية تقوم على أساس المساومات السلطوية. ومع تراجع الاقتصاد فقدت السلطة توفير الخدمات إضافة إلى زيادة الوعي الجماهيري بالحقوق والحريات والتي مثلت ركيزةً أساسية في اجتذاب نماذج الإصلاح السياسي والاقتصادي للمشاركة في حماية مستقبل الدولة في ظل حالة من الانحدار السكاني والإنساني والاقتصادي المتزايد منذ عام 2009.
لقد أدّى تركيز قوة وهيمنة الدولة بيد جهاز أمن الدولة مدعوماً بوسائل الاجتذاب القسرية إلى خلق “منهجية التبعية” وتحويل “المواطنة” من حق إلى أزمة، و وضع جهاز أمن الدولة خلال السنوات العشرين الماضية إلى وضع عقبات كبيرة في وجه المحاولات الرامية إلى تنمية مؤسسات قد تشجّع على تطبيق حوكمة شاملة، وتحافظ على النسيج الاجتماعي من استمرار النزيف تارةً بفرز جهاز الأمن وأخرى عبر الخلل في التركيبة السكنية. والأدهى من ذلك أن جهاز أمن الدولة قاوم بعنف جميع جهود الإصلاح وحرم الإمارات من وحرمت تلك البلدان من مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية الجديدة.
لذلك كانت عريضة الإصلاحات التي قُدمت في 2011م، مع بداية ظهور التحديات السياسية والاقتصادية الجديدة أمام مستقبل الإمارات؛ ومع ذلك قاوم جهاز أمن الدولة على مرئ ومسمع من الشيوخ والحكام هذه الإصلاحات ودفع بالمئات من قيادات المجتمع إلى السجون ليتعرضوا للتعذيب والمحاكمات السياسية، ومع هذه المقاومة العنيفة لجهاز أمن الدولة دون تحقيق الإصلاحات تزداد التحديات السياسية والاقتصادية الجديدة حرجاً في وضع الدولة المالي ووضع المواطن المعيشي.
ومازال الطلبُ قائماً ولم يرتفع سقف المطالب ولم يتراجع المطالبون به، فالدور الذي يلعبه المجلس الوطني “البرلمان” لا يخرج عن كونه مجلس استشاري للسلطة التنفيذية وغرفة من غرفها الذي يُظهر صورياً أن الإمارات دولة مؤسسات وتملك سلطة تمثل المواطنين.
فيما الحقيقة الواضحة أن رفض المطلبين من جهاز أمن الدولة هو استئثار بالقرار لنفسه ولا يريد من الإماراتيين مناقشته أو إعلاء المصلحة العليا للدولة على حساب مصالح أفراد تمددوا بداخله وتشعبت جذورهم.
وكل ما يفعله هو تعزيز دفاعاته وتحصين امتيازاته لذلك شن حملة الاعتقالات وأظهر الأحكام السياسية ضد الرأي الراجح والممثل لرغبة الشعب، من أجل وطنه وأودعهم السجون الرسمية وقبل ذلك سجون سرية ولا يخفى على أحد ما يُفعل بالمعتقل السياسي والناشط الحقوقي في تلك السجون من تعذيب وحرمان من حق الحياة، وحتى حق رؤية الشمس، أو معرفته بالتهمة ومعرفة أهله بمكان اختطافه.
ما يكشفه جهاز أمن الدولة- المتحكم بقرار الدولة العابث بشؤونها أنه يُحصن دفاعات بقاء القيادات الأمنية الفاسدة الهاربة من أوطانها بتهم تصل لـ”الخيانة العظمى” على حساب هدم دفاعات وحصون الوطن، في ثنائية التناقضات بتقدم المصلحة الشخصية للفاسدين الهاربين على المصلحة الوطنية العليا، وينهار المستقبل المأمول للإماراتيين، مع كل هدم يمارسه “الغرباء” الأشرار لحصون ودفاعات الإمارات.
وهذا بالتأكيد ما تحيكه ست سنوات من النسيج المتواصل للأحداث في الإمارات، عندما ساد القمع على حساب كل ما هو وطني وعشعش المرتزقة الفارين على قرار الدولة السيادي، كما لم يكن من قبل، وفوق ذلك النسيج تخيط نضالات الأحرار في السجون -سيئة السمعة و “القذرة”- مستقبلاً مشرقاً لكل إماراتي بما فيه مستقبل أولئك المعادون لهم المتحاملون عليهم، الذين يشوهون سمعتهم ليل- نهار، ومع كل ذلك فنضال الأحرار يتسع ليشمل كل من يقطن في أرض الإمارات الطاهرة.