موقع إخباري يهتم بفضائح و انتهاكات دولة الامارات

الإمارات والتشريع بالذكاء الاصطناعي: تقنية الواجهة وخطر الطغيان الخوارزمي

808

في منتصف أبريل/نيسان 2025، أعلنت حكومة الإمارات إطلاق أول منظومة تشريعيّة “ذكية” متكاملة، تعتمد على الذكاء الاصطناعي في تطوير التشريعات والقوانين.

وبينما قد يبدو المشروع في ظاهره خطوة نحو التحديث والتفرد التكنولوجي، فإنه في جوهره يفتح الباب أمام إشكاليات خطيرة تتعلق بمفاهيم السيادة، والمساءلة، وحقوق الإنسان.

ما تطرحه الإمارات في هذا السياق لا يقتصر على توظيف تقنيات حديثة لتبسيط إجراءات قانونية، بل هو محاولة لإعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والقانون والمجتمع، عبر آلة لا تعي القيم ولا تستوعب تعقيدات السياقات الاجتماعية والسياسية.

تشريعات بلا روح ولا مساءلة

تدّعي المنظومة الإماراتية أنها قادرة على ربط التشريعات بكافة الأحكام القضائية والخدمات التنفيذية، وقياس أثر القوانين بشكل “آني”، بل واقتراح تعديلات تشريعية تلقائياً.

لكن هذا التصور يُخفي وراءه مشكلة جوهرية: من الذي يضع الأسس التي ستبني عليها الآلة قراراتها؟ وهل تستطيع تقنية فاقدة للضمير الإنساني، ولا تمتلك حساً أخلاقياً، أن تفهم – ناهيك عن أن تحمي – حقوق الفئات الهشة مثل اللاجئين، والمهاجرين، والنساء، وغير المواطنين؟

المفارقة أن هذه المنظومة لا تُلغي تدخل البشر تماماً، لكنها تجرّدهم من مسؤولية الاجتهاد التشريعي لصالح تقنيات قد تكون نفسها منحازة، ومبنية على قواعد بيانات غير شفافة، بل ربما خارج سيطرة الدولة نفسها. كيف يمكن إذن القبول بتشريعات تُقترح – وربما تُطبّق – من قبل نظام آلي لا نعرف كيف يعمل، ولا يمكن محاسبته أو استئناف قراراته؟

الذكاء الاصطناعي منحاز بطبيعته

بحسب الباحثة في أخلاقيات الذكاء الاصطناعي نور نعيم، فإن أنظمة التعلم الآلي تُعيد إنتاج التحيزات المتجذّرة في البيانات التي تغذّيها.

بالتالي، فإن تطبيق الذكاء الاصطناعي في المجال التشريعي لا يعني الحياد، بل العكس تماماً: تكريس للأشكال القائمة من التمييز، لكن هذه المرة بآلية خوارزمية مغلّفة بقشرة “العقلانية” و”التحسين التقني”.

ومع غياب ضمانات تشريعية تفرض الشفافية والرقابة والمساءلة على هذا النظام، فإننا لا نتحدث هنا عن مساعدة تكنولوجية، بل عن إحلال آلي للسلطة التشريعية وتحويلها إلى منظومة مغلقة لا تخضع سوى لخوارزميات صمّمتها جهات مجهولة، أو ربما خاضعة لمصالح خارجية.

تبعية تكنولوجية… ومسٌّ بالسيادة

في الوقت الذي لم تكشف فيه الإمارات عن تفاصيل منشأ أو طبيعة البرمجيات المستخدمة في “مكتب الذكاء التشريعي”، فإن الافتراض الأقرب للواقع هو اعتمادها على أنظمة مطوّرة من قبل شركات أجنبية.

وهذه الشركات، التي غالباً ما تكون عابرة للحدود، تمتلك حق الوصول إلى قواعد بيانات ضخمة – قانونية، ديموغرافية، أمنية – يتم تغذية الآلة بها لتؤدي عملها.

هذا يعني باختصار أن الدولة تُفرّط بسيادتها التشريعية لصالح كيانات غير خاضعة لرقابتها. فكل معلومة تُغذّى بها تلك الأنظمة، من إحصاءات السكان إلى بيانات القضاء والأمن، تصبح عرضة للاستخدام من قبل أطراف خارجية.

الأسوأ أن هذه البيانات قد تُستخدم كوسيلة ابتزاز سياسي أو ضغط اقتصادي في المستقبل، أو ببساطة تُباع لأطراف ثالثة تلاحق الربح، في انتهاك فاضح لخصوصية وأمن المواطنين.

تشريعات تصنعها الخوارزميات… لا الشعوب

السؤال الذي يطرح نفسه هنا ليس فقط عن مدى حيادية الأنظمة الآلية، بل عن مبدأ التشريع ذاته. من المفترض أن تكون القوانين انعكاساً لإرادة الشعوب، نابعة من نقاشات اجتماعية وأخلاقية وسياسية، لا نتائج حسابية مبنية على معادلات تعلّمية.

فالتشريع ليس مجرّد أداة تنظيمية، بل تعبير عن القيم التي يتفق عليها المجتمع – الرحمة، المساواة، العدالة الاجتماعية – وكلها مفاهيم لا تعني شيئاً للآلة.

إن منح آلة هذه المهمة يعني خلع القانون من إنسانيته، وتحويله إلى منتَج حسابي قابل للبرمجة، بدلاً من كونه نتيجة جدل بشري متفاعل.

والأسوأ أن هذه التحولات تجري في بيئة سياسية تفتقر أصلاً إلى الشفافية والمساءلة، ما يجعل من هذا الذكاء التشريعي أداة فوقيّة لإنتاج تشريعات تحمي النظام لا الناس.

قشرة حداثية لنظام قمعي

يصف محمد نجم، المدير التنفيذي لمنظمة “سمكس”، هذا التوجه بأنه تزاوج بين التكنولوجيا والسلطوية، يؤدي إلى مضاعفة أدوات السيطرة على الأفراد والمجتمعات.

فالذكاء الاصطناعي، كما يشير نجم، لن يؤثر فقط على إنتاج المعرفة الحالية، بل سيُعيد كتابة التاريخ بما يتناسب مع أهواء الأنظمة التي تستخدمه، ما يعني إنتاج روايات رسمية خالية من أي مساءلة أو تمثيل شعبي.

ويضيف أن هذا التوجّه يؤسس لنوع جديد من الاستعمار الرقمي، حيث تُصبح الدولة معتمدة كلياً على أنظمة لا تملكها ولا تفهمها، ما يجعلها رهينة لقوى تكنولوجية خارجية.

في الدول القمعية… الذكاء الاصطناعي خطر وجودي

إنّ مخاطر اعتماد الذكاء الاصطناعي في التشريع لا تظهر بنفس الحدّة في الدول الديمقراطية، حيث توجد مؤسسات رقابية وقواعد للمساءلة وحقوق يمكن الدفاع عنها قضائياً.

أما في دولة مثل الإمارات، ذات التاريخ الطويل في قمع الحريات وانتهاك حقوق الإنسان، فإن هذه التقنيات تتحول إلى أدوات رقابة، وقمع، وسحق لأي شكل من أشكال المعارضة أو حتى المطالبة بالإصلاح.

ومع غياب بيئة ديمقراطية تضمن التمثيل الحقيقي، فإن القانون الآلي سيخدم النظام القائم لا المواطن. بل الأسوأ، أن الذكاء الاصطناعي سيُستخدم لشرعنة القمع، وصياغة قوانين تُضفي عليه طابع “التطور” و”الفعالية”، بينما تُحرم الشعوب من أبسط حقوقها تحت ستار الحداثة.

وما تطرحه الإمارات من مشروع “منظومة تشريعية ذكية” لا يعكس تقدّماً بقدر ما يكشف عن تحول خطير في أدوات القمع والسيطرة، ملبّسة بلبوس التقنية والتطوير.

فالذكاء الاصطناعي في هذا السياق ليس وسيلة لتحسين التشريع، بل لإعادة تشكيله على نحو يخدم مصالح السلطة، ويقوّض فكرة القانون كنتاج لإرادة شعبية. إن كانت هذه هي حداثة الإمارات، فهي حداثة خاوية من القيم، مشبعة بالتحكم والمراقبة، تهدف إلى تطويع الإنسان للخوارزمية، لا العكس.