رصد المجهر الأوروبي لقضايا الشرق الأوسط تقريرا لمركز (مالكوم كير– كارنيغي) للشرق الأوسط يبرز فيه تسبب دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية في إثارة الانقسامات في السودان.
وقال المجهر الأوروبي ـوهو مؤسسة أوروبية تعنى برصد تفاعلات قضايا الشرق الأوسط في أوروبا، إن تقرير المركز الدولي الشهير يقدم دليلا جديدا على التدخلات السلبية للإمارات والسعودية في تقويض استقرار السودان.
وقال مركز (مالكوم كير– كارنيغي) للشرق الأوسط في دراسة له، إن الدعم الإمارات والسعودي لأطراف عسكرية معينة في السودان في مقدمتها قوات الدعم السريع يزيد احتمالات نشوب العنف في البلاد وتهديد السلم الداخلي.
وتناولت الدراسة كيفية تحويل الشركات العسكرية السودانية إلى مدنية، متطرقة إلى آليات نجاح اتفاق نقل تلك الشركات العسكرية إلى السيطرة المدنية.
وجاء في الدراسة: اجتازت عملية الانتقال السياسي في السودان عتبة هامة في 17 آذار/مارس 2021، حين اتفقت السلطات الانتقالية على نقل مجموعة من الشركات التجارية المملوكة للمؤسسة العسكرية إلى سيطرة الوزارات الحكومية المدنية.
ويُعدّ هذا إنجازًا مُلفتًا في بلدٍ هيمنت عليه القوات المسلحة من دون انقطاع تقريبًا منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي، ولا سيما أن مسألة نزع الصفة العسكرية عن الشركات التجارية شكلّت نقطة خلافية في العلاقة العسكرية المدنية خلال العام الفائت نظرًا إلى افتقار الحكومة الشديد إلى السيولة المالية.
يشكّل هذا الاتفاق خطوة أولى مشجّعة في الاتجاه السليم، بيد أن التجارب العالمية المقارنة تظهر أن فكفكة الاستثمارات التجارية العسكرية قد تأتي بنتائج جزئية وغير مكتملة، حتى عندما تحظى السلطات المدنية بالسيطرة الفعلية.
أما في السودان، فيُرجَّح أن تكون المفاوضات معقّدة وغير مضمونة النتائج نظرًا إلى التنافس الشديد في الميدان السياسي وتشظّي المشهد الأمني.
بل ويُلاحَظ أن الاتفاق لم يأتِ على ذكر أية تفاصيل حول كيفية تنفيذ مشروع إعادة الهيكلة، ناهيك عن موعده، ما يوحي بأن بعض القضايا الشائكة تم تأجيلها أو حتى تجاهلها تمامًا.
تتّصف عملية تصفية الاستثمارات التجارية العسكرية أو تجريدها، بمعنى نقلها إلى السيطرة المدنية، بالتعقيد والبطء البالغين في أي بلدٍ كان.
ويتّسم إتقان هذا الإنجاز بأهمية حيوية بغية تجنّب الإخفاق التجاري للشركات التي يتم نقلها إلى ملكية الهيئات المدنية تجاريًا، وعجزها عن تلبية الآمال بزيادة الجباية الحكومية.
فمن شأن مثل تلك النتائج أن تثير ردود فعل سياسية سلبية وسط الجمهور العام، قد تستغلّها القوات المسلحة للمراوغة وربما حتى لإعادة الوضع إلى المربع الأول.
ويتوقف النجاح إذًا على عنصرين اثنين: أولًا، الإفصاح المالي الكامل من قبل الشركات العسكرية، ما يسمح بإجراء عمليات التدقيق المالي اللازمة لتقييم أدائها وحساب الكلفة مقابل الفعالية للخيارات المختلفة من أجل إدماجها في القطاع المدني — بما في ذلك دمج الشركات، أو بيعها، أو تصفيتها؛ وثانيًا، حالة قطاع الأعمال العام عمومًا، وفعالية آليات حوكمته واستراتيجيات إصلاحه.
وُلد اتفاق 17 آذار/مارس وسط أجواء يخيّم عليها ضعف الثقة ومشاعر الإحباط بين المكوّنيْن العسكري والمدني في داخل مجلس السيادة الذي يقوم بدور رئاسة الجمهورية بموجب الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية الصادرة في منتصف آب/أغسطس 2019، والذي يرأسه المكوّن العسكري.
ووُلد أيضًا وسط تناحرات سياسية بين الأحزاب والقوى الممثَّلة في مجلس الوزراء الانتقالي، الذي يرأسه مدني، والذي يتولّى المسؤوليات الحكومية الروتينية ويضع السياسات.
ولقد حصلت اختلافات متكررة حول صلاحيات كلٍّ من المجلسين مراراً، وخصوصًا حيال سلطات رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان، القائد العام للقوات المسلحة.
وبدا ذلك جليًا في كانون الأول/ديسمبر 2020 حين أعلن البرهان تشكيل مجلس شركاء الفترة الانتقالية، وهو عبارة عن هيئة جديدة كان قد تم الاتفاق عليها في تعديل دستوري قبل شهرين كوسيلة لحل الخلافات المعيقة للعملية الانتقالية —فقد اعترض مجلس الوزراء أن البرهان وسّع صلاحيات المجلس الجديد عن الحد المتفق عليه، متجاوزًا حدود سلطته.
ثم دفع ذلك في شباط/فبراير 2021 إلى استقالة الرئيس العسكري للجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد واسترداد الأموال، التي تم تشكيلها في كانون الأول/ديسمبر 2019 بهدف تفكيك بقايا الأعمدة السياسية والاقتصادية لنظام الدكتاتور المخلوع عمر البشير.
تلوح خلافات إضافية في الأفق حول تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي، الذي تأخر عامَين تقريبًا حتى الآن، وحول الانتقال المقرر لرئاسة مجلس السيادة إلى أيدٍ مدنية في شباط/فبراير 2022.
وقد يكون هذا الموعد لحظة إنجاح أو إفشال العملية الانتقالية، فإذا لم يمر على خير قد لا تجري الانتخابات البرلمانية المفترض عقدها بعد انقضاء 39 شهرًا منذ بدء الفترة الانتقالية، ما من شأنه تهديد المسار برمته.
وجاء مقتل 144 شخصًا في غرب دارفور في أوائل نيسان/أبريل 2021 للتذكير بمدى هشاشة عملية الانتقال السياسي.
وما يلقي بظلاله أيضًا على احتمالات نشوب العنف هو استمرار بروز قوات الدعم السريع، التي تشكّل الضلع الثالث لهيكلية الحكم الانتقالية. فقائدها، الفريق أول محمد دقلو المعروف بلقب “حميدتي”، هو أيضًا نائب رئيس مجلس السيادة.
وبفضل قاعدته الشعبية القبلية القوية في دارفور وتحالفه الوثيق مع الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، يقدّم نفسه كفاعل بارز في مجال السياسة الخارجية وينظر إليه البعض على أنه “رجل مجلس السيادة القوي، والرئيس الفعلي للبلاد”.
واقع الحال أن البرهان يتمتع بقوة أعظم بفضل ترأسه القوات المسلحة ومجلس السيادة ومجلس شركاء الفترة الانتقالية ومجلس الأمن والدفاع، غير أن تخصيص قوات الدعم السريع دستوريًا كقوة “نظامية”في عهد البشير وضعها على قدم مساواة مع القوات المسلحة، وأذكى جذوة الخصومة الظاهرة بينهما في أحيان كثيرة.
في غضون ذلك، قد تؤدي حقيقة أن قوات الدعم السريع تدير بدورها شركات تجارية خاصة بها، وأنها لم تنضم إلى اتفاق آذار/مارس 2021، إلى زيادة العراقيل في طريق تنفيذه.
إذًا، تبقى تصفية الاستثمارات التجارية العسكرية رهينة جدولٍ زمني سياسي مشحون وضيّق، ما قد يدفع المكوّن العسكري إلى المماطلة على أمل التهرّب من المسألة كليًا. لكن الأدلة متناقضة.
فمن جهة، وبحسب وزير المالية آنذاك إبراهيم البدوي، قدّم الضباط المسؤولون عن إدارة الذراع الصناعية والاقتصادية للقوات المسلحة، منظومة الصناعات الدفاعية، مقترَحًا لإعادة الهيكلة في حزيران/يونيو 2020 من شأنه إدماج نظرائهم المدنيين في هيكلية إدارية مشتركة.
ولكن من جهة أخرى، بعد مرور شهرين على ذلك، عارض كلٌّ من البرهان والفريق ياسر العطا، الذي كان يرأس آنذاك لجنة إزالة التمكين، علنًا تجريد الاستثمارات التجارية العسكرية.
بل اقترح العطا، على عكس ذلك، تشكيل ما أسماه “شراكات ذكية” مع البنوك والقطاع الخاص، والتكامل مع القطاع المدني.
كذلك، يُذكر أن كلًّا من القوات المسلحة وقوات الدعم السريع قد استغل الفترة الانتقالية لتوسيع أنشطته التجارية.
ماذا في الميزان، ولماذا الآن؟
إن المصالح التي ستتأثر بعملية نقل السيطرة كبيرة. فقد بلغ عدد الشركات التابعة لمنظومة الصناعات الدفاعية، التي تخضع بدورها إلى وزارة الدفاع، أكثر من 200 شركة بحلول أيار/مايو 2020، بمعدّل مداخيل بلغ 110 مليار جنيه سوداني سنويًا (ما كان يعادل 2 مليار دولار أميركي في ذلك الوقت).
ويبلغ العدد الإجمالي للشركات العسكرية حوالى 250 شركة، بما فيها تلك التابعة لقوات الدعم السريع، علمًا أن هذه القوات حصلت على مداخيل هامة إضافية من خلال تأجير الجنود للقتال إلى جانب القوات المدعومة من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية في اليمن (وهو ما فعلته القوات المسلحة السودانية أيضًا) وفي ليبيا.
ودلّ تبرّعها البالغ مليار دولار إلى بنك السودان المركزي لدعم استيراد السلع الحيوية في العام 2019 على حجم الاحتياطي المالي الذي تحتفظ به.
يوضّح المسح الشامل الذي أجراه الباحث جان-باتيست غالوبان والبحث الآخر المتضمّن “التقييم الأساسي للأمن البشري في السودان وجنوب السودان” ضلوعَ الشركات العسكرية في إنتاج وبيع الذهب والمعادن الأخرى، والرخام، والجلود، والمواشي، والصمغ العربي.
وهي منخرطة أيضًا في تجارة الاستيراد — ويُعتقد أن ذلك يشمل السيطرة على60 في المئة من سوق القمح — والاتصالات، والمصارف، وتوزيع المياه، والتعاقد، والإنشاءات، والتطوير العقاري، والطيران، والنقل، والمنشآت السياحية، وإنتاج الأجهزة المنزلية، والمواسير، والأدوية، والمساحيق، والنسيج.
لا تقلّ المصالح المرجوّة للمالية العامة ولاقتصاد البلاد أهمية. يُعتبر السودان غارقًا في “محنة من المديونية”، إذ بلغ دينه الخارجي 60 مليار دولار ودينه العام نسبة202 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2019.
وقد أعلن مجلس الوزراء الانتقالي في أيلول/سبتمبر 2019 عن خطة طوارئ لتأمين إمدادات السلع الأساسية ودعم العملة الوطنية، التي كانت تتعرّض للتخريب المنهجي على حدّ تعبير المجلس.
كما سعى إلى زيادة الجباية الضريبية وتخفيض العبء المالي على خزينة الدولة. وبعد ذلك بعامٍ واحد، أعلن مجلس الوزراء عن حالة طوارئ اقتصادية لمواجهة التراجع المستمر في قيمة العملة، وانخفاض احتياطي العملات الصعبة إلى مستوى يكفي لتغطية احتياجات الاستيراد لتسعة أيام فقط، وبلوغ عجز الميزان التجاري 1.1 مليار دولار، وارتفاع نسبة التضخم بمقدار الضعفين لتصل إلى 166.8 في المئة خلال ستة أشهر فحسب.
على ضوء هذه الخلفية الحرجة، دخل المرسوم الأميركي المتعلق بِـ”الانتقال الديمقراطي، والمساءلة، والشفافية المالية في السودان” حيّز التنفيذ في مطلع العام 2021.
وطالب المرسوم بأن تحقّق السلطات السودانية السيطرة المدنية على أموال وأصول الأجهزة الأمنية (بما فيها العسكرية) والاستخباراتية، وإنهاء إتجارها غير المشروع بالموارد المعدنية، وعلى وجهٍ خاص نقل “جميع الحصص في كافة الشركات العامة والخاصة التي تحوزها أو تديرها الأجهزة الأمنية والاستخباراتية” إلى وزارة المالية أو الهيئات الحكومية الأخرى ذات الصلة والخاضعة للمساءلة أمام السلطات المدنية.
وعزّزت الولايات المتحدة إمكانية الحصول على المعونة المالية الدولية والقروض من الهيئات المتعددة الأطراف، وهذا أمر بالغ الأهمية، حين شطبت اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب في 14 كانون الأول/ديسمبر 2020. وشجّع الإعلان رئيس الوزراء عبدالله حمدوك على تجديد المطالبة بإنهاء النشاط التجاري العسكري، الذي اعتبره “غير مقبول”.
وكما أُشير سابقًا، كانت منظومة الصناعات الدفاعية قد اقترحت تغييرًا هامًا في هيكلية ملكيتها وإدارتها على مجلس الوزراء في منتصف العام، ولكن يبدو أن الإعلان الأميركي الأخير أقنع البرهان والقادة العسكريين الآخرين بوجوب التوصّل إلى اتفاق رسمي حول نقل الشركات العسكرية عاجلًا وليس آجلًا، ربما لاستباق الضغوط المباشرة الآتية من إدارة الرئيس جوزيف بايدن.
وبحسب مصدر مطّلع، أثار مسؤولون عسكريون أميركيون مع نظرائهم من القوات المسلحة السودانية مسألة الشركات العسكرية.
وبما أن ذلك أعقَبَ مباشرةً تطبيع العلاقات مع إسرائيل وزيارة وفد رسمي إسرائيلي بعضَ شركات منظومة الصناعات الدفاعية في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، ربما تعزّز الشعور بأن الضرورة السياسية تقتضي حسم وضع الشركات العسكرية عمومًا.
الحاجز الأول: الإفصاح المالي
يشكّل الإفصاح المالي الشرطَ اللازم الأول لإتمام تصفية الشركات التجارية العسكرية. فعلى أقل تقدير، ينبغي التأكد من المدى الحقيقي للجدوى الاقتصادية لتلك الشركات وما إذا يتطابق ذلك مع المعلومات المعلَنة، بغية تجنّب الاعتقاد، في حال فشلت لاحقًا، بأن سبب فشلها هو نقلها إلى السيطرة المدنية.
لكن الخطوات الأولى في السودان لم تكن مشجّعة. فقد وعدت منظومة الصناعات الدفاعية في نيسان/أبريل 2020 أن تخضع حساباتها إلى مراجعة حكومية شاملة.
وبالفعل، قدّمت للوزراء الحكوميين عرضًا غير مسبوق عن شركاتها في الشهر التالي، غير أنها لم تفِ بوعد كشف بياناتها المالية إلى وزارة المالية.
وشكا حمدوك في شهر آب/أغسطس من أن 80 في المئة من الشركات العسكرية هي “خارج ولاية وزارة المالية”، مضيفًا أن الوزارة لا تطّلع سوى على 18 في المئة من مداخيلها.
في هذا الإطار، لا بدّ من فتح حسابات الشركات التجارية التابعة لمنظومة الصناعات الدفاعية للتحقق من عدم وجود ديون ومستحقات غير معلنة أو بانتظار التخليص، ومن عدم قيامها بالتربّح المخفي أو غير الرسمي، ومن عدم تفضيل ملتزمين ومتعاقدين مختارين.
وواقع الحال أن المرسوم الأميركي المتعلق بِـ”الانتقال الديمقراطي، والمساءلة، والشفافية المالية في السودان “اشترط على التعامل بشفافية كاملة حيال الميزانيات، وعلى الإفصاح عن كافة الأصول المالية الخارجية لجميع الأجهزة العسكرية والأمنية.
ويمكن تفسير ذلك على أنه يشمل الصناديق الاحتياطية للقوات المسلحة أيضًا، وليس فقط حسابات منظومة الصناعات الدفاعية.
ولكن من غير المرجح إطلاقًا أن تقبل القوات المسلحة بالخضوع إلى التدقيق المالي من قبل المدنيين، على الرغم من أن تكوين أصولها الخارجة عن الميزانية تم جزئيًا بفضل دخل منظومة الصناعات الدفاعية والدعم الحكومي. ولكن على الأقل، يجدر التحقق ما إذا كان اقتطاع رسم التأمين الاجتماعي الشهري من رواتب الجنود لصالح تمويل منظومة الصناعات الدفاعية لا يزال مستمرًا.
وفي حال ثبُت ذلك، فينبغي مراجعة هذه السياسة والتدقيق في استخدامات الرسوم مستقبلًا، طالما أن مبرّرها هو الاستثمار في منظومة ستخضع إلى عملية تجريد وإعادة هيكلة واسعة النطاق.
ولا يقل عن ذلك أهمية أن الإفصاح الكامل سيوضّح بشكل جازم ما إذا كانت الشركات التابعة لمنظومة الصناعات الدفاعية تسدّد الضرائب والرسوم الجمركية والمستحقات الأخرى كرسوم التأمين الاجتماعي لموظفيها.
ففيما زعم العطا في آب/أغسطس 2020 أنها تقوم بذلك فعلًا، أضاف الفريق منوّر عثمان نقد، نائب رئيس الأركان للإدارة، أن الشركات “ملتزمة ماليًا” وتخضع “للمراجعة العامة”.
غير أن عرْض البرهان جعل الشركات العسكرية تدفع الضرائب، والذي قدّمه في كانون الأول/ديسمبر كبديل عن نقلها إلى السيطرة الحكومية المدنية، يلقي ظلالًا من الشك على تلك المزاعم.
يُضاف إلى ذلك أن جدولًا رسميًا من إعداد وزارة المالية نشرته الباحثة همسة حسن يُظهر بوضوح أن الشركات العسكرية استفادت من إعفاءات هامة من الرسوم الجمركية ورسوم الموانئ لمدة خمس سنوات على الأقل وحتى العام 2019، إن لم يكن لفترة أطول بكثير على الأرجح.
يستغرق إجراء مراجعة مالية دقيقة وقتًا، ولا يمكن استعجال هذا الأمر. ولكن ثمة أيضًا خطر أن يفسح النقلُ التدريجي للشركات العسكرية المخطط له المجالَ للتصرف غير القانوني بأصولها وللتربّح من قبل الشبكات العسكرية، ما سيزيد من صعوبات تكوين صورة متكاملة عن أوضاعها المالية وصفقاتها الماضية.
يزعم بعض الخبراء المحليين، مثل عالم الاقتصاد أحمد محمد الشيخ، أن “أموال وشركات المؤسسة العسكرية تتمتع بنظام مالي متقدّم كثيرًا على أنظمة الدولة” و”تخضع لرقابة شديدة أكثر من الرقابة المدنية”.
وإذا كان ذلك صحيحًا، فيعني أن الإفصاح المالي سيكون يسيرًا، ما يوفّر وسيلة يُعتد بها للتحقق المبكّر من حسابات منظومة الصناعات الدفاعية، ولحماية أموالها وأصولها بانتظار الانتهاء من عملية الحصر والنقل.
الحاجز الثاني: القدرات المدنية
تشكّل القدرة المؤسسية للقطاع العام المدني على استلام وممارسة السيطرة الفعالة على الشركات العسكرية السابقة تحديًا منفصلًا.
فبعد خروجها من تحت حكمٍ سلطوي امتد عقودًا من الزمن، مع ما رافقه من ضبابية مالية وافتقار للمساءلة العلنية، قد لا تمتلك الهيئات المدنية القدرة على إجراء تدقيق مالي متعمق وبجدول زمني مقبول للشركات المنقولة.
ويُضاف إلى صعوبة ذلك العدد الكبير من الشركات التي قد تخضع للنقل، والغموض حيال عدد نظيراتها في القطاع العام المدني وملكيتها.
فقد صرّح البرهان في آب/أغسطس 2020، على سبيل المثال، أن القوات المسلحة أحصت 450 شركة غير عسكرية مملوكة للدولة واكتشفت أن 220 منها تفتقر إلى الصفة القانونية. واتَّهم مجلس الوزراء، علاوةً على ذلك، بعدم التحرك حين تم إبلاغه بهذا الوضع.
ومن غير الواضح كذلك مصير الشركات المملوكة للمؤسسة العسكرية التي كان قد نقلها البشير ومحسوبيه إلى ملكيتهم. فقد صرّحت لجنة إزالة التمكين أنها تعيد 120 شركة مدنية إلى السيطرة الحكومية.
ولكن تمت إعادة شركة عسكرية واحدة على الأقل إلى كنف وزارة الدفاع، علمًا أنه كان من المفترض أن تُنقل إلى قطاع الأعمال العام بصفتها شركة مدنية، وهذا ما ينحو إليه اتفاق آذار/مارس 2021.
إلا أن الخلاف الذي ظهر إلى العلن حول لجنة إزالة التمكين وأدّى إلى تنحّي رئيسه، العطا، في شباط/فبراير أبرز التحديات التي تواجه عمل اللجنة. فقد يبقى مصير العديد من الشركات والأصول الأخرى عالقًا.
أصدر رئيس الوزراء حمدوك مرسومًا في أعقاب هذه الأزمة، ردًا عليها كما يبدو، أسّس فيه شركة السودان القابضة لاستلام وإدارة الأصول المستردة.
وقرّر أن تتألف عضوية مجلس إدارتها من المدنيين حصرًا، مؤكدًا بذلك سيطرة الحكومة على عملية الاسترداد.
ومع أن هذا الإجراء يوفّر إطارًا قانونيًا لتجميع وإدارة الأصول، لا يجيب في حد ذاته على السؤال الهام حول قدرة الخدمة المدنية للدولة على إتمام العملية بنجاح ووفقًا للمواعيد.
تؤثر هذه العوامل على تنفيذ اتفاق تجريد ونقل الاستثمارات العسكرية. يشترط الاتفاق على بقاء الشركات المرتبطة بالإنتاج الدفاعي والتابعة لمنظومة الصناعات الدفاعية في عهدة القيادة العسكرية، بينما ستتحوّل شركاتها المدنية إلى شركات عامة مساهمة.
وسوف تخضع هذه الأخيرة لمسؤولية مجلسيْن لم يتم إنشاؤهما بعد — مجلس للتنمية الاقتصادية برئاسة وزير الصناعة، وآخر للتمويل والاستثمار برئاسة وزير المالية — واللذين سيتولّيان سويًا إدارة الرساميل والديون والاستخدام.
يتسم ذلك بمنطق سليم، ولكنه قد يمهّد أيضًا إلى الاختلاف حول كيفية تشخيص الشركات العسكرية بحسب هذين التصنيفين. فالعديد من الشركات العسكرية النظيرة لها في مصر، على سبيل المثال، لديها دوْران مزدوجان عسكري ومدني، ما يزيد بمكان صعوبة تمييز الأصول وفصل الحسابات وإعادة هيكلة الأنشطة.
وبما أن هذه العملية ستكون بالضرورة بطيئة وتدريجية، سيترتب على مجلس الوزراء السوداني ضمان تحويل مداخيل الشركات المدنية التابعة لمنظومة الصناعات الدفاعية، على الأقل، إلى خزينة الدولة في هذه الأثناء.
ويلوح في الأفق صراع محتمل حول مدى الصلاحية القانونية للهيئات المدنية لأن تجري عملية الكشف والتدقيق على الشركات المصنّفة دفاعية، وتقيّم أداءها الاقتصادي، وتحتسب الكلفة مقابل الفعالية لقراراتها الاستثمارية، وتتصرّف بمداخلها الصافية (أي أرباحها) تماشيًا مع الإجراءات المتّبعة في الشركات العامة الأخرى.
يُضاف إلى ذلك أن وزير المالية آنذاك البدوي، أوصى في أيار/مايو 2020 بقلب ميزان الإنتاج العسكري مقابل المدني في منظومة الصناعات الدفاعية من نسبة 70:30 إلى 30:70 (أي مضاعفة الإنتاج المدني).
وبغض النظر عمّا إذا كانت النسبة الحالية هي بالضبط 70:30 أم لا، دلّت توصيته بنقلة كبيرة على مسألة إضافية قد تشكّل موضع خلاف أساسي بين مجلس وزاري متعطّش لاستعادة المداخيل وزيادة الجباية بأي طريقة، وبين مؤسسة عسكرية لا تقل إصرارًا على الاحتفاظ بمداخيلها.
الخلاصة: النتيجة عالقة في الميزان
على الرغم من التحديات، يمثل اتفاق 17 آذار/مارس خطوة هامة وغير مسبوقة في الاتجاه الصحيح، ليس فقط للسودان بل أيضًا لبلدان أخرى في المنطقة. أبرز هذه البلدان مصر، حيث تدير وزارة الدفاع ووزارة الإنتاج الحربي وهيئات أخرى ذات صلة، مجتمعةً، أكثر من 70 شركة.
وتعمل هذه الشركات والهيئات على إنتاج السلع والخدمات المدنية للأسواق المحلية والخارجية وتلبّي حجمًا هائلًا من العقود الحكومية للمشتريات والأشغال العامة، فتضمن بذلك موارد ومداخيل بالغة الأهمية تديرها المؤسسة العسكرية وتحتفظ بها بالكامل.
لذلك، سيثير مشروع تجريد مروحة واسعة من الاستثمارات التجارية العسكرية في بلد مجاور ارتيابَ المؤسسة العسكرية المصرية حكمًا.
فسيطرح نجاح التجربة في السودان علامات استفهام حول مزاعمها (أي المؤسسة العسكرية المصرية) بأنها تقود النمو والتنمية الاقتصادييْن وحول التبريرات التي تسوقها لإبقاء التفاصيل المالية المتعلقة بنشاطاتها التجارية والمدنية طي الكتمان المطلق.
بطبيعة الحال، قد تتعثر عملية تجريد الاستثمارات العسكرية السودانية، وقد تفشل، إذا رفضت القوات المسلحة المضي بنقل الشركات التابعة لمنظومة الصناعات الدفاعية، أو مانعت قوات الدعم السريع الخضوع إلى عملية مماثلة.
وقد تنشأ مفارقة في هذه الحالة: فإن النشاطات الهادفة إلى توليد الدخل التي يقوم بها حميدتي وبقايا نظام البشير وجماعات أخرى غير قابلة للاستدامة، ولكن ذلك لن يثنيهم عن مواصلتها.
وعلى القدر نفسه من الأهمية، لا تزال التفاصيل العملية لاتفاق آذار/مارس 2021 بحاجة إلى التوضيح والمصادقة، وقد يتبيّن في أثناء ذلك أن التفسير العسكري للاتفاق لم يبتعد كثيرًا عن المقترحات المقدّمة من منظومة الصناعات الدفاعية في حزيران/يونيو 2020.
ففي حينه، وبحسب وزير المالية آنذاك البدوي، كان التصور أن تخضع المنظومة إلى مجلس أعلى يرأسه البرهان، يشرف على مجلس تنفيذي للإدارة وإعادة الهيكلة (برئاسة وزير المالية) ومجلس استثمار (برئاسة وزير الصناعة).
ويوحي ذلك بأن القيادة العسكرية أرادت أن تتمسك بالنفوذ البالغ على الشركات التي يتم نقلها، علمًا أنها أظهرت استعدادًا في الوقت ذاته لأن تخضع الشركات الدفاعية التابعة للمنظومة إلى التدقيق المالي الحكومي النظامي، مثلها مثل باقي الشركات العامة المدنية، وأن تسمح بخصخصة بعض الشركات المدنية المنقولة بدلًا من ضمها إلى قطاع الأعمال العام.
سيكون لسلوك القوى الخارجية أثرًا رئيسًا على المسار المقبل. فقد مكّن الدعم المالي الذي تقدّمه الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية حميدتي من السعي وراء السلطة والإبقاء على استراتيجيته المالية، إلا أن الولايات المتحدة أثبتت للتو أنه يمكن تحريك الميزان الداخلي السوداني في الاتجاه الآخر أيضًا.
يبدو أن البرهان والقوات المسلحة استنتجوا أن من مصلحتهم التحالف مع نظرائهم المدنيين في وجه حميدتي وقوات الدعم السريع، في الوقت الراهن على الأقل. يمكن للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمؤسسات المالية الدولية أن تحسم النتيجة لو ألقت بثقلها.
فمن جهة، هي تقبض على المفتاح الذي يتيح للسودان الحصول على مصادر جديدة وهامة من الائتمانات والمعونات المالية، وبالتالي بإمكانها المساهمة في تمتين التحالفات الداخلية الداعمة للتحول الديمقراطي.
ومن جهة أخرى، فإن عملية إعادة النظر التي تقوم بها إدارة بايدن لعلاقتها بالقيادتين الإماراتية والسعودية قد تدفعهما إلى التراجع عن دورهما التعطيلي في السودان وتيسير الطريق نحو قيادة مدنية للانتقال السياسي هناك، على أمل تقليص الهوة بينهما وبين واشنطن.
لقد أظهر كلٌّ من القوات المسلحة ومجلس الوزراء في السودان من خلال اتفاق 17 آذار/مارس أن بإمكانهما العمل سويًا لتعزيز العملية الانتقالية، على الرغم من الفروق والاختلافات.
ينبغي على القوى الخارجية أن تنتهز هذه الفرصة الهشة ولكن المشجِّعة، كي تساهم أولًا في تغيير تراتبية الحوافز التي تحكم مقاربة القوى المحلية تجاه عملية نقل الاستثمارات العسكرية، وثانيًا في توفير المساعدة والخبرة الفنية لضمان نجاحها.