موقع إخباري يهتم بفضائح و انتهاكات دولة الامارات

انقلاب صامت: الإمارات والضغط غير المرئي في البرلمان الأوروبي

1٬499

في زوايا هادئة من مبنى البرلمان الأوروبي، بعيدًا عن أعين الرقابة الرسمية، يتبلور شكل جديد من التأثير السياسي، لا عبر صناديق الاقتراع أو التوافق الديمقراطي، بل من خلال المال والامتيازات والهدايا الفاخرة من دولة تُعرف بسجلها هي الإمارات.

على مدى السنوات الأخيرة، تمكنت أبوظبي من نسج شبكة معقّدة من العلاقات داخل البرلمان الأوروبي، مستخدمة ما يشبه الانقلاب الصامت على القواعد الأساسية للشفافية والنزاهة البرلمانية. ورغم ادعاءاتها بالتحديث والانفتاح، يبدو أن الإمارات تعيد صياغة أدوات نفوذها لتشمل أكبر مؤسسة تمثيلية في القارة الأوروبية.

مجموعات صداقة بلا رقابة

من بين أبرز أدوات التأثير التي استخدمتها الإمارات ما يعرف بـ”مجموعات الصداقة” داخل البرلمان الأوروبي. ورغم أن هذه المجموعات غير رسمية ولا تخضع لرقابة مؤسسية مباشرة، فإنها باتت تمثل مدخلًا مثاليًا لتغلغل نفوذ خارجي بعيدًا عن أي مساءلة.

عدد من أعضاء البرلمان الأوروبي تلقوا دعوات لحضور فعاليات ممولة إماراتيًا، وُفِّرت لهم خلالها امتيازات سفر فاخرة وإقامة من الدرجة الأولى، دون الإعلان عنها في السجلات العامة.

في الوقت نفسه، بات بعض هؤلاء النواب يتجنبون توجيه أي انتقاد لانتهاكات حقوق الإنسان في الإمارات، رغم أن سجل أبوظبي في هذا المجال لا يزال موضع إدانة متكررة من قبل منظمات حقوقية مثل “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية”.

ضغط استراتيجي لا دبلوماسي

ما كشفته منصة “دارك بوكس” المتخصصة في تتبع أنشطة الضغط في الاتحاد الأوروبي، هو أن النفوذ الإماراتي ليس مجرد دبلوماسية ناعمة، بل عملية ضغط استراتيجية تهدف إلى:

تبييض الانتهاكات الحقوقية في الداخل الإماراتي.

تقويض الانتقادات الأوروبية ضد سياسات أبوظبي في المنطقة.

توجيه السياسة الخارجية الأوروبية في ملفات مثل ليبيا واليمن والسودان لخدمة المصالح الإماراتية.

شركات علاقات عامة فاخرة، مراكز أبحاث ممولة، ومستشارون مخضرمون يتم تجنيدهم في بروكسل، كل ذلك ضمن شبكة علاقات يتم من خلالها إضفاء الشرعية على الإمارات كـ”شريك موثوق”، بينما يتم تهميش الأصوات المنتقدة وتحجيمها.

انتقائية في الدفاع عن الحقوق

اللافت أن بعض أعضاء البرلمان الأوروبي المعروفين بمواقفهم الصلبة تجاه قضايا حرية الصحافة في روسيا أو قمع الأقليات في الصين، يلتزمون الصمت حين يتعلق الأمر بانتهاكات الإمارات، بما في ذلك سجن المعارضين، الرقابة على الإعلام، وسوء معاملة العمال المهاجرين. هذا التناقض يثير تساؤلات جدية: هل أصبحت القيم الديمقراطية انتقائية، تُفصّل بحسب المصالح والعلاقات؟

تقول “دارك بوكس” إن هذا الصمت ليس عفويًا، بل نتيجة ضغوط ممنهجة ومنح للامتيازات، مشيرة إلى أن الرحلات التي تنظمها الإمارات لمسؤولين أوروبيين لحضور “القمة العالمية للحكومات” أو منتديات استثمارية في دبي وأبوظبي، أصبحت منصة لتبادل الدعم السياسي مقابل الضيافة والفرص الاقتصادية.

غياب آليات الرقابة.. ثغرة خطيرة

لا يمتلك البرلمان الأوروبي آلية واضحة لتتبع أو تنظيم هذه العلاقات غير الرسمية، مما يجعل من “مجموعات الصداقة” منفذًا مثاليًا للدول ذات الطموح السلطوي لاختراق بنية القرار الأوروبي.

ورغم فضائح الضغط السابقة، مثل قضية “قطر غيت” التي طالت نوابًا بتلقي رشاوى، فإن المساءلة لا تزال محدودة في هذا السياق.

في هذا السياق، تحذر منظمات مراقبة من أن “مجموعات الصداقة” أصبحت “حصان طروادة” داخل المؤسسة الأوروبية، تُستخدم لتوجيه أصوات البرلمان وفق المصالح الإماراتية، في تجاهل صارخ لمبدأ استقلال القرار السياسي الأوروبي.

دعوات للمحاسبة

في ظل هذا التغلغل المتزايد، تطالب “دارك بوكس” ومؤسسات رقابية أخرى بفتح تحقيق شامل في أنشطة الضغط الأجنبي داخل الاتحاد الأوروبي، يشمل:

إنشاء سجل موحد للرحلات المدفوعة والامتيازات التي يتلقاها أعضاء البرلمان.

فرض حظر على مجموعات الصداقة غير المنظمة التي تعمل خارج الرقابة المؤسسية.

تشديد قواعد الشفافية والإفصاح المالي لمنع تضارب المصالح بين المشرعين الأوروبيين والدول الأجنبية.

هذه الخطوات ليست ترفًا بيروقراطيًا، بل ضرورة لحماية نزاهة المؤسسة الديمقراطية الأهم في أوروبا.

أوروبا بين المبادئ والمصالح

في الوقت الذي تتباهى فيه أوروبا بدورها العالمي في الدفاع عن حقوق الإنسان وحرية التعبير، لا يمكن أن تسمح بتحويل مؤسساتها إلى أدوات دعائية لقوى استبدادية.

فبيع النفوذ مقابل الهدايا والرحلات الفاخرة يهدد ليس فقط صورة البرلمان الأوروبي، بل مستقبل الديمقراطية ذاتها في القارة العجوز.

إن ما تمارسه الإمارات اليوم ليس مجرد تواصل سياسي مشروع، بل حرب ناعمة متكاملة تستهدف مفاصل القرار الأوروبي من الداخل، وتمثل تهديدًا حقيقيًا لاستقلالية السياسة الخارجية للاتحاد.

وفي زمن تتزايد فيه جرأة الأنظمة الاستبدادية، فإن السؤال الملحّ لم يعد: “هل تتدخل الإمارات في البرلمان الأوروبي؟” بل: “إلى أي مدى سمحت أوروبا لنفسها أن تُختَرق؟”

والنتيجة أن البرلمان الأوروبي يقف اليوم أمام اختبار حقيقي بين حماية قيمه الديمقراطية، أو التساهل مع شراء النفوذ وتحويل أروقته إلى ساحة نفوذ استبدادي بواجهة أوروبية. والخيار بيد صانعي القرار: إمّا الشفافية والرقابة، أو الانزلاق نحو التواطؤ.