في خطوة أثارت جدلًا واسعًا، أقرّ الرئيس الإماراتي محمد بن زايد تشديدًا غير مسبوق لقوانين الجرائم الإلكترونية والتشهير، بحيث أصبح أي تعليق “سلبي” أو “مسيء” – مكتوبًا أو صوتيًا أو حتى ضمن ردود عابرة على منصات التواصل الاجتماعي – كافيًا لجرّ صاحبه إلى المحاكم، مع عقوبات تصل إلى السجن إضافة إلى غرامات قد تبلغ نصف مليون درهم.
هذا الإجراء لم يكن مفاجئًا في مضمونه، فالإمارات تُعرف أصلًا بأنها من أكثر الدول تضييقًا على حرية الرأي والتعبير، لكن توقيته وطبيعته يكشفان عن أزمة عميقة في عقل النظام، الذي بات يتعامل مع أي همسة أو سخرية عابرة على “فيسبوك” أو “إكس” وكأنها تهديد وجودي للدولة.
القوانين كأداة للترهيب
لطالما استخدمت السلطات الإماراتية القوانين لإخضاع المجتمع ومنع أي مساحة للتعبير الحر. إلا أن الصياغة الجديدة لهذه القوانين تعكس نزعة انتقامية واضحة، إذ أنها لا تكتفي بتجريم النشر المباشر لمواد ناقدة، بل تذهب أبعد: حتى مشاركة تعليق أو الضغط على زر “إعجاب” يمكن أن يُصنّف جريمة إلكترونية.
بهذا الشكل، يتحول ملايين المقيمين والمواطنين إلى رهائن دائمة تحت سيف “الرقابة المسبقة”، ويُزرع الخوف في كل تفاعل اجتماعي، بحيث يُصبح الصمت هو الخيار الوحيد المتاح أمام الجميع.
“الإرهاب القانوني” كرسالة
اللافت أن الإمارات لم تشهد عبر تاريخها أي انتفاضة رقمية أو حملة إلكترونية منظّمة تهدد استقرار النظام. المجتمع في الداخل خاضع بشكل كامل، والإعلام التقليدي والمؤسسات الرسمية لا تسمح بوجود أي مساحة معارضة. فما الذي دفع بن زايد إلى هذه الخطوة؟
الجواب الأوضح: القلق الشخصي من صورته وسمعته. تقارير تُرفع يوميًا إليه عن السخرية، الاتهامات، والكشف عن الصفقات والفضائح، سواء من معارضين في الخارج أو ناشطين مجهولين على الشبكات.
ومع اتساع الفضاء الرقمي وصعوبة ضبطه بالكامل، وجد بن زايد نفسه أمام حالة عجز حقيقية: لا يمكنه أن يُخرس الجميع، ولا أن يُخفي كل الحقائق.
ومن هنا جاءت هذه الخطوة كنوع من “الإرهاب القانوني” الموجّه للداخل والخارج على السواء: رسالة تقول إن حتى المشاركة البسيطة أو التفاعل غير المباشر مع منشور ناقد قد تضعك في دائرة العقاب.
فشل السيطرة الرقمية
من المعروف أن الأنظمة السلطوية الحديثة تعتمد على جيش من الذباب الإلكتروني، ولدى الإمارات واحدة من أكثر هذه المنظومات نشاطًا، تعمل على التلميع وتضليل الرأي العام.
لكن هذه الجيوش الافتراضية تفشل في مواجهة المحتوى الحقيقي، خاصة حين يتعلّق الأمر بتسريبات أو فضائح مالية وأمنية مصدرها أفراد يعرفون خبايا النظام.
إذ لا يمر يوم إلا وتُكشف معلومات عن دور الإمارات في حروب المنطقة، أو عن صفقاتها الأمنية المشبوهة، أو عن سجلها الأسود في حقوق الإنسان. هذه المواد تنتشر خارج سيطرة الدولة، ويُعاد تداولها بشكل يصعب ملاحقته. هنا تتجلّى هشاشة النظام: قوة مالية هائلة، ونفوذ إقليمي، لكن في المقابل حساسية مَرَضيّة تجاه أي كلمة أو تعليق إلكتروني.
بن زايد ولغة التهديد
هذه السياسة تعكس عقلية الحكم في الإمارات: لا لغة سوى لغة التهديد. بن زايد يحكم بعقلية أمنية محضة، ويعتبر أن إخضاع المجتمع لا يتحقق إلا بالترهيب المستمر.
لكن اللافت أن هذه القوانين تبدو وكأنها موجهة ضد أشباح: أغلب من ينتقدونه يفعلون ذلك من خارج الإمارات، أو عبر حسابات وهمية لا يمكن للنظام الوصول إليها.
إذن، ما جدوى هذه الرسالة؟ يمكن القول إن هدفها نفسي أكثر منه قانوني. النظام يريد أن يبقي المجتمع في الداخل في حالة خوف دائم، وأن يُشعر المقيمين بأن حياتهم المهنية والإقامة ذاتها يمكن أن تنهار بسبب تعليق أو إعادة نشر.
البُعد السياسي: عقدة الشرعية
تأتي هذه الخطوة في وقت تُكثّف فيه الإمارات دورها الإقليمي، وتضع نفسها لاعبًا رئيسيًا في ملفات تمتد من غزة إلى السودان وليبيا واليمن. لكن كل هذا النفوذ الخارجي لا يخفي حقيقة أن النظام يفتقد الشرعية الشعبية، وأنه يعيش على قاعدة الخوف بدلًا من قاعدة الرضا.
حين يضطر الحاكم إلى معاقبة الناس على مجرد “الإعجاب” بمنشور ناقد، فهذا لا يعكس قوة بل ضعفًا عميقًا. إنه اعتراف ضمني بأن الصورة المصنوعة عبر الإعلام المُمَول لم تعد تكفي، وأن الأصوات البديلة – مهما كانت صغيرة – باتت تشكّل كابوسًا للنظام.
عندما يُعاقَب الناس على الهمس
المثل يقول: “عندما يُعاقبونك على حتى الهمس… فاعلم أن ما يُخفونه أخطر مما تتخيل.” هذه هي الخلاصة الحقيقية لهذه القوانين. فالنظام الذي يجرّم حتى أبسط أشكال التعبير ليس واثقًا من نفسه، بل يخشى أن تُكشف جرائمه وفضائحه على نطاق أوسع.
وهذا الخوف – وليس أي تهديد حقيقي – هو ما يدفع محمد بن زايد إلى سن قوانين أشبه بصرخة من داخل “قصر زجاجي” هش، يُحاول حمايته من الانكسار أمام موجة الانتقادات والكراهية المتصاعدة.
وعليه فإن قوانين الجرائم الإلكترونية الأخيرة في الإمارات ليست مجرد تشديد إداري أو تنظيم قانوني. إنها تعبير صارخ عن ذهنية استبدادية مرعوبة من الكلمة الحرة، وعن نظام يزداد هشاشة كلما توسع نفوذه.
الرسالة التي يريد النظام إيصالها بسيطة: “نحن نراقب كل شيء”. لكن الرسالة المقابلة التي يفهمها الداخل والخارج أوضح: كل هذا القمع ليس سوى دليل على خوفٍ لا ينتهي.
