تعيش الإمارات هذه الأيام حالة استنفار إعلامي غير مسبوقة، بعد انكشاف دورها الميداني والمالي في الحرب السودانية التي أودت بحياة آلاف المدنيين، ودمّرت مدناً كاملة مثل الفاشر ونيالا وذلك في محاولة لتبييض صورة أبوظبي الملطخة بدماء المدنيين السودانيين.
وما إن بدأت التقارير الدولية والإعلامية تتحدث عن تدفق السلاح عبر أراضيها ودعمها لقوات الدعم السريع، حتى تحرّك القصر في أبوظبي لاستدعاء شبكاته الإعلامية المأجورة ومؤثريه المنتشرين في العواصم العربية لتبييض الصورة وتحصين السرد الرسمي المتداعي.
من القاهرة إلى عمّان وبيروت، ومن حسابات الذباب الإلكتروني إلى شاشات التلفزة، تدفقت موجة منشورات وتغريدات تُشيد بـ«المواقف المشرفة» و«دعم الإمارات للأشقاء العرب»، في خطابٍ مُكرر يهدف إلى حرف النقاش من اتهاماتٍ دامغة بارتكاب جرائم حرب إلى مزاعم عن «مؤامرة إخوانية» و«حملة كراهية ضد الدولة».
لكنّ هذا التحرك المكثّف، بدلاً من أن يحجب الفضيحة، فضحها أكثر. فحين تُستدعى الجموع بهذا الشكل الدفاعي الهستيري، يصبح الانكشاف أكبر من قدرة أي سردٍ على الإصلاح.
القصر يهرع إلى تلميع الدم
لم تكد صور الفاشر الدامية تنتشر حتى صدرت نداءات غير مباشرة من دوائر أبوظبي إلى الموالين والمؤثرين العرب: «افعلوا شيئاً»، «ادعموا الإمارات»، «احموا سمعتها». فظهر إعلاميون مثل أحمد موسى، أحد أبرز الوجوه المصرية المحسوبة على السلطة، ليكتب مدافعاً عن الإمارات ضد ما سماه «الهجمة الإخوانية الإرهابية».
لكن دفاع موسى لم يكن سوى صدى لنداء القصر، انعكاسٍ مباشر لحالة القلق داخل بنية السلطة الإماراتية من حجم ما يتكشف يومياً من وثائق وصور وشهادات ميدانية تربطها بالصراع في السودان.
والخطاب الدفاعي الذي يقدّمه موسى وأمثاله لا يتحدث عن الحقائق ولا يردّ على الاتهامات، بل يركّز على العاطفة والشعارات: «الإمارات تستحق الاحترام»، «وقفت معنا منذ 2013»، «تحب مصر».
إنها محاولة لتغليف الدم بالحنين، واستبدال السؤال عن الجرائم بسردية “الأخوة”.
لكن هذه اللغة، بدل أن تُقنع، كشفت هشاشة المنطق الذي يستند إليه هؤلاء المرتزقة الخطابيين، وأظهرت أن الدفاع لم يعد يستهدف الخارج، بل الداخل الإماراتي نفسه، لطمأنة القاعدة الشعبية المرتبكة أمام فيض من الأدلة والاتهامات.
من الإنكار إلى التعويم
لقد انتقلت الاستراتيجية الرسمية من مرحلة الإنكار التام إلى مرحلة التعويم: أي إغراق الفضاء بضجيجٍ لفظي يهدف إلى تشويش الصورة بدل تصحيحها.
المنظومة الإعلامية الموالية للإمارات تُغرق المنصات بخطابات وطنية متكررة: «نحن نحارب الإرهاب»، «نحمي استقرار المنطقة»، «نواجه حملات الكراهية»، بينما يتم تجاهل جوهر القضية: تورّط مباشر في تسليح جماعة مسلحة ارتكبت مجازر بحق المدنيين في دارفور.
هذا التحول من النفي إلى التعويم يعكس إدراكاً داخل أروقة الحكم بأن الكذب لم يعد مجدياً، وأن أفضل وسيلة للنجاة هي تضخيم الضجيج لتغطية المعنى.
وحين تتكاثر الأصوات المدفوعة، يصبح السرد أكثر تفككاً، ويولد من داخله رد فعل شعبي ساخر، يدرك أن وراء كل هذه الصرخات خوفاً لا بطولة.
تبييض عبر الاستثمار والعاطفة
جزء أساسي من هذه الحملة الإماراتية هو توظيف الإنجازات الاقتصادية والاستثمارات الضخمة كستارٍ دعائي. إذ يُقدَّم خطاب التبرير على شكل معادلة: من ينتقد الإمارات فهو يهاجم النجاح والاستقرار والتنمية.
هكذا تُستخدم المشاريع التجارية والرياضية والفنية كأدوات سياسية لإعادة رسم صورة الدولة كـ«قوة خير»، فيما تُطمس الجرائم خلف مشاهد الأبراج والموانئ والمهرجانات.
وإلى جانب ذلك، يُستدعى خطاب «الأخوة العربية» لتقوية الحصانة الأخلاقية: الإمارات «تحب العرب»، «تدعم مصر»، «تساعد المحتاجين».
لكن في زمن الكاميرات المفتوحة والتحقيقات المستقلة، لم تعد العاطفة تكفي لتغطية الدم، ولم يعد أحد يصدق أن المليارات التي تُنفق في السودان أو ليبيا أو اليمن هي صدقات إنسانية.
ويرى مراقبون أن كل استدعاء لمرتزقٍ إعلامي هو في جوهره اعترافٌ بالهلع من أبوظبي. إذ أن القصر الذي يملك عشرات الشركات والمنافذ الإعلامية يشعر بأن صور المقابر الجماعية في دارفور تهدد توازن روايته عن «السلام والاستقرار».
لهذا يتحرك بسرعة لتعبئة المؤثرين والمطبلين في حملة “دفاع مقدس” ضد «الأعداء».
لكن كل تغريدة أو تصريحٍ موجه من هؤلاء تُظهر مقدار الخوف أكثر مما تُخفيه.
الاستنفار الجماعي لا يقنع أحداً؛ بل يسلّط الضوء على الفضيحة ويمنحها زخماً جديداً.
في النهاية، ليست هذه الحملة إلا محاولة لامتصاص الصدمة داخلياً، قبل أن تكون سعياً لتصحيح السمعة خارجياً.
أبوظبي تدرك أن العالم لا يصدق بياناتها الرسمية، وأن الإعلام الدولي يملك من الوثائق ما يكفي لفضح دورها. لذلك تركز على الداخل الخليجي والمصري، تحاول شراء الوجدان بالعاطفة والمال، وتعيد تشغيل ماكينة “الإخوان” كفزّاعة جاهزة لتبرير كل جريمة.
لكنّ كل صوتٍ مدفوع، وكل تغريدةٍ مأجورة، وكل مقطعٍ تبريريّ، يزيد القناعة بأن الجريمة أعمق مما يُقال، وأنّ القلق داخل أروقة الحكم أكبر من أي قدرة على السيطرة.
الفضيحة، ببساطة، لم تعد قابلة للتلميع — وكل استنفارٍ جديد يؤكد أن المعركة لم تعد على السرد فقط، بل على ما تبقى من صورةٍ كانت تُسوَّق ذات يوم بوصفها «نموذجاً للتسامح».
