حين عُيّن خالد بن محمد بن زايد ولياً للعهد في مارس 2023 بقوة الأمن والسلطة، بدت الصورة أمام الرأي العام كأنها تتويج طبيعي لمسار السلطة في الإمارات، أو كما وصفها بعض المراقبين “تتويج ناعم، لا انقلاباً داخلياً.
لكن من يعرف تقاليد الحكم في أبوظبي يدرك أن هذا التعيين كان نهاية مرحلة وبداية أخرى، تُرسم فيها ملامح الدولة عبر وجوه جديدة وتحالفات مختلفة.
لأكثر من خمسين عاماً، ظل الحكم في أبوظبي يتنقل أفقياً بين الإخوة من أبناء زايد. كانت تلك القاعدة شبه مقدسة لضمان التوازن داخل العائلة ومنع تغوّل أي جناح.
لكن مع تولية خالد، كُسر هذا العرف لصالح “وراثة سلالية” رأسية، تفتح الباب أمام توريث الحكم من الأب إلى الابن مباشرةً، وهي سابقة في تاريخ الدولة.
ولأجل إفساح الطريق أمام نجل الرئيس، كان على الجميع أن يتراجع خطوة: طحنون بن زايد، رجل الأمن والمخابرات القوي، أُعيد تموضعه في الخلفية؛ منصور بن زايد، رجل المال والاستثمارات والواجهات الناعمة، بدأ يواجه تراجعاً في الحظوة والنفوذ؛ وحتى الشيخ هزاع بن زايد، وُضع على الرف سياسياً من دون اعتراض علني.
لكن خالد ليس “أميراً رمزياً” يُعدّ لمستقبل بعيد. بل هو ولي عهد فعلي يمارس صلاحياته اليوم على الأرض عبر ثلاث قنوات نفوذ متوازية تُظهر حجم الدور الذي بدأ يلعبه في بنية الدولة العميقة.
الأمن الداخلي والمخابرات
منذ تسميته ولياً للعهد، تولّى خالد فعلياً قيادة جهاز الأمن السيادي من خلف الكواليس. تحرّكه هنا يتجاوز مجرد تلقي التقارير، بل يُشرف على ملفات حساسة للغاية تتعلق بالمراقبة الداخلية، وضبط الولاءات، والتعيينات في المراكز الأمنية العليا.
الأهم أنه يقود إعادة هيكلة الجهاز بحيث يصبح ولاؤه رأسياً له مباشرة، لا عبر طحنون بن زايد الذي كان لسنوات العقل المدبر للأمن والاستخبارات.
هذه الهيكلة تحمل دلالة كبرى: خالد لا يريد أي وسائط أو “رجال ظل” بينه وبين أدوات القوة الأمنية، وهي سمة مألوفة عند من يُعدّ نفسه لحكم طويل الأمد.
جهاز الاتصال الرئاسي والإعلام الرسمي
على خط موازٍ، عزّز خالد قبضته على جهاز الاتصال الرئاسي، الذي بات بمثابة “غرفة العمليات الإعلامية” التي تتحكم في سردية الدولة داخلياً وخارجياً.
الإطلالات الإعلامية، تسريبات الصحافة الغربية، ترتيب اللقاءات الدبلوماسية، حتى صياغة بيانات الدولة في الملفات الإقليمية والدولية، كلها تمر عبر مكتبه. لم يعد هناك شيء يُقال عن أبوظبي إلا بعد أن يُفلتر في جهازه.
خالد يدرك تماماً أهمية الصورة، خصوصاً في الغرب، في ظل ما تعرضت له سمعة الإمارات خلال السنوات الماضية بسبب تورطها في حروب اليمن وليبيا وملفات حقوق الإنسان. ولهذا، بدأ في ضخ استثمارات ضخمة في شركات علاقات عامة غربية لإعادة تقديم صورة أبوظبي بوصفها “دولة معتدلة يقودها جيل شاب عصري.”
الملف الاقتصادي – الابتكاري
على خلاف أعمامه وإخوته الذين التصقت أسماؤهم بملفات النفط، والذهب، ودعم الميليشيات العابرة للحدود، اختار خالد أن يبني لنفسه مجالاً “نظيفاً” يرتبط بالمستقبل والابتكار.
يقود حالياً مشاريع الذكاء الاصطناعي والتقنيات السيادية، وله حضور مباشر في مبادرات الشراكة التكنولوجية مع شركات أميركية كبرى.
وهذا المسار ليس اقتصادياً فقط، بل سياسي أيضاً، لأن خالد يضع نفسه في قلب شبكة المصالح الغربية – الأميركية تحديداً – التي ترى في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي ساحة النفوذ المقبلة في الخليج.
في المقابل، جرى إبعاده عن ملفات النفط والتجارة السرية بالذهب والسلاح، التي لاحقت الإخوة بفضائح وإحراجات دولية.
في الأشهر الأخيرة، بدا واضحاً أن ولي العهد الشاب يتحرك على مستوى عالمي: زار باريس ولندن وواشنطن، والتقى رؤساء أجهزة استخبارات وصناديق سيادية، وعقد اجتماعات مغلقة مع شركات علاقات عامة، ليرسم ملامح ما يصفه المقربون منه بـ “المشهد المقبل”؛ أي دولة يقودها جيل جديد، نظيف، بلا دماء ولا ذهب مسروق.
لكن خالد لا يتحرك وحده. معه ضباط صعدوا إلى مواقع مؤثرة في جهاز الأمن وفق ولاء شخصي مباشر له، ومعه مستشارون غربيون على صلة بصناع القرار في واشنطن، ومعه الدعم الصريح من والده، محمد بن زايد، الذي يبدو أنه خطط منذ سنوات لإزاحة الإخوة خطوة إلى الوراء تمهيداً للتوريث السلالي.
وفي هذه البيئة، يجري “تفريغ” المشهد من أي منافس محتمل بهدوء: منصور يُفضَح إعلامياً بين حين وآخر بملفات مالية أو قضايا فساد؛ طحنون يُعاد تموضعه بعيداً عن واجهة القرار؛ هزاع جُمّد حضوره السياسي منذ أشهر.
في المقابل، تُقدَّم الإمارات من جديد كـ “نموذج قادم” يقوده أمير شاب محايد اسمه خالد، يروّج له في الصحافة الغربية بوصفه “وجه الإمارات العصري.”
لكن من يعرف القصر من الداخل يدرك أن “نظافة الأيدي” لا تُشترى بالإعلانات والعلاقات العامة وحدها. ولا تزال الأسئلة الكبرى مفتوحة: هل انسحب طحنون فعلاً من المشهد، أم ينتظر اللحظة المناسبة للرد؟ ولماذا يحظى خالد بقبول أميركي وإسرائيلي غير مسبوق؟ ومن داخل القصر لا يزال يرفض تسليم كل الأوراق لهذا الأمير الشاب الذي يتحرك بثلاثة أجهزة وأكثر من ظل؟
الأيام المقبلة وحدها ستحسم إن كان خالد بن محمد بن زايد مجرّد ولي عهد يُهيّأ للمستقبل… أم الحاكم الفعلي للإمارات منذ الآن.
