تتيح السياسة الخارجية لدولة الإمارات دراسة حالة غريبة لعلماء العلاقات الدولية: دولة صغيرة بها عدد ضئيل من السكان ووجود ضئيل تاريخياً على المسرح العالمي، ولكن مع طموحات كبيرة – ويبدو أنها تتوسع باستمرار.
خلال العقد الماضي، وفي الوقت الذي عززت فيه مكانتها كمركز مالي إقليمي ومركز أعمال عالمي، أصبحت الإمارات بهدوء قوة عسكرية صاعدة في الشرق الأوسط.
وتم ذلك في ظل الفراغ الناشئ عن إضعاف الأوزان الثقيلة في العالم العربي، تشكيل هلال من عدم الاستقرار في ليبيا والسودان وجنوب السودان واليمن، وتكلّس مجلس التعاون الخليجي، والتحول في الأولويات الجيوستراتيجية الأمريكية، وتورط الإمارات في النزاع اليمني، والتنافس مع إيران وتحول مصر إلى حليف تابع في أغلب الأحيان، لتنفيذ ما تطمح له أبو ظبي في ملفات بعينها.
يعد ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد هو صاحب هذا المشروع الإماراتي الكبير، العابر للحدود والقارات، لتوسيع نفوذ وثروات بلاده. مشروع استغرق سنوات طويلة، في محطات تغطي قارات العالم، وتتجاوز قدرات الدولة الصغيرة.
وفي معظم هذه المحطات كان الغموض والفشل حليفين لمشروع بن زايد السياسي والعسكري والمالي.
الخطوة الأولى: جيش قوي يستفيد من التحالف مع واشنطن
كانت سيطرة بن زايد والدائرة المقربة منه على السلطة إيذانا بتحول كبير في مسار الدولة الإماراتية بأكملها. وبوصفه قائدا عسكريا في المقام الأول، فإن رؤية ولي عهد أبوظبي تمحورت حول تشكيل قوة عسكرية قادرة تكون مركزا لمشروع دولته الجديدة، بدلا من الاعتماد على الرعاة الأجانب.
وكان لابد لهذا الجيش أن يكون قادرا على العمل خارج حدود الإمارات.
ضخ ولي العهد عشرات المليارات من الدولارات في صفقات كبرى لشراء الأسلحة لكنه واجه عدة معوقات:
* الحجم الجغرافي المحدود للإمارات.
* النقص الملحوظ في قدراتها البشرية.
*التزام الدولة بتقديم المنافع إلى الشعب.
لكنه واصل عروضه المثيرة على مسارح الشرق الأوسط الكبير، وأفريقيا، وأوروبا وأمريكا الشمالية. وما لا يتحقق بالسلاح، تشتريه الأموال والنفوذ والمحاباة.
من أجل التغلب على هذه المعوقات ربط بن زايد جيشه الصغير عسكريا بأميركا بكل طريقة ممكنة، ومنذ نهاية عملية عاصفة الصحراء، سمحت الإمارات للجيش الأميركي بالحفاظ على وجوده في البلاد، واستضافت سرب طائرات إعادة التزود بالوقود الأميركية التي فرضت منطقة حظر الطيران فوق جنوب العراق.
وقد تكللت جهود الإمارات في العام نفسه بالتوقيع على اتفاقية التعاون الدفاعي والاقتصادي، “ديكا”، التي سمحت للقوات الأميركية رسميا باستخدام المرافق الإماراتية للأغراض العسكرية، والموانئ الإماراتية العميقة على الخليج وعلى رأسها ميناء جبل علي، وتم تجديد الاتفاقية وتوسيعها عام 2017.
إضافة إلى ذلك، فإن الإمارات شاركت بنشاط في جميع الائتلافات العسكرية التي قادتها واشنطن منذ “عاصفة الصحراء”، بما في ذلك العمليات العسكرية في الصومال والبوسنة وكوسوفا في التسعينيات، إضافة إلى أفغانستان عام 2001، وليبيا عام 2011، وأخيرا الحملة الأميركية “الدولية” ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في العراق والشام عام 2014.
بذلك فإن الإمارات أصبحت الدولة العربية الوحيدة التي شاركت في 6 تحالفات عسكرية قادتها أميركا خلال العقود الثلاثة الماضية.
الخطوة الثانية: المرتزقة في مدينة الشيخ زايد العسكرية
من أجل ممارسة هذه القوة، فإن الإمارات كانت بحاجة إلى ضخ كل قوة بشرية ممكنة داخل جيشها الذي ظل يعاني رغم تدريبه وتسليحه من مشكلة محدودية العدد، وهو ما دفع البلاد عام 2014 إلى فرض التجنيد الإجباري على الشباب، فضلا عن السماح بالتجنيد الاختياري للفتيات.
غير أن السماح بتدفق المجندين الوطنيين لا يخلو من مخاطره أيضا، فلطالما كان لملكيات الخليج مخاوفها القوية من تأسيس جيوش نظامية تعتمد على نخبة مواطنيها، وهي مخاوف تعود إلى حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية خلال الخمسينيات والستينيات، حين أنهت الجيوش الوطنية حكم الملكيات في العديد من دول الشرق الأوسط الكبرى وخاصة في مصر والشام.
تعود هذه المخاوف بالأساس إلى التغييرات البيروقراطية المرتبطة بالتجنيد الإلزامي، والذي يتطلب بالضرورة تدفق العديد من المجندين والضباط من الطبقات الفقيرة والمتوسطة وربما من الأقليات الدينية (الشيعة) على سبيل المثال، وقد ينتهي الحال بهؤلاء إلى مصاف قيادات الجيش.
لم يجد بن زايد غضاضة في الإفصاح يوما بأنه “لا يثق بجيشه الوطني أو في ولائه للأسرة الحاكمة”، وفق ما جاء في برقية ويكيليكس، برقية حملت تفاصيل حوار “ابن زايد” مع مساعد وزير الخارجية الأميركي “وليام بيرنز” عام 2007، ونتيجة لذلك، فإن الإمارات اعتمدت في وقت مبكر في تكوين جيشها على الأجانب، حيث تشير التقديرات إلى أنه خلال التسعينيات كان ثلث قوات الجيش الإماراتي من الأجانب المأجورين.
كانت تجربة الإمارات الأولى في عالم المرتزقة في الصومال، حين استعانت أبوظبي بخدمات إمبراطور المرتزقة العالمي ومؤسس شركة “بلاك ووتر” سيئة السمعة “إريك برنس” لتدريب 200 شخص، من الموالين للحكومة الصومالية، عبر شركة لخدمات المرتزقة الأمنيين ذات أصول جنوب أفريقية تُدعى “ساراسن الدولية”، على أن تتحمل أبوظبي الفاتورة كاملة والتي قُدّرت آنذاك بنحو 50 مليون دولار.
وفيما يبدو، فإن النجاح الأوّلي الذي حققته مغامرة مقديشيو قد أغرى الإمارات بتوسيع التجربة، وبحلول عام 2010 كان إريك برنس قد قرر الاستقرار في أبوظبي لممارسة أعماله الجديدة من داخل الإمارة.
لم تكن هذه الأعمال سوى شركة غامضة جديدة تُدعى “ريفليكس ريسبونس” يقودها “برنس” ويمتلك الإماراتيون معظم أسهمها، وسرعان ما أثبت مرتزق الحروب الأميركي أنه كان عند حسن حظ أولياء نعمته الجدد، بعد أن نجحت شركته في تجنيد المئات من المرتزقة من الأفارقة والكولومبيين والأوروبيين الذين تدفقوا إلى أبوظبي في إحدى ليالي عام 2010 بوصفهم عمال بناء، ليستقروا خلف الجدران الخرسانية لمدينة الشيخ زايد العسكرية في أبوظبي.
من الناحية العملية؛ يمكن لفِرَق المرتزقة الإماراتية القيام بكل شيء ممكن، من الحفاظ على وحماية منشآت النفط وناطحات السحاب، إلى إخماد الاضطرابات العمالية والثورات الشعبية المحتملة حال تطلب الأمر ذلك، وبالتأكيد فإن بإمكانهم أيضا خوض الحروب الخارجية، وهو ما حدث بالفعل حين أرسلت الإمارات مئات المرتزقة للمشاركة في المهام القتالية في الخارج.
الجنود المرتزقة يأتون من دول أفقر، فقد أفادت تقارير بأن أبوظبي تجنِّد أبناء القبائل العربية في تشاد والنيجر، للزجِّ بهم في الحرب في اليمن.
ولكن المرتزقة الكولومبيين مفضلون بالنسبة للجيش الإماراتي، وفقاً لما كُشف في عدة تقارير، منها ما صرح به ضابطان سابقان وخبير أمني لوكالة فرانس برس عام 2015، بأن دولة الإمارات العربية المتحدة أرسلت سراً نحو 300 من المرتزقة الكولومبيين، للقتال نيابة عن جيشها في اليمن.
الخلاصة: كانت الخطة كما رُسمت في عقل ولي عهد أبوظبي بسيطة للغاية، جيش هجين من المقاتلين الوطنيين والمرتزقة الأجانب، يتولى فيه الأجانب المواقع القيادية مع تدريب فعال وتسليح عالي المستوى.
الخطوة الثالثة: مطاردة آثار الربيع العربي
جاءت اللحظة الفاصلة والمنتظرة بالفعل عام 2011 مع قيام ثورات الربيع العربي، وهي لحظة أعادت تشكيل سياسة الأمن القومي الإماراتية لتتحول تماما عن التهديدات التقليدية القادمة من أعداء خارجيين، إلى التركيز الكامل على وأد الاضطرابات الداخلية المحتملة ومكافحة صعود الإسلاميين.
ومنذ هبت النسمات الأولى للربيع العربي، سعت الإمارات إلى أن تصبح طرفًا فاعلًا سياسيًا رئيسيًا، مع الحفاظ على وجود عسكري هائل، وتقديم مساعدات اقتصادية فخمة وتولي دور صانع الملوك ووسيط السلام. تدير دولة الإمارات العربية المتحدة اليوم موانئ في أربعة من الدول السبع المطلة على البحر الأحمر (مصر، الصومال، اليمن، المملكة العربية السعودية)، وقواعد عسكرية في اليمن وإريتريا وصوماليلاند.
يعمل محمد بن زايد ضد الانتقال الديمقراطي في مصر، ويتحدى الحظر الأممي على بيع الأسلحة إلى حفتر، ويتجاهل الالتماسات الأمريكية بإنهاء خصومته مع قطر، التي تستضيف قاعدة جوية أمريكية.
كما أن الكثير من تدخلاته الخارجية خلقت نتائج متضاربة. إذ أن مصر الآن تعاني، وقطر لم تنحن، والفريق خليفة حفتر يتخبط من فشل إلى هزيمة، واليمن تحول إلى مستنقع عسكري وكارثة انسانية، بينما يشتعل عدد من الصراعات بين الخصوم في منطقة القرن الأفريقي، بعد أن أطلق بن زايد شرارتها الأولى.
وقد اعتبرت تمارا كوفمان ويتس، المسؤولة السابقة في وزارة الخارجية الأمريكية والباحثة في معهد بروكينغز، أن الأمريكيين من خلال تسليحهم للإمارات العربية المتحدة بتكنولوجيا مراقبة متطورة، وقوات كوماندوز وأسلحة، تسببوا بخلق وحش فرانكنشتاين صغير.
ليبيا: الدعم متواصل للجنرال الفاشل
بات التدخل العسكري الإماراتي في ليبيا واضحا، أولا من خلال تجنيد وتمويل الميليشيات السلفية، التي تشكل الآن الجزء الأساسي من القوة العسكرية لمعسكر حفتر على الأرض. ولكن في هذا البلد، يبدو أن الإماراتيين تجاوزوا الخطوط الحمراء من خلال التدخل المباشر في المعارك، حيث أنهم أطلقوا منذ سنة 2014 عمليات ميدانية باستخدام طائراتهم المقاتلة، انطلاقا من مصر، ومن خلال القاعدة الجوية الخادم التي تبعد 100 كيلومتر على العاصمة، وأيضا من خلال الاعتماد على طائرات مسيرة مصنوعة في الصين والإمارات، إحداها تم إسقاطها في بداية حزيران/ يونيو فوق طرابلس.
وبمساعدات من الإمارات ومصر، تُواصل قوات حفتر منذ الرابع من أبريل/نيسان الماضي محاولاتها للسيطرة على طرابلس، حيث مقرّ حكومة الوفاق، مما تسبّب بسقوط 1093 قتيلاً، وإصابة 5762، بينهم مدنيون. في حين تخطَّى عددُ النازحين مئة ألف شخص، بحسب وكالات أممية.
وأدت الهزائم المتوالية لحفتر إلى أن “أن الإمارات وجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه، فالأمر لا يتعلق فقط بمساندتها حفتر بالمال والأسلحة؛ فهو أمر معروف منذ فترة طويلة، لكن المشكلة تكمن في طبيعة هذه الأسلحة”.
كانت قوات حكومة الوفاق الوطني التي سيطرت على غريان بعد طرد قوات حفتر وجدت صناديق ضخمة من الأسلحة والصواريخ الأميركية، كما عثرت فيها على عقود الشراء التي أبرمت بين الولايات المتحدة والإمارات، وتضمنت تعهدات إماراتية بعدم نقل هذه الأسلحة لأي ساحة حرب أخرى.
وفي حال اهتمام الكونغرس الأمريكي بهذه القضية، فقد يستجوب الحكومة بشأن إذا كانت تعلم أن أسلحة أميركية تستغل لدعم جماعات إرهابية، خاصة أن حفتر يواجه تهما بالإرهاب أمام المحاكم الأميركية.
مصر: الدعم للسيسي والسيطرة على الإعلام
أرسلت الإمارات مليارات الدولارات إلى مصر لتدعيم وزير الدفاع آنذاك عبد الفتاح السيسي عقب إطاحته بمحمد مرسي الرئيس المصري الراحل في 2013
ونقلت بوابة الأهرام عن دراسة لمركز القاهرة للدراسات الاقتصادية والإستراتيجية، أن مصر تحتل المرتبة الثانية في الاستحواذ على استثمارات الإمارات الخارجية بقيمة 7.2 مليار دولار. وبرر التقرير ذلك بأن “الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة”.
دعمت الإمارات الثورة المضادة التي استهدفت من خلالها وأد ثورة يناير وتبعاتها وإسقاط أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر، حيث أغدقت الأموال على حركة “تمرد” التي قادت حملة توقيعات لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وإسقاط جماعة الإخوان المسلمين، كذلك دعم الأمن المصري بالأسلحة والذخيرة التي تتصدى بها لأي مظاهرات احتجاجية ضد الانقلاب.
ووصل حجم الدعم الذي قدمه بن زايد للسيسي بعد توليه السلطة إلى أرقام ضخمة، بداية بمنحة قيمتها مليار دولار، ووديعة بملياري دولار، وبعد ذلك 4.9 مليار دولار لإقامة مشاريع خدمية، إضافة إلى تمويل شراء كميات من الوقود لتأمين احتياجات مصر من الطاقة حتى 2015، كما قدم تمويل مبادرات ومشاريع متنوعة بهدف تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وبحسب مسؤولين إماراتيين فإن بلادهم قدمت لمصر أكثر من 14 مليار دولار حتى 2015.
كما لعبت دورًا آخر في توجيه الصراع الداخلي والانقسام من خلال قنواتها الإعلامية التي تعزف على وتر غياب الاستقرار، كما ساعدها تمويلها لوسائل إعلام مصرية في فرض أجندتها الخاصة على السياسة التحريرية لهذه الوسائل، خاصة ذات الانتشار الواسع كصحيفة اليوم السابع والمصري اليوم والوطن، إضافة إلى تمويل إنشاء بعض المراكز البحثية والإعلامية التي تخدم توجهاتها مثل المركز العربي للدراسات والبحوث الذي يديره البرلماني عبد الرحيم علي، المقرب من الإمارات ودوائر صنع القرار المصري، فضلاً عن تقديم الهدايا والمكافآت لعدد من الإعلاميين بهدف الالتزام بالتعليمات وتنفيذ المطلوب على أكمل وجه، كما كشفت تسريبات “ويكيليكس”.
وتصدرت الإمارات قائمة أكثر الدول استثماراً في القطاع العقاري المصري، بنهاية عام 2018، بنحو 94 مليار جنيه، خلال الأربع سنوات الأخيرة، في كل المجالات تقريبا. وفي القطاع الصحي نجحت شركة أبراج كابيتال الإماراتية العملاقة، في الاستحواذٍ على أكبر كيانات طبيّة داخل مصر، جعلها مُحتكرا لهذا القطاع الذي يخدم الملايين من المواطنين. وسبق أن حذرت هيئة الرقابة الإدارية من أن هيمنة الإمارات على القطاعات الطبية في مصر “تهدد الأمن القومي المصري”.
اليمن: ميليشيات خاصة وزحف على الموانئ
في سبتمبر/ أيلول 2015 تلقت الإمارات أسوأ ضربة عسكرية لجيشها الحديث، بسقوط 45 قتيلا من جنودها في اليمن، حسب وكالة الأنباء الإماراتية.
في هذا اليوم أطلق الحوثيون صاروخا على مستودع للذخيرة بمعسكر لقوات التحالف في مأرب، مما أسفر عن مقتل العشرات من العسكريين الاماراتيين واليمنيين وتدمير عدد من مروحيات أباتشي والآليات المدرعة.
كانت اليمن هي الحرب العسكرية الحقيقية الأولى في تاريخ الإمارات القصير، وكانت الخسارة البشرية المبكرة على ما يبدو أكبر من أن يتحملها مواطنو وقيادة الدولة على حد سواء، فالشعب الذي طالما نظر للدولة باعتبارها مجرد مورد للمنافع المالية والاجتماعية في مجتمع طالما غلبت فيه القبلية على القومية، وجد نفسه مُطالبا بأداء الالتزامات العسكرية، والمشاركة في عمليات عسكرية فعلية وبالغة العنف.
في صيف عام 2015 جرت أكبر عملية إنزال بحري في دولة شرق أوسطية منذ عام 1991، وقادت الإمارات فيها الهجوم البرمائي على عدن، متحولة إلى مشروع احتلال عسكري يبسط نفوذه خارج الحدود.
وعقب إطلاق السعودية عمليات عاصفة الحزم، بدت شهية أبو ظبي مفتوحة لاحتلال أراضي الغير وتوسيع النفوذ.
وبدأ التوسع والنفوذ الإماراتي في اليمن مستغلًا انشغال السعودية بوضعها الداخلي وإعادة ترتيب أمور الحكم الداخلية بعد تولي محمد بن سلمان من ناحية، والمعارك في حدودها الجنوبية مع مليشيا الحوثي وقوات الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح من ناحية أخرى.
وفي غفلة من حكومة اليمن الشرعية والتحالف الذي تحركت باسمه، تنشط تحركات أبو ظبي العسكرية في إنشاء مليشياتها الخاصة وإقامة سجونها السرية التي تكشف كثيرًا من فظائعها، ويُفترض في تلك التحركات في اليمن وباب المندب أن تثير – على الأقل – ريبة الجيران.
الإمارات تصنع الجنرالات
عملت الإمارات خلال الأعوام الأربعة الماضية على تكديس هذه المضايق والخلجان داخل القوس بالعديد من القواعد والمنشآت العسكرية، بداية من “عدن” و”سقطرى” و”ميون” في اليمن، ومرورا بـ “عصب” في إريتريا، حتى “بربرة” و”بوصاصو” في الصومال.
الإمارات امتلكت على الدوام هاجسا طويل الأمد من التفوق النوعي للبحرية الإيرانية والوجود البحري لإيران في القرن الأفريقي وحول خليج عمان، فضلا عن التهديدات المتجددة من قِبل القراصنة على ساحل الصومال، وكلها عوامل دفعت أبوظبي للانخراط في سباق للتسلح، سباق كان من وجهة نظرها سباقا من أجل الوجود قبل أن يكون لأجل الهيمنة.
إضافة إلى ذلك، يجعل الوجود العسكري المكثف من السهل على الإمارات ممارسة دورها المفضل، خلال حقبة ما بعد الربيع العربي، كصانع حقيقي للملوك في حزام من الدول الهشة والأنظمة السياسية غير المستقرة، وهي دول تعتبرها الإمارات اليوم عمقا أمنيا لها، خاصة في ظل السباق الجيوسياسي المعقد الذي تتنافس فيه أبوظبي مع مجموعة من اللاعبين الإقليميين.
وعلى رأس المنافسين هناك تركيا التي تمتلك بدورها طموحها ونموذج أعمالها الخاص في المنطقة القائم على التنمية الاقتصادية والخدمات الاجتماعية، وهو نموذج أثبت نجاحه في الفوز بالقلوب والعقول ما مكّن أنقرة من تطويره إلى شكل من أشكال القوة الخشنة المقبولة عبر افتتاح قاعدة عسكرية في الصومال.
يبقى السؤال المهّم:
هل نجحت الإمارات في بناء حلمها الامبراطوري؟
جميع حالات التدخل الإماراتي في بلدان الربيع العربي باءت بالفشل، وأدت إلى أثر عكسي أضرّ بالإمارات وصورتها عربياً ودولياً، ويبدو أن بن زايد يبني إمبراطورية من الرمل!
ففي السودان؛ رفضت القوى المدنية الانصياع للمجلس العسكري، خاصة بعض فض اعتصام القيادة العامة بالقوة مما أدى إلى مقتل العشرات، وكشف الوجه الحقيقي للمجلس العسكري وخاصة الجنرال محمد حمدان (حميدتي).
وفي اليمن؛ بدا واضحاً أن لدى الإمارات أجندة خاصة هناك وليست مجرد حليف للسعودية، ولكن هذه الأجندة تتعثر كل يوم، ويزداد التورط العسكري الإماراتي في حرب لا فائدة ولا طائل من ورائها.
وقد شوّهت الحرب صورة الإمارات التي تحاول رسمها لنفسها باعتبارها منارة للتسامح في المنطقة، وذلك نتيجة للخسائر البشرية خاصة من الأطفال والتجويع الذي يتعرض له الشعب اليمني. ولعل ذلك ما يفسر الانسحاب الإماراتي وإعادة الانتشار في اليمن.
وفي مصر؛ رغم ما يبدو استقراراً سطحياً فإن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية تغلي ويمكنها أن تنفجر في أية لحظة.
وفي ليبيا فشل حفتر حتى الآن في فرض سيطرته على البلاد، وفشلت حملته العسكرية على طرابلس بعد مرور قرابة أربعة أشهر على انطلاقها، وذلك رغم الدعم العسكري والسياسي واللوجيستي الذي تقدمه له الإمارات ومصر والسعودية ودول أوروبية مثل فرنسا.
أما حصار قطر؛ فقد فشلت كل محاولات الإمارات عزل قطر إقليمياً ودولياً، وخسرت المعركة الأخلاقية والسياسية معها.
وأخيراً فيما يخص إيران؛ دخلت المنطقة في أجواء تصعيدية، والذي قد يتطور إلى مواجهة إقليمية.
اكتشف حكام الإمارات أنهم يحكمون ما يشبه شركات متعددة الجنسيات أكثر من كونها دولة حقيقية بالمفهوم العالمي.
إذا كان بإمكان الشركات أن تمارس السياسة، فإن موظفيها لا يمكنهم خوض الحروب. وأن إرسال الجنود إلى الخارج يتطلب ما هو أكثر بكثير من الأسلحة المتطورة باهظة التكلفة.
وأن المغامرات العسكرية الخارجية تأتي دوما مع عواقبها السياسية والشعبية حتى وإن وقعت على بُعد آلاف الأميال من الحدود. وأن أحلام “محمد بن زايد” لامتلاك قوة عسكرية ضخمة منذ ثلاثة عقود مضت، وإن أصبحت واقعا مرئيا اليوم فإنها يمكن أن تتحول بين عشية وضحاها إلى كوابيس عسكرية وسياسية لا نهاية لها.