تستخف الصومال الدولة التي يجري نعتها بالفاشلة، بتورم دولة الإمارات وانتفاخها الظاهريْن. توضح وقائعُ تتابعت أخيرا هذا المستجدّ الشديد الجوهرية في معناه.
ومعناه أن من حق أي حكومةٍ أن تتوهم عن نفسها ما تشاء، أما عندما يفترض مسؤولون فيها أن على الآخرين التعامل مع الأوهام باعتبارها حقائق فإنهم يصيرون مدعوين إلى التعافي في مصحّاتٍ نفسية.
دلت شواهد غير قليلة أخيرا على أن هذه البديهة تنسحب على غير حكومةٍ عربيةٍ. وهذه الصومال، البلد المعوز الضعيف المنهَك، تمنحنا قرينةً ساطعةً على أن ثمّة ما لا يجوز إغفاله عند إحصاء مظاهر قوة هذه الدولة وتلك، فليست وحدَها أعداد السكان وسِعة المساحة وسنوات التاريخ والموارد الطبيعية والمالية العوامل الحاكمة في هذه القوة.
ثمّة غيرُها، مثل الذي تُعزى إليه الندّية الظاهرة، منذ أسابيع، في تعامل الصومال مع الإمارات، فليس المشهد هو ما ينطق به حال البلدين، الضعيف والقوي، الفقير والغني، الهشّ والممسوك، وإنما من يتوسّل نفوذا سياسيا وأمنيا بوسائل فوقيةٍ ومن يرفض هذا السلوك.
ولذلك، لا تزيّد في الزّعم إن التنازع الحادث بين مقديشو وأبوظبي مفيدٌ في مطالعة الظواهر السياسية بأدواتٍ غير كلاسيكية، تلحظ المنظور وغير المنظور من الفواعل المتنوعة.
يقول الوزير الإماراتي المغرد أنور قرقاش إن بلاده تعترف بالصومال دولةً موحدة، وترفض تقسيمها، لكن هذا لا يمنع من إقامة مشاريع تنموية واستثمارية في “أرض الصومال”، في إشارة إلى الجمهورية الانفصالية المعلنة من طرف واحد، والتي وقّعت شركة موانئ دبي العالمية مع حكومتها (!)، ومع إريتريا، اتفاقيةً ثلاثيةً لإدارة ميناءٍ هناك، من دون اكتراثٍ بالحكومة المركزية في مقديشو، صاحبة الولاية والسيادة، بموجب دستور البلاد، على جميع أراضي الصومال.
حدث هذا الشهر الماضي، بينما كان رئيس الحكومة الصومالية حسن علي خيري، مُستضافا في أبوظبي.
ومن قلة العقل أن يُؤخذ قرقاش وكلامه على محمل الجد، إذ يفتتح الرئيس الانفصالي، موسى عبدي، مكتب تمثيلٍ تجاري لجمهوريته في دبي، يومين بعد توقيع تلك الاتفاقية التي جعلت البرلمان الصومالي يقرّر منع “موانئ دبي العالمية” من العمل في أي موقعٍ في البلاد، ورئيس الجمهورية، محمد عبدالله (فرماجو) يقول إن بلاده تحتاج مشاريع واستثمارات في شتى المجالات، ولكن بطرقٍ رسمية، وبعلم الحكومة الفيدرالية، وباحترام سيادة الدولة والقوانين الدولية.
لم تجد أبوظبي للتنفيس عن سخطها مما بوغتت به، وجهر به المسؤولون الصوماليون، غير استئناف هجمات أدواتها الإعلامية على الرئيس، وكانت هذه قد بدأت خافتةً منذ انتخابه العام الماضي، فصار الرجل ذا هوىً إخواني، يحرّكه الأتراك والقطريون، ويسيّره صحافي في قناة الجزيرة مقيمٌ في قصر الرئاسة.
ولم تكن واقعة اتفاقية الميناء، ورفض مقديشو القوي لها، سوى محطة فارقة في مسار النزاع، أعقبتها مصادرة السلطات الصومالية نحو عشرة ملايين دولار من طائرةٍ إماراتيةٍ في مطار مقديشو، قالت إن محاولة إدخالها البلاد سلكت طرقا غير متوافقة مع القوانين المحلية والدولية، ما أشعل غضبا مهولا في أبوظبي، وردّا رسميا منها، يقول إن الأموال كانت لتُصرف على جيش الصومال الذي أوقف برنامجا تدريبيا له كانت الإمارات تؤدّيه، بموجب اتفاقٍ موقّعٍ في 2014.
ولم تر أبوظبي في مواجهة هذه الضربات الصومالية المتتالية، وفي غضون ذهولها مما سمعت وشاهدت، غير إغلاق مستشفىً أنشأته وتشرف عليه، بل ونقل معدّاته إلى مقر سفارتها في مقديشو، في سلوكٍ دلّ على ارتجاجٍ مريعٍ في العقل الحاكم في أبوظبي، إذ لا يستقرّ في أفهام أي عاقلٍ أنك تبحث عن نفوذٍ سياسيٍّ ومعنويٍّ في بلدٍ، ثم تُقدم على إغلاق مستشفىً فيه.
تتصل أزمة الاحتقان الشديدة هذه بين أبوظبي ومقديشو، في خيوطٍ منها، برفض الرئاسة الصومالية مماشاة السعودية والإمارات ضد قطر، وكذا بترحيبها بمساعداتٍ قطريةٍ لقطاعاتٍ مدنيةٍ وشُرطيةٍ لم تتوقف، وباتفاقها مع تركيا على إقامة مركز عسكري في البلاد.
ولكن هذه التفاصيل كلها، كما الوقائع التالية التي ستتدحرج إليها الأزمة، تقع في الحاشية، فالمتن في القصة أن دولةً عربيةً ذات عوزٍ حاد، وهشّة أمنيا واقتصاديا، تستخفّ بتورّم امبراطورية الإمارات العربية المتحدة.. علناً.