تكرس انتخابات الرئاسة المقررة في تونس الأحد تأزم مشروع تحالف الثورات المضادة بقيادة دولة الإمارات القائم على محاربة الديمقراطية ومنع الحريات العامة بموجب مطالب الربيع العربي.
ويتوجه التونسيون إلى صناديق الاقتراع، لانتخاب رئيس جديد للبلاد في انتخابات مبكّرة فرضها رحيل الرئيس الباجي قايد السبسي في يوليو/ تموز المنصرم.
وفي تونس مهد ثورات الربيع العربي، يكتسي هذا الاقتراع أهمية تاريخية، باعتباره منعطفـا نوعيـا في اتجاه ما تسميه أدبيات التحول الديمقراطي ترسيخ الديمقراطية، بما يعنيه ذلك من إرساء دولة المؤسسات التي تنهض على فصل السلطات، والتداول السلمي على السلطة وسيادة القانون، وهو ما يبدو أن تونس تقترب منه شيئا فشيئا.
وعلى الرغم مما حظي به السياق الداخلي من أولوية في النقاشات المواكبة لهذه الانتخابات، خصوصا فيما له صلة بأداء النخب التونسية، والكيفيات التي استوعب بها المواطن العادي هذا الحدث، وتفاعل معه، إلا أنه لا يمكن إغفال السياق الإقليمي لهذا الاستحقاق الذي يجري وسط تحولات دالّة، قد يكون ملمحها الأبرزُ موجة ثانية من الربيع العربي أكثر نضجا وقدرة على مغالبة الإكراهات التي عادة ما تصاحب المراحل الانتقالية، ما تؤكّده الدروس المستخلصة مما يحدث في السودان والجزائر.
وإذا كان الحراك الجزائري لم يتوفق، إلى حدود اللحظة، في إفراز قوة سياسية تعيد صياغة مطالب الشارع في برنامج واضح، تُجابه به تعنت المؤسسة العسكرية، فقد نجح ائتلاف المعارضة السودانية في الانعراج بالحراك الشعبي صوب أفق آخر، بعد توافق عسير مع المجلس العسكري، مع ما يعنيه ذلك من إمكانية نجاح السودان في اجتراح تحولٍ هادئٍ ومتدرجٍ نحو الديمقراطية.
ولا شك أن الحراكيْن السوداني والجزائري، جعلا محور الثورة المضادة بقيادة الإمارات أكثر انزعاجا من الاستحقاق التونسي، فنجاحُه في ترسيخ الديمقراطية التونسية الفتية، سيُسهم، ولو بشكل غير مباشر، في جعلِ الشارع الجزائري أكثر إصرارا على المضي إلى انتزاع مطالبه المشروعة.
يتعلق الأمر بمخاوف متصاعدة في عواصم الثورة المضادة من تشكل دينامية جديدة في المنطقة، تستفيد من أخطاء الموجة الأولى من الربيع العربي. وتشكل ليبيا إحدى القلاع الرئيسية التي تراهن عليها الثورة المضادة لوقف هذا الدينامية، وبالتالي حصر التجربة التونسية في زاوية ضيقة، سيما مع استمرار حالة الانحباس السياسي في الجزائر.
في هذا السياق يبرز دلالة أن تستضيف أبو ظبي مؤتمرا صحافيا لأحمد المسماري المتحدث باسم مليشيات خليفة حفتر، في محاولة يائسة لحشد الدعم الإقليمي لهذه القوات، بعد الهزائم التي منيت بها في مواجهاتها أخيرا مع القوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني.
بمعنى أن عدم الاستقرار في ليبيـا خيارٌ استراتيجي بالنسبة للتحالف السعودي الإماراتي المصري، فمن شأن ذلك أن يُشكل قوة دفع ارتدادية بالنسبة للتجربة التونسية التي ستجد نفسها محاصرةً بمحيط إقليمي مُعادٍ للديمقراطية.
هزيمة قوات حفتر أو تراجعها على الأقل، ونجاحُ حكومة عبد الله حمدوك في السودان في تجاوز تناقضات المرحلة الانتقالية ونجاحُ الحراك الجزائري في إفراز قوة سياسية وازنـة تُمثله ذلك كله لن يكون فقط ضربة موجعة لمحور الثورة المضادة، بل سيكون إيذانا بانتقال التجربة التونسية إلى طوْر مغاير يغدو فيه العامل الإقليمي قوة دفع إيجابية بالنسبة لها.
ومن الإنصاف القول إنه لولا المحيط المعادي للديمقراطية في المنطقة، سيما بعد الانقلاب العسكري الذي شهدته مصر (2013)، لكانت مكاسب هذه التجربة باديةً أكثر.
أخفق محور الثورات المضادة بقيادة الإمارات طوال السنوات الفائتة، في إحداث اختراق حقيقي في المشهد التونسي، على الرغم من الإمكانات التي توفرت له.
ولعبت الإمارات دورا كبيرا من خلال نفوذيها، المالي والإعلامي في تشكيل خطاب سياسي وإعلامي موازٍ للتشكيك في الثورة وتطلعاتها، فساندت قوىً معادية للثورة، وسعت إلى إضعاف حركة النهضة وإخراجها من المعادلة السياسية، والتشويش على القرار التونسي، وذلك كله في محاولة منها لبناء ”مزاج سياسي عام” يفتح المجال أمام تدخل الجيش، وإقبار الديمقراطية التونسية في مهدها، في تكرار للسيناريو المصري.
تبدو الانتخابات التونسية في قلب مخططات محور الثورات المضادة بقيادة الإمارات الذي يواجه مأزقا حقيقيا في اليمن وليبيا، ونجاحُها سيعزّز بالتأكيد النفوذ الإقليمي للديمقراطية التونسية، ويوسّع هوامش تأثيرها في المنطقة، وربما يكون ذلك بداية مرحلة جديدة في المنطقة، في ضوء الانتظارات المعلقة على ما سيؤول إليه المشهدان في السودان والجزائر.