في السنوات الأخيرة، لم يُخفِ النظام الإماراتي استعلاءه على مؤسسة جامعة الدول العربية. فداخل الغرف المغلقة، وفي أوساط الدبلوماسية الإماراتية، جرى توصيف الجامعة باعتبارها “هيكلًا ميتًا”، كيانًا عتيقًا فقد كل أثر سياسي، وباتت قاعدته الوحيدة: الاجتماعات الشكلية والخطب المتكررة دون أثر.
ولم تبذل أبوظبي أي جهد سياسي حقيقي لإصلاح الجامعة أو تفعيل أدوارها، بل تجاهلتها تمامًا، معتبرة أن زمنها قد ولّى، ولم تكن ضمن أولوياتها السياسية أو الإقليمية.
لكن هذا التقدير تغيّر فجأة. والسبب لم يكن إصلاح الجامعة أو إدراك أهميتها. بل لأن السعودية، بهدوء ودون ضجيج، بدأت تفكر جديًا في تجديد قيادة هذا الكيان العربي – وتحديدًا عبر طرح اسم عادل الجبير لتولي منصب الأمين العام للجامعة.
قلق غير مبرر… إلا في عقلية محمد بن زايد
ما إن لاحت ملامح هذه المبادرة السعودية حتى اهتزت أروقة الحكم في أبوظبي. تقرير خاص رُفع إلى طحنون بن زايد حمل عنوانًا لافتًا: “احتمالية سيطرة سعودية على المنصب الرمزي الأرفع في الجامعة.”
وفي ضوء هذا التقدير، لم يُنظر إلى المسألة باعتبارها تحركًا إداريًا داخليًا ضمن مؤسسة ميتة – بل كتهديد مباشر لهيمنة الإمارات الرمزية على المشهد العربي.
فالجامعة، رغم ضعفها المؤسسي، ما تزال تُمثّل موقعًا رمزيًا للزعامة. وأبوظبي، التي بنت سياساتها على فرض صورة نمطية عن ريادتها، لا تحتمل أن تفقد هذا التوازن ولو على المستوى الرمزي. وهنا تكشف طبيعة التفكير السياسي للإمارات: هوس بالمظاهر لا بالجوهر، سعي إلى التفوق الشكلي، لا الإنجاز الحقيقي.
تحرك استعراضي لا يخفي الطمع
الرد الإماراتي لم يتأخر. وبدلاً من تقديم رؤية إصلاحية جادة للجامعة، أو حتى نقاش موضوعي حول قيادتها، أطلقت أبوظبي حملة تحرك صاخبة عنوانها: “أظهروا اهتمامًا مفاجئًا بالجامعة… دون أن نبدو طامعين.”
تم استدعاء اسم أنور قرقاش من ملفات العلاقات العامة القديمة، وعادت الأذرع الإعلامية – التي لم تأتِ على ذكر الجامعة منذ سنوات – لتروّج فجأة لأهميتها.
أصوات لم تميز في السابق بين مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية، تحولت إلى “خبراء” في النظام الأساسي للجامعة، مدافعين عن “دورها التاريخي” و”ضرورة توافق الدول الأعضاء على أي تغيير”.
ورغم محاولة التظاهر بالحياد، فإن التحركات الإماراتية كانت واضحة النية: إجهاض أي محاولة سعودية لتولي زمام القيادة الرمزية للعرب، ولو على حساب الكيان ذاته.
الإمارات لا تتحمل صعود الآخرين
ما تكشفه هذه القصة لا يخص الجامعة بقدر ما يكشف العقلية السياسية التي تحكم أبوظبي. فمنذ صعود محمد بن زايد كقائد فعلي للدولة، تبنت الإمارات سياسة تقوم على رفض أي صعود عربي مستقل خارج عباءتها أو حساباتها.
رأينا ذلك حين بدأ الربيع العربي، فبادرت أبوظبي لتمويل الثورات المضادة. ورأينا ذلك حين أرادت تونس أن تتحرر من وصاية أنظمتها الفاسدة، فتدخلت الإمارات بدعم انقلاب قيس سعيد. واليوم، يتكرر المشهد في الجامعة العربية، لا لشيء، سوى لأن السعودية تفكر في استعادة موطئ قدم رمزي يليق بمكانتها التاريخية.
الرسالة الإماراتية واضحة: “إما أن نقود العرب… أو نحطم أي محاولة للقيادة.” وهي عقلية لا تختلف كثيرًا عن سياسات إسرائيل في المنطقة.
بين الرياض وأبوظبي: تحالف هشّ وتنافس مستتر
اللافت في المشهد أن الإمارات تُصعّد ضد السعودية من تحت الطاولة، رغم ما يُسوّق على أنه “تحالف استراتيجي”.
صحيح أن العلاقات بين البلدين تظهر في الإعلام بوصفها متينة، إلا أن الوقائع تشير إلى تنافس محموم على الزعامة، ومحاولات متكررة من أبوظبي لتقزيم الدور السعودي.
فقد حاولت الإمارات سابقًا سرقة أدوار سعودية في ملفات مثل اليمن، القرن الإفريقي، ليبيا، وشرق المتوسط، وتحولت في مرات كثيرة إلى لاعب يُفشل ما تبدأه الرياض، لا يدعمه.
ولعلّ أبرز مثال هو تعطيل المجلس التنسيقي السعودي-الإماراتي، والتباعد في ملف أوبك، وانكفاء الإمارات عن دعم المبادرات السعودية تجاه السودان وسوريا، ناهيك عن تحركاتها الإعلامية لشيطنة “رؤية 2030” بشكل غير مباشر عبر ترويج نماذج بديلة.
عقدة القيادة… ورغبة في الهيمنة
مشكلة محمد بن زايد، وفق ما يقوله دبلوماسيون عرب سابقون، أنه “يريد أن يكون قائدًا بلا قاعدة، وزعيمًا بلا إرث”. لا يملك عمقًا شعبيًا، ولا موروثًا دينيًا، ولا وزنًا ديموغرافيًا، لكنه يسعى بكل الوسائل لتعويض ذلك عبر الهندسة الإعلامية والتدخلات السرية والرشاوى السياسية.
وهذا ما يفسر لماذا تستنفر الإمارات كل أدواتها حين يلوح احتمالٌ بأن يقود أحد غيرها المشهد.
المسألة ليست في الجامعة ولا في الجبير ولا حتى في السعودية، بل في الذعر البنيوي من فكرة أن تكون لأية دولة عربية – وخاصة السعودية – قدرة على جمع العرب، أو صياغة رؤيتهم من دون إذن أبوظبي.
والتحرك الإماراتي الأخير ينبغي ألا يُقرأ بوصفه حدثًا عابرًا. بل هو جزء من سلسلة طويلة من التصرفات التخريبية التي تستهدف العالم العربي من الداخل، عبر ما يمكن وصفه بـ”الفوضى المدارة”.
فكل مبادرة لبناء تكتل عربي مستقل، أو نظام إقليمي متماسك، تجد في النهاية من يُفرغها من مضمونها. والفاعل غالبًا هو نفسه: الإمارات، بسياستها التي تقوم على الإضعاف والتشويه والتحكم.
والمفارقة أن كل ذلك يجري باسم “الحكمة” و”العقلانية” و”الريادة”… بينما الحقيقة أن كل ما قدمته الإمارات للعالم العربي هو تفتيت المؤسسات، ودعم الانقلابات، وشراء الذمم، وتسويق التطبيع، وإخماد أي نهوض شعبي أو سياسي حر.
ويؤكد مراقبون أن ما جرى ويجري في كواليس الجامعة العربية ليس مسألة إدارة ولا صراع مصالح إداري، بل هو صورة مصغرة عن حرب باردة بين الرياض وأبوظبي على قيادة المنطقة.
لكن الفارق أن السعودية، رغم كل ملاحظاتها، تتحرك بهدوء وبرؤية استراتيجية، بينما تتحرك الإمارات من منطلق الذعر المرضي من فقدان السيطرة.
وإذا لم تعِ العواصم العربية هذه الحقيقة، فإنها ستستفيق قريبًا على واقع مشوّه تقوده أبوظبي بعقد نقص وأحلام زعامة جوفاء، تُدار بالمال لا بالشرعية، وبالمؤامرة لا بالمسؤولية.
