موقع إخباري يهتم بفضائح و انتهاكات دولة الامارات

قانون الإعلام الجديد في الإمارات: تقنين القمع وتوسيع قبضة الدولة

942

دخل قانون إعلامي جديد وشامل حيّز التنفيذ رسميًا نهاية الشهر الماضي، في دولة الإمارات وسط حملة دعائية سلطوية تصفه بأنه خطوة نحو “المساءلة والاحترافية” إلا أنه في جوهر الأمر يقوم على تقنين القمع وتوسيع قبضة الدولة على الحريات العامة.

إذ أن نظرة معمقة على تفاصيل القانون تكشف عن توجه مقلق نحو تقنين القمع، وتكريس القيود على حرية التعبير، واستكمال مسار طويل من السيطرة الأمنية على الفضاء العام، سواء في الإعلام التقليدي أو الرقمي.

يُفرض القانون الجديد من قبل “مجلس الإمارات للإعلام”، وهو كيان بيروقراطي مستحدث يمثل امتدادًا للسياسات الأمنية أكثر مما يعبر عن جهاز تنظيمي مستقل. وبينما تُسوق السلطات الإماراتية القانون على أنه يعزز “معايير المهنة” و”يحمي القيم الوطنية”، فإن الحقيقة تكمن في طبيعته الزجرية والعقابية.

إذ تنص بنود القانون على غرامات باهظة قد تصل إلى مليوني درهم إماراتي، بل وتصل العقوبات إلى إغلاق المؤسسات الإعلامية نهائيًا أو مؤقتًا، وإلغاء التراخيص أو حجب المحتوى.

تقنين الردع عبر الغرامات

يقسم القانون المخالفات إلى فئات تُغطي كل ما قد يُعتبر مادة حساسة في الخطاب العام: من “الإساءة إلى الرموز الوطنية”، و”تهديد الأمن الوطني”، إلى “نشر المعلومات الكاذبة” و”المساس بالتماسك الاجتماعي”.

هذه العبارات، رغم ظاهرها القانوني، تظل مبهمة وفضفاضة، وتفتح الباب واسعًا أمام التأويل السياسي والأمني الذي يستهدف تكميم أي صوت نقدي، سواء أكان من صحفيين، أو كتاب رأي، أو حتى مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي.

فعلى سبيل المثال، يُعاقب من “لا يحترم مؤسسات الدولة” أو “يمس النظام الداخلي” بغرامات تصل إلى نصف مليون درهم. بينما يُفرض على من “ينتهك الآداب العامة” أو “يروج لأيديولوجيات هدامة” غرامات قد تصل إلى 100 ألف درهم.

وهذه بنود تُركّب بعناية لتشمل كل من ينتقد السياسات، أو يتطرق لقضايا الحريات، أو يتبنى خطابًا حقوقيًا.

20 معيارًا للإخضاع الإعلامي

في موازاة العقوبات، فُرضت معايير إلزامية للمحتوى الإعلامي، صادرة عن اللائحة التنفيذية لقانون الإعلام الاتحادي رقم 55 لسنة 2023. عددها عشرون، وتشكّل ما يشبه “مدونة ضبط” أيديولوجية، تُلزم الصحفيين والمنصات الإعلامية بتبني سردية الدولة والامتناع عن أي طرح قد يُفسَّر باعتباره تهديدًا لـ”المصالح الوطنية” أو “تماسك المجتمع”.

وتبرز خطورة هذه المعايير في كونها تُفرّغ الإعلام من أي وظيفة رقابية أو تحليلية مستقلة، وتحوله إلى أداة تجميل للنظام. فمن خلال إلزام وسائل الإعلام بالامتناع عن طرح قضايا مثل الفساد، أو انتهاكات حقوق الإنسان، أو سياسات التدخل الخارجي، تفرض الدولة عمليًا رقابة مسبقة على الفضاء العام.

الرقابة المسبقة للمستقبل

الأخطر في القانون الجديد ليس فقط العقوبات المالية أو المعايير المشددة، بل منظومة “الترخيص” التي تُستخدم كوسيلة ضغط لفرض الصمت.

إذ باتت الجهات الإعلامية ملزمة بتجديد تراخيصها تحت طائلة غرامات مالية يومية، فضلًا عن عقوبات خاصة بمن “ينشر محتوى بدون ترخيص” أو “يعمل كمراسل أجنبي دون إذن”. ما يعني أن الدولة باتت تتحكم حتى في من يحق له العمل صحفيًا، أو إنتاج المحتوى، أو الحديث باسم الجمهور.

وهذا التوجه يعكس هاجسًا أمنيًا مزمنًا لدى السلطات الإماراتية، التي ترى في أي إنتاج إعلامي لا يخضع للرقابة الرسمية تهديدًا مباشرًا لنظام الحكم، ما يجعل العمل الإعلامي الحر في الإمارات في حكم المستحيل.

ورغم أن القانون الجديد لا يُبرز العقوبات السجنية، فإن استبدال السجن بالغرامات ليس تطورًا نحو الليبرالية كما قد يبدو، بل هو وسيلة بديلة للردع والعقاب.

فالغرامات التي تصل إلى مليون أو مليوني درهم تعني عمليًا إفلاس المؤسسات المستهدفة وإجبارها على الإغلاق. ومع استمرار صلاحيات الأجهزة الأمنية في الحجز والملاحقة، تظل حرية التعبير في الإمارات خاضعة لعقاب متعدد الأوجه: مالي، إداري، وأمني.

السيطرة الرقمية: الحضور العلني مهدد أيضًا

للمرة الأولى، تمتد قبضة القانون لتشمل كل الفاعلين في الفضاء الرقمي: ناشطون، مدوّنون، مؤثرون، وحتى حسابات إعلامية مستقلة. فـ”نشر معلومات كاذبة” على وسائل التواصل يُعاقب بغرامة تبدأ من 5 آلاف درهم، وتُضاعف مع التكرار.

كما يُفرض على كل من ينظم فعالية ثقافية أو إعلامية الحصول على ترخيص مسبق، وإلا واجه غرامة قد تصل إلى 40 ألف درهم. بهذا الشكل، لا تقتصر القيود على المؤسسات الإعلامية الرسمية، بل تمتد لتشمل أي صوت فردي يسعى لممارسة التعبير الحر.

مناخ الخوف بدلًا من الثقة

في نهاية المطاف، لا يهدف القانون إلى تحسين بيئة الإعلام أو تنظيمها، بل يسعى لتأصيل مناخ الخوف وإعادة هندسة السلوك الصحفي على قاعدة الولاء والامتثال.

فبدلًا من تشجيع التعددية والانفتاح، يُستخدم القانون لإخضاع الإعلاميين وتشويه سمعة أي خطاب نقدي باعتباره تهديدًا للأمن القومي أو مساسًا بالقيم المجتمعية.

وتتعارض هذه السياسات بوضوح مع التزامات الإمارات الدولية، خاصة تلك المتعلقة بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والذي يضمن الحق في حرية التعبير، وتداول المعلومات، والنقد السلمي للسلطات. كما تتناقض هذه الإجراءات مع الصورة التي تحاول أبوظبي تصديرها للعالم باعتبارها “واحة الاستقرار والانفتاح”.

وبالإجمال فإن قانون الإعلام الجديد في الإمارات ليس مجرد تشريع تنظيمي، بل هو إعلان صريح عن مرحلة جديدة من السيطرة المطلقة على المجال الإعلامي. فمن خلال لغة قانونية محمّلة بالتجريم والردع، تسعى الدولة إلى تكبيل كل أشكال التعبير، وفرض خطاب أحادي يكرّس سلطة الدولة ويقمع المجتمع المدني.

في ظل هذا القانون، لن يكون هناك إعلام مستقل، ولا فضاء عام آمن، ولا نقد مشروع. بل مجرد رواية رسمية واحدة، يرددها الجميع، أو يدفعون الثمن الباهظ لصمتهم عنها.