يتقلد خلدون المبارك سلسلة من المناصب الرفيعة داخل الإمارات وخارجها كرس بها من نفسه ذراعا للفساد وإبرام الصفقات المالية المشبوهة للنظام الإماراتي على مدار سنوات.
ومنذ استحواذ حكام الإمارات على نادي مانشستر سيتي الإنجليزي عام 2008 لاستخدامه في عملية التبييض الرياضي، وقع اختيارهم على خلدون المبارك، النجم الصاعد في هرم السلطة الإماراتي آنذاك، ليضيف مهام إدارة النادي الإنجليزي العريق إلى حقيبته المتزايدة من المسؤوليات والمهام.
وشملت مهام المبارك رئاسة جهاز الشؤون التنفيذية التابعة لحكومة أبو ظبي، وعضوية المجلس التنفيذي للإمارة الذي يرأسه ولي العهد محمد بن زايد نفسه، ورئاسة صندوق “مبادلة” السيادي للتنمية الذي يدير محفظة مالية تُقدَّر بعشرات المليارات من الدولارات.
كما شغل عضوية مجلس أبو ظبي للتطوير الاقتصادي، ورئاسة مجلس إدارة كلٍّ من هيئة المنطقة الإعلامية في أبو ظبي، وشركة أبو ظبي لرياضة سباق السيارات، ناهيك برئاسة مجلس إدارة مركز إمبريال كوليدج لعلاج السكري في أبو ظبي.
لم تتوقف مسيرة المبارك عند هذا الحد، فخلال السنوات التالية، أضاف التكنوقراط الشاب العديد من المهام الوظيفية الجديدة إلى حقيبته المهنية، على رأسها عضوية مجلس أمناء جامعة نيويورك.
وتولى الإشراف على تنفيذ وتأهيل حرم الجامعة المرموقة في أبو ظبي، ورئاسة مؤسسة الإمارات للطاقة النووية، الهيئة رفيعة المستوى المسؤولة عن تحقيق أحلام البلاد النووية.
ولكن ما يهم حقا ليس الأسماء الوظيفية العديدة التي تكتظ بها السيرة الذاتية لخلدون المبارك إلى درجة أنه صار يُلقّب بـ “رجل كلِ شيء”، ولكنها الأدوار الحقيقية، المتنوعة والمتعددة، التي يقوم بها التكنوقراط الشاب الذي تصفه الأوساط الغربية اليوم بأنه الذراع الأيمن لولي عهد أبو ظبي وحامل مفاتيح خزائن أموال الإمارة الغنية بالنفط، والوسيط الرئيسي في العديد من صفقاتها ومشروعاتها السرية، وقبل كل ذلك، إحدى أهم الواجهات المشرقة التي ترغب أبو ظبي في إبرازها أمام العالم.
وبالنظر إلى الأعراف والتقاليد السائدة في دوائر الحكم الخليجية، يمتلك خلدون المبارك قصة صعود أقرب إلى التقليدية منها إلى المفاجأة والإثارة.
إذ ينتمي التكنوقراط الشاب إلى إحدى العائلات البارزة التي كانت مقربة دائمة من طبقات السلطة في أبو ظبي، بداية من جده الأكبر “عبد العزيز حمد المبارك” الذي كان مستشارا للشيخ “زايد بن خليفة آل نهيان”، المعروف أيضا باسم “زايد الكبير”، ويُعرف بدوره الكبير في تأسيس النظام التعليمي الإماراتي بسبب مشاركته في تأسيس أول مدرسة في إمارة دبي، ومرورا بجده المباشر، “أحمد بن عبد العزيز حمد المبارك” القاضي السابق ورئيس دائرة الشريعة في إمارة أبو ظبي، وانتهاء بوالده “خليفة بن أحمد المبارك”، الدبلوماسي البارز وسفير الإمارات السابق لدى السودان وسوريا وفرنسا.
ومع ذلك، فإن حياة “خلدون المبارك” المبكرة لم تخلُ من المنعطفات الدرامية والمؤثرة، لعل أبرزها هو واقعة اغتيال والده أثناء عمله سفيرا لأبو ظبي لدى باريس على يد جماعة أبو نضال الفلسطينية عام 1984 بينما كان لا يزال في السادسة من عمره.
ومنذ ذلك الحين، اهتمت السلطات الإماراتية برفاهية وتعليم عائلته، حيث أُلحِق خلدون الصغير بمدرسة الجالية الأميركية في أبو ظبي حيث تخرج فيها عام 1993، وسافر مباشرة إلى الولايات المتحدة في منحة دراسية للحصول على شهادة البكالوريوس في الاقتصاد والتمويل من جامعة تافتس في بوسطن بولاية ماساتشوستس، قبل أن يعود مجددا إلى الإمارات بعد إنهاء دراسته.
وكامتداد للتقاليد التراثية لتمرير السلطة وتوارُث المناصب عبر العائلات في ممالك الخليج، غالبا ما يلجأ الجيل الجديد من القادة إلى الاستعانة بخدمات أبناء مستشاري آبائهم واتخاذهم مستشارين لأنفسهم.
وكان ذلك يعني أن خلدون المبارك يضمن لنفسه على الأقل منصبا تقليديا رفيعا في إحدى الهيئات الحكومية المرموقة، لكن فيما يبدو، فإن طموحه كان أكبر من ذلك بكثير، فبعد سنوات قليلة قضاها في منصب مدير المبيعات في شركة بترول أبو ظبي الوطنية “أدنوك”، وفي مناصب وسيطة متعددة في مجموعة “أوفست الإمارات”، حدثت أول قفزة كبيرة في حياة المبارك المهنية مع توليه منصب نائب الرئيس التنفيذي لشركة دولفين للطاقة، كمكافأة له على الدور البارز الذي لعبه في التوصل إلى اتفاق لتصدير الغاز القطري إلى الإمارات.
ومنذ ذلك الحين، من الواضح أن خلدون المبارك نجح في لفت انتباه ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد والأخذ بلُبِّه، إلى الدرجة التي دفعت ابن زايد في عام 2002 لتعيينه في منصب الرئيس التنفيذي والعضو المنتدب لشركة الاستثمار الحكومية المملوكة للدولة، مبادلة للتنمية، التي كانت تدير في ذلك الحين محفظة استثمارية بقيمة 10 مليارات دولار، يقع في القلب منها شركة الإمارات العالمية للألمنيوم في مدينة الملك عبد الله الاقتصادية، وهي إحدى أكبر شركات الألومنيوم في العالم، بقيمة سوقية قُدِّرت بأكثر من 5 مليارات دولار.
حتى ذلك الحين، كانت أبو ظبي الغنية بالنفط، وعلى العكس من جارتها الأكثر شهرة دبي، متحفظة للغاية في نشر أموالها وتنويع محافظها الاستثمارية على الصعيد العالمي، وكانت تخطو خطواتها الأولى للتوِّ نحو الخروج من الظل.
وفيما يبدو، فإن صندوق مبادلة الجديد بقيادة خلدون المبارك كان يتهيأ للعب دور رأس الحربة لاستثمارات الإمارة الإستراتيجية، حيث بدأ الصندوق على الفور رحلة لقنص الأسهم وتوزيع الاستثمارات على عشرات الشركات الغربية المرموقة، مثل عملاق التكنولوجيا الأميركي جنرال إلكتريك، ومجموعة كارلايل المالية، وشركات قطب التعدين البرازيلي إيك باتيستا، الذي انهارت إمبراطوريته المالية لاحقا بشكل درامي وخسر 99% من ثروته قبل أن ينتهي به المطاف إلى السجن.
وللمفارقة، كان مبادلة أحد المستفيدين القلائل من الانهيار المفاجئ لإمبراطورية باتيستا، حيث نجح الصندوق في الاستحواذ على عدد من الأصول الرخيصة التي كانت مملوكة لقطب الأعمال البرازيلي بما في ذلك فندق “هوتيل غلوريا” في ريو دي جانيرو.
إلى جانب حصص في 4 شركات كبرى متخصصة في التعدين وإنتاج النفط والفحم، وفي خلال سنوات قليلة مُقبِلة، كان الصندوق يمتلك بالفعل استثمارات كبرى في قطاعات الطيران والزراعة والرعاية الصحية والألمنيوم وإنتاج النفط والغاز وتنقية المياه ورقائق الحاسوب.
وهو ما أغرى السلطات الإماراتية لتوسعة المحفظة الاستثمارية للصندوق ومنحه أدوارا أكبر في رؤية البلاد الاقتصادية، عبر دمج شركة مبادلة للتنمية مع شركة الاستثمارات البترولية الدولية “إيبيك” (IPIC) تحت مظلة شركة قابضة واحدة هي مبادلة للاستثمار، على أن يتولى خلدون المبارك رئاسة الشركة القابضة الجديدة.
تسبّبت هذه الخطوة في رفع حجم المحفظة المالية لمبادلة إلى أكثر من 125 مليار دولار، ولكنها في المقابل أورثت خلدون المبارك مشكلات “إيبك” الاقتصادية والسياسية، وعلى رأسها تورط شركة “آبار” التابعة لها في فضيحة الاختلاس الشهيرة لصندوق تنمية الثروة الماليزي (1MDB).
ورغم ذلك فإن خلدون المبارك كان على القدر المتوقع من الجدارة الفنية كما أثبت في أكثر من مناسبة، حيث نجح صندوق مبادلة خلال العام التالي للدمج (عام 2018) في تحقيق إجمالي دخل بلغ 12.5 مليار درهم (3.4 مليار دولار)، بزيادة بلغت نسبتها 21% خلال عام واحد، وذلك على خلفية قيام الصندوق ببيع بعض أصوله الأكثر نضجا من أجل توفير الأموال بهدف استكشاف قطاعات استثمارية جديدة.
بفضل العديد من الاستثمارات الناجحة للصندوق، وقيام السلطات في أبو ظبي بحقن المزيد من الأموال بشكل متتابع في مبادلة، تُقدَّر حجم المحفظة المالية التي يديرها صندوق خلدون المبارك اليوم بأكثر من 230 مليار دولار، وهو رصيد ضخم يضع مبادلة في المرتبة الثانية في قائمة صناديق الاستثمار السيادية في الإمارات، خلف جهاز أبو ظبي للاستثمار، أكبر صندوق سيادي عربي وثالث أكبر صندوق سيادي في العالم، والذي يُعتقد أنه يملك أصولا تقترب قيمتها من 600 مليار دولار.
بالتزامن مع زيادة نفوذه المالي، كان خلدون المبارك يكتسب بشكل تدريجي المزيد من النفوذ والحظوة داخل البلاط السياسي، بفضل شغله لعضوية المجلس التنفيذي لإمارة أبو ظبي الذي يرأسه محمد بن زايد نفسه، فضلا عن رئاسته لهيئة الشؤون التنفيذية للإمارة، وهو أهم جهاز استشاري في البلاد.
وتكمن مهمة المبارك في تقديم الاستشارات والدراسات حول الشؤون الحكومية والاقتصادية والاستثمارية وحتى القضايا الإعلامية والأمنية لمحمد بن زايد نفسه، بما يجعل خلدون المبارك فعليا هو الرجل الثاني في الجهاز التنفيذي للإمارة خلف ولي عهد أبو ظبي، مستحقا عن جدارة وصف “رئيس الوزراء غير الرسمي لدولة الإمارات”، وهو الوصف الذي يُطلَق عليه بكثافة في دوائر الأعمال والإعلام في الغرب.
ومنذ تأسيس صندوق الاستثمارات السيادي مبادلة في عام 2002، كان ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد يأمل أن يعمل الصندوق -بالإضافة إلى عمله الرسمي كرافد للتنويع الاقتصادي في الإمارة- كذراع غير رسمي لتطوير وتنويع القدرات التكنولوجية الإماراتية، وإبرام عقود شراكة غير تقليدية مع الفاعلين الرئيسيين في صناعة التكنولوجيا، وهو ما ظهر بشكل واضح في محفظة الاستثمارات المبكرة للصندوق التي ركّزت بشكل ملحوظ على عمليات شراء الأسهم والاستحواذات في شركات التقنية الفائقة، دون غيرها من الشركات في سائر القطاعات.
كان هذا التركيز واضحا بشكل خاص منذ عام 2005، حين قامت “مبادلة” بتوقيع عقد لشراء حصة 5% من شركة فيراري الإيطالية، المنتج الشهير للسيارات الرياضية فائقة السرعة التي تحمل الاسم ذاته، ليصبح الصندوق الإماراتي بذلك أول شريك في المجموعة الإيطالية من غير المؤسسات المالية، وفي وقت لاحق، قام “مبادلة” بشراء حصة 8.1% من أسهم شركة “إيه إم دي” (AMD) الشهيرة المُنتِجة لأشباه الموصلات ووحدات المعالجة المركزية للحواسيب (CPU).
وهي الصفقة التي مكّنت الصندوق الذي يرأسه المبارك لاحقا من تأسيس شركة “جلوبال فاوندريز”، التي أصبحت خلال فترة قصيرة إحدى أهم الشركات المنتجة لأشباه الموصلات في العالم، مع محفظة ضخمة من العملاء الممتدين من الولايات المتحدة إلى الصين.
ولكن مع اندلاع ثورات الربيع العربي في عام 2011، والهوس الأمني الذي أصاب حكام الإمارات منذ ذلك الحين، شرع محمد بن زايد في تحويل جزء كبير من تركيز مبادلة ومواردها نحو حصد وتنمية التقنيات الأمنية والعسكرية على وجه التحديد.
وذلك من خلال تعزيز دور مجموعة من الشركات الأمنية والعسكرية المملوكة للصندوق، مثل شركة “أبو ظبي لتقنيات الطائرات” (ADAT) وشركة “إس – أر تيكنيكس” (SR techniques)، وحتى شركة الاستثمارات التكنولوجية المتقدمة “ATIC”، إحدى أهم شركات مبادلة التي كانت مسؤولة بشكل خاص عن الشراكات الكبرى مع عمالقة التكنولوجيا.
خلال فترة قصيرة، نجحت الشركات الدفاعية التابعة لـ “مبادلة” في إبرام عقود شراكة فاعلة مع العديد من أباطرة الدفاع الغربيين، بما يشمل شركتَيْ “جنرال إلكتريك” و”رايثون” الأميركيتيْن، ومجموعة “ثالس” الفرنسية، وشركة “بياجيو إيروسبيس” (Piaggio Aerospace) الإيطالية، ومجموعة “أسترْيم” (Astrium) الأوروبية المتخصصة في الصناعات الجوية، وغيرها.
حتى إن نشاط الصندوق السيادي وصل إلى القطاعات الدفاعية غير التقليدية مثل الأقمار الصناعية العسكرية ومجال أمن المعلومات والفضاءات السيبرانية، بعدما نجح “مبادلة” في الاستحواذ على شركة “دامبالا” (Damballa) الأميركية الناشئة المتخصصة في عمليات مكافحة القرصنة، وهي شركة كان يرأسها “كينيث مينهان”، الرئيس السابق لوكالة الأمن القومي الأميركية (NSA).
في وقت لاحق، قام “مبادلة” أيضا بتمويل إنشاء القمر الصناعي “ياه سات”، بالشراكة مع شركتَيْ “أستريوم” و”ثالس أرينا” الأوربيتيْن، ورغم أن “ياه سات” هو قمر صناعي تجاري في المقام الأول، فإنه يُستَخدم من قِبل الحكومة الإماراتية لأغراض أمنية وعسكرية بموجب عقد موقّع بين الشركة وبين القوات المسلحة الإماراتية يقوم بموجبه “ياه سات” بتوفير خدمة الاتصالات الآمنة للأغراض للجيش الإماراتي لمدة 15 عاما.
كان هذا التحول الكبير في اهتمامات وأولويات مبادلة يعني بالتبعية أن خلدون المبارك قد بدأ يلعب أيضا دور الوسيط الرئيسي بين أبو ظبي وبين قطاعات وشركات الدفاع في الدول الغربية، وأن توقيعه سوف يصبح بوابة عبور هذه الشركات العملاقة إلى كعكة العقود الأمنية المربحة في الإمارة الغنية بالنفط، مهمة أدّاها التكنوقراط الشاب ببراعة على ما يبدو.
وأكسب ذلك خلدون المبارك المزيد من الثقة والحظوة لدى محمد بن زايد، الذي شرع منذ عام 2014 في إجراء عملية إعادة هيكلة واسعة لقطاع المشتريات الدفاعية في البلاد من أجل حصول المبارك على المزيد من النفوذ في هذا المجال.
كانت عملية إعادة الهيكلة هذه تهدف بشكل رئيسي إلى تجاوز القيود التي تضعها الولايات المتحدة على قدرة الشركات الأميركية على نقل التكنولوجيا الدفاعية إلى بلدان الشرق الأوسط، وذلك من خلال تنويع محفظة الشراكات الدفاعية بعيدا عن هيمنة الشركات الأميركية، وفيما يبدو، فإن العلاقات التي طوّرها رجال خلدون المبارك في مبادلة على مدار أكثر من عقد من الزمان كانت حيوية لتحقيق هذا الهدف.
وتم ذلك إلى الدرجة التي أقنعت محمد بن زايد بدمج أكثر من 20 شركة إماراتية تعمل في مجال المشتريات الدفاعية، وتخضع لإشراف 3 صناديق سيادية مختلفة، تحت مظلة شركة واحدة هي شركة الإمارات للصناعات الدفاعية (EDIC)، ووضع الشركة تحت قيادة “حميد عبد الله الشمري”، العقيد السابق في سلاح الجو الإماراتي، نائب الرئيس التنفيذي لصندوق مبادلة، والمساعد الأول لخلدون المبارك نفسه.
بخلاف ذلك، كانت الحصة الأكبر من الشركة الجديدة (60%) مملوكة رسميا لمبادلة، وهو ما جعل خلدون المبارك صاحب الكلمة الأولى في العقود الدفاعية في البلاد بعد محمد بن زايد نفسه.
ونتيجة لذلك، وعلى مدار السنوات التالية، حرص المبارك والشمري على استثمار هذه الصلاحيات الجديدة من أجل تحقيق رؤية ابن زايد في تنويع محفظة الشركات الدفاعية لتجنُّب التعرض للشروط الأميركية المزعجة، خاصة اتفاقات المستخدم النهائي التي تمنع نقل المعدات الأميركية إلى أي طرف ثالث.
وذلك عبر الاستثمار في العديد من شركات الدفاع غير الغربية، وعلى رأسها شركة “دنل” (Denel) ذائعة الصيت في جنوب أفريقيا، وشركة “شنغدو” (Chengdu) الصينية المنتجة للطائرات بدون طيار من طراز “وينغ لونغ” التي يستخدمها الجيش الإماراتي اليوم بكثافة في جميع مسارح الصراع الإقليمية من اليمن إلى ليبيا، وحتى شركة “Russian Helicopters” التابعة لعملاق الأسلحة الروسي “روستك” (Rostec)، والتي قام الصندوق الإماراتي بشراء حصة أقلية فيها في عام 2017.
وفيما يبدو، فإن النجاح الذي حقّقته استراتيجية الإمارات في تركيز العقود الدفاعية في يد جهة واحدة قد أغرى ابن زايد بتركيز جميع الأنشطة الدفاعية في تكتل جديد أكثر ضخامة أُعلِن عنه نهاية عام 2019 تحت اسم “إيدج” (EDGE)، ووضعه تحت قيادة “فيصل البناي”، مؤسس شركة الاستخبارات الإلكترونية “دارك ماتر” المقرب من محمد بن زايد، على أن تضم “إيدج” جميع الشركات الدفاعية الإماراتية بما في ذلك الشركات التي لم تُضَمَّ تحت لواء “إيدك” في عام 2014.
وكما يظهر هيكل الشركة الجديدة، من الواضح أن بن زايد قرر أخيرا تحرير مبادلة من ملف العقود الدفاعية ووضعه تحت إشرافه الشخصي بشكل مباشر، من أجل إعطاء المزيد من الوقت والحرية لمبادلة، ولخلدون المبارك نفسه لأداء المهمة الأكثر حيوية للشاب الطموح، وهي تحسين صورة أبو ظبي القاتمة في الغرب، وتقديم وجه أكثر إشراقا للإمارة في العالم، وفي بريطانيا وأوروبا على وجه التحديد.
في هذه الأثناء تورط خلدون المبارك باستغلال نفوذه للتأثير على قرارات حكومة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ديفيد كاميرون، والضغط عليها من أجل محاصرة جماعة الإخوان المسلمين التي كانت حكومة أبو ظبي تعتقد أنها تستفيد من مناخ الحرية في بريطانيا، إلى درجة أن المبارك حذّر المملكة المتحدة من أن بلاده سوف تُجمِّد عقود أسلحة بمليارات الدولارات وتُعلِّق التعاون الاستخباراتي بين البلدين ما لم يقم كاميرون باستهداف الإخوان.
لم تقف الأمور عند هذا الحد، حيث حاول خلدون المبارك الضغط على كاميرون للتدخل في تغطيات هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” فيما يتعلق بالإخوان المسلمين، في مطلب وُصف بأنه غير مسبوق، ومن أجل إقناع الحكومة البريطانية بالتجاوب مع التحذيرات البريطانية، اقترح سيمون بيرس على حكام أبو ظبي إغراء لندن عن طريق إبرام عقود أسلحة مربحة، ومنح شركة بريتش بتروليوم (BP) امتيازات للتنقيب عن النفط في أبو ظبي، وتعزيز الاستثمارات الإماراتية في بريطانيا.
وقبل عامين أبرز تحقيق بريطاني الثراء المشبوه لخلدون المبارك أحد أقرب المستشارين لولي عهد أبوظبي الحاكم الفعلي لدولة الإمارات محمد بن زايد.
وقالت صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية إن المبارك يمكن اعتباره مسؤولا عن خزائن الإمارات أو جزءا كبيرا منها، حيث وصفته بأقوى رجال أبوظبي.
وسطع اسم المبارك عام 2008، بالاستحواذ على نادي مانشستر سيتي الإنجليزي مقابل 150 مليون جنيه إسترليني. وبعد ذلك بوقتٍ قصير، بدأت حالةٌ من التوتر بين كبار الشخصيات في إمارة أبوظبي.
إذ كان سليمان الفهيم رجل الأعمال الإماراتي البارز الذي توسط في صفقة البيع، يتباهى بأموال الشيخ منصور الطائلة بينما كان يعيش بنفسه حياةً منغمسة في الملذات، حيث كان يقود سيارات رياضية فارهة ويقيم صداقاتٍ مع شخصيات شهيرة، من بينها باميلا أندرسون التي اشتهرت بدورها في مسلسل Baywatch.
ومع تزايد عناوين الصحف التي تتحدث عن ذلك الوضع، بدأ تهميش فهيم بينما سعت أبوظبي إلى تغيير هذه السردية، كما تقول الصحيفة البريطانية.
آنذاك، استعين بفريقٍ جديد للسيطرة على الأمور بقيادة خلدون المبارك، الذي كان نجماً صاعداً آنذاك في مركز هيكل القوة في الإمارة والذي أضاف رئاسة نادي كرة قدم إلى مجموعة مسؤولياته المتزايدة.
وفي العقد الذي تلا ذلك، تحول مانشستر سيتي إلى نادٍ لامع متوَّج ببطولاتٍ في صدارة الأندية المملوكة لشركة City Football Group التي أصبحت أكبر المجموعات الرياضية قيمةً في العالم.
وفي الأسبوع الماضي، باعت أبوظبي حصة بقيمة 500 مليون دولار من الشركة -التي تملك نادي مانشستر سيتي وحصصاً في أندية أخرى من الولايات المتحدة إلى أستراليا- لشركة Silver Lake الخاصة في صفقةٍ قدَّرت قيمة City Football Group بمبلغ 4.8 مليار دولار.
ولم يكن إشراف المبارك على الصفقة مفاجأةً لأولئك الذين يتابعون النفوذ المتزايد لأبوظبي -أغنى إمارة بين الإمارات السبع في البلاد- في عالم الرياضة والأعمال والسياسة.
تقول فاينانشيال تايمز: صحيحٌ أنَّ المبارك كان في الثالثة والثلاثين من عمره فقط حين أبرِمَت صفقة بيع مانشستر سيتي الأولى، لكنه كان بالفعل أحد أقوى الشخصيات في الإمارة، حيث كان يدير محافظ بمليارات الدولارات، وكان رجلاً لا بد أن يلتقي به مهندسو الصفقات الذين كانوا يتوافدون إلى أبوظبي بحثاً عن الاستثمار.
ويعد المبارك أحد أقرب المستشارين لمحمد بن زايد وتشمل أدواره المتعددة إدارة “صندوق مبادلة” -وهو صندوق استثمار سيادي بقيمة 230 مليار دولار- وتولِّي رئاسة برنامج أبوظبي للطاقة النووية. فيما اضطلع بدور أساسي كذلك في مشروع تطوير جزيرة ياس الترفيهية، التي استضافت يوم الأحد الماضي 1 ديسمبر آخر سباقات الجائزة الكبرى لفورمولا 1 لهذا الموسم، بتكلفة 40 مليار دولار.
وكذلك فالنهج الدقيق التحليلي الذي يتسم به المبارك يجعله واحداً من المفاوضين المميزين، وفقاً لأولئك الذين تفاوضوا معه.
وبالرغم من مسؤولياته الكثيرة، يزور المبارك -الذي تخرَّج في جامعة تافتس في ولاية بوسطن في الولايات المتحدة الأمريكية- نادي مانشستر سيتي بانتظام، في حين أنَّ الشيخ منصور لم يزُر النادي سوى مرة واحدة.
وسرعان ما أصبح مانشستر سيتي مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالإمارة. وفي وقت الصفقة، كانت أبوظبي تستعد لإطلاق نفسها على المسرح العالمي بعددٍ من المشروعات الضخمة التي تقدر بمليارات الدولارات، لكنها كانت حريصةً كذلك على إدارة صورتها وتجنُّب دخولها في مقارنات مع إمارة دبي الأكثر صخباً وطيشاً.
وتعزَّز ملف المبارك الشخصي بمشاركته في صفقةٍ لاستيراد الغاز الطبيعي من قطر للمساعدة في تغذية طفرة النمو التي شهدتها البلاد في العقد الأول من القرن الحالي، ومنع حدوث عجز في الطاقة في دولة الإمارات.
إذ كُلِّف صندوق مبادلة آنذاك بقيادة جزء كبير من التطوير، مع تفويضٍ لتحويل الثروة النفطية إلى استثمارات دولية، وتنمية الصناعات المحلية في الوقت نفسه لتوليد عائداتٍ غير نفطية وخلق فرص عمل للإماراتيين.
ويعد المبارك كذلك ممثلاً رئيسياً لمحمد بن زايد في سنغافورة والصين، اللتين تربطهما علاقات متزايدة مع أبو ظبي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ خليفة، والد خلدون المبارك الذي اغتيل في باريس عندما كان خلدون طفلاً، كان دبلوماسياً في السودان وسوريا وفرنسا. فيما كان جده كبير قضاة أبوظبي.
وكذلك يضطلع اثنان من إخوته بأدوارٍ بارزة أيضاً: إذ يشرف أخوه محمد على قطاعي السياحة والثقافة في أبوظبي، بينما تدير شقيقته رزان هيئة البيئة في الإمارة.
غير أنَّ خلدون واجه بعض العقبات في مسيرته المهنية. إذ احتاجت شركة الدار العقارية، وهي شركة تطوير عقاري كبرى مملوكة جزئياً لصندوق مبادلة، إلى كفالة إنقاذ مالية بقيمة 10 مليارات دولار في أعقاب الأزمة المالية العالمية. فيما واجهت استثماراتٌ أخرى بعض التعثُّرات. بالإضافة إلى أنَّ ملكية صندوق مبادلة لشركة Global Foundries المتخصصة في صناعة أشباه الموصلات جعلت أبوظبي عرضةً لخسائر كبيرة، وفقاً لما ذكره بعض المصرفيين.
وكذلك تعرَّضت صورة أبوظبي للتشويه بسبب مشاركتها في الحرب المدمرة في اليمن، ودورها في الصراع في ليبيا، وحكومتها ذات الاستبداد المتزايد التي تتسم بعدم التسامح على الإطلاق مع المعارضة.
غير أنَّ المبارك تجنَّب الجدل، ونجح في قيادة صندوق مبادلة نحو تحقيق استفادةٍ في أوقات الأزمات. ففي أثناء فضيحة صندوق 1MDB، اتهم الادعاء الأمريكي بعض المسؤولين التنفيذيين في أبوظبي بتلقي رشاوى في إطار مؤامرة لاختلاس مليارات الدولارات من الصندوق السيادي الماليزي. لذا دُمجت شركة آبار، وشركتها الأم «آيبيك» -الشركتان الإماراتيتان المتورطتان في عملية الاحتيال اللتان كانتا تحت إشراف الشيخ منصور- في صندوق مبادلة.
وقال أحد المصرفيين في هذا الصدد: “صندوق مبادلة لديه عمليات أفضل لكنَّ أصوله أقل قيمةً. لذا يعد الدمج قراراً جيداً من أبوظبي”. ويعد هذا الدمج للعديد من صناديق الاستثمار الحكومية تحت إشراف المبارك عنصراً في عملية إعادة الهيكلة الأوسع لتنظيم إدارة الشبكة المترامية الأطراف من المؤسسات المملوكة للدولة داخل أبوظبي.
وتجدر الإشارة إلى أن صندوق مبادلة يُمثِّل في الوقت الحالي قاعدة دعم رئيسية في أبوظبي، إلى جانب شركة أدنوك الحكومية للنفط، وجهاز أبوظبي للاستثمار، الذي يعد الصندوق السيادي الرئيسي، وشركة قابضة جديدة تضم أصولاً أخرى مثل المطار. إذ قال المصرفي: “صندوق مبادلة يمثِّل إحدى ركائز الاقتصاد. ومن بعد الأسرة الحاكمة، يعد (المبارك) هو الأول بين نظرائه”.
The Abu Dhabi man who became Mr Man City https://t.co/PS2g3LBgV9
— Financial Times (@FT) December 3, 2019