يجمع مراقبون دوليون على أن تفشي الفساد وضعف البيئة الاستثمارية يسبب انهيار كبرى المؤسسات الاقتصادية في الإمارات وأخرها شركة “أرابتك” الرائدة في مجالات العقارات.
وبعد مرور نحو 45 عاما على تأسيسها لتصبح واحدة من أضخم شركات الإنشاءات والمقاولات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لم تستطع شركة “أرابتك” الصمود أكثر على قمة جبل نجاحاتها الكثيرة المتراكمة، التي بلغت ذروتها بالمشاركة في بناء “برج خليفة”.
يوم تدشين البرج الذي اقترن اسمه بصعود نجم إمارة دبي الصاروخي، قبل أكثر من عقد من الزمن، كانت “أرابتك” تعيش عصرا ذهبيا جعلها محط أنظار شريحة واسعة من رجال الأعمال والمستثمرين العرب والأجانب على حد سواء.
لكن هذا العصر الذهبي لم يدم طويلا، فقد شهد صيف العام 2014 انعطافة محيرة في مسيرة الشركة الحافلة بتحقيق كل عوامل الشهرة والمكاسب المادية والمعنوية، حيث فقد سهم الشركة خلال أسابيع معدودة فقط 70% من قيمته من دون إبداء أو وجود أسباب اقتصادية أو استثمارية منطقية تبرر حدوث مثل هذا الهبوط الحاد والقاسي وربما غير المسبوق.
ذلك السقوط “الفاقع والمبهم للغاية” جعل الشركة تفقد 70% من قيمتها السوقية الإجمالية، وهو ما كان يعادل في تلك الفترة حوالي 30 مليار دولار دفعة واحدة، بحسب تقرير سابق لوكالة رويترز.
يقول محللون وخبراء اقتصاديون إن “مثل هذا الأمر (هبوط القيمة السوقية بهذا الشكل) لا يمكن أن يحدث إلا في حالات نادرة لم يبدُ أن أيا من عناصرها كان متوفرا في ملف أرابتك، ومنها على سبيل المثال حصول اختلاسات وسرقات ضخمة، أو انهيار مشروع كبير وإلغاء صفقات هائلة، أو تزوير بيانات وأرقام متعلقة بإيرادات وأرباح الشركة ومشاريعها، وما إلى هنالك من تفاصيل وعوامل توصف في عالم المال والأعمال بالجوهرية والمؤثرة وحتى الحساسة”.
ووفق تقرير رويترز، فإن مشاكل أرابتك التي وقعت منتصف العام 2014 لم تؤثر على الأسهم المدرجة في بورصة دبي فحسب، بل أثارت العديد من علامات الاستفهام حول القواعد المنظمة لعمل الشركات وقواعد الإفصاح والشفافية في دولة الامارات ككل.
بيد أن “القطبة المخفية” بحسب ما خلص إليه التقرير نفسه في تدهور أسهم أرابتك وانقلاب أوضاعها رأسا على عقب، كان توتر العلاقات بين الرئيس التنفيذي السابق للشركة حسن اسميك، وإحدى الشركات الاستثمارية الكبرى التابعة للدولة.
وكانت شركة آبار للاستثمار التابعة لشركة الاستثمارات البترولية الدولية (آيبيك) (IPIC) المملوكة بدورها لحكومة أبو ظبي، قد رفعت حصتها في أرابتك عام 2012، وبدأت منذ ذلك الحين محاولات حثيثة لتعزيز نفوذها داخل الشركة لأهداف بدت استثمارية من حيث الشكل، ولكنها كانت شخصية من حيث المضمون.
وفي هذا الإطار، تقول وكالة رويترز إن هذا الأمر يكشف المخاطر التي تواجه قطاع الأعمال في بعض الدول الخليجية والتي تتمثل في السرية بشأن حملة الأسهم من مؤسسات الدولة، وسلطة الإدارة التي تعتمد في جانب منها على العلاقات الشخصية.
ضعف البيئة الإماراتية
من ناحيته، قال جيم كرين الخبير في شؤون الخليج لدى معهد بيكر للسياسات العامة بجامعة رايس في الولايات المتحدة، “تشير ورطة أرابتك إلى نقاط ضعف هيكلية في بيئة الأعمال بالإمارات والمنطقة بشكل أعم”.
وأضاف كرين أن “الأعمال في الإمارات تتمتع بالتنافسية والحيوية لكنها مدفوعة بعلاقات شخصية غير شفافة وبالنفوذ السياسي”، وفق تقرير سابق لرويترز.
وأشار كذلك إلى أنه “متوقع من الشركات أن تلتزم بخيارات السياسات الأوسع للحكومة والأسرة الحاكمة، وهذه الأمور لا تعلن على الملأ عموما. فالكثير يحدث بعيدا عن أنظار الناس”.
وبينما كانت أرابتك تخطط لتنويع نشاطها ليمتد إلى قطاعات جديدة منها النفط والكهرباء والبنية التحتية، بدأت أسهمها تهوي في منتصف مايو/أيار 2014 مع انتشار الشائعات عن نزاع بين “آبار” وحسن اسميك.
وقد تضخمت التقارير والشائعات أكثر فأكثر في أوائل يونيو/حزيران الماضي عندما أظهرت بيانات سوق الأوراق المالية أن “آبار” بدأت بخفض حصتها في أرابتك من 21.57% إلى 18.94% خلال عدة أيام، وهو تكتيك “تدميري”، كما يصفه الخبراء الاقتصاديون.
إذ أن هذا التكتيك يهدف إلى تقويض الثقة في شركة الإنشاءات الكبيرة وإعطاء إيحاء زائف لمساهميها بأن الأمور ليست على ما يرام وأن شيئا ما قد يحصل، مما يدفع هؤلاء للقيام بعمليات بيع كبيرة وعشوائية بغية التخلص من السهم بأي ثمن.
وبذلك تبدأ قيمة أرابتك السوقية بطريقة تلقائية رحلة الهبوط المتعمد والمرهون بمزاج مستثمر يمتلك حصة وازنة، بالإضافة إلى أدوات تنفيذية وأذرع إعلامية تتولى ضخ المزيد من التقارير والشائعات تمهيدا لترسيخ صورة مقلقة بشأن كل ما يتعلق بمستقبل الشركة ومشاريعها ووضعها المالي.
وبالفعل، أصبح مستقبل أرابتك الحديث الوحيد في أوساط الشارع الاقتصادي الإماراتي خاصة والعربي عامة مع التحول العنيف في مسيرة الشركة من كيان ثابت وصاعد إلى مجرد سهم تعصف به إشاعة من هنا وتقرير مشكوك في صحته من هناك.
بالأرقام
تأسست شركة أرابتك القابضة عام 1975 وبلغ رأس مالها 1.5 مليار درهم (حوالي 408 ملايين دولار).
في عام 2005 أدرجت الشركة في بورصة دبي، وأصبحت أول شركة إنشاءات تدرج فيها.
شاركت الشركة في إنشاء مشروع “برج خليفة”.
اتفقت أرابتك عام 2014 مع مصر على خطة لبناء مليون وحدة سكنية.
استخدمت المجموعة في 2016 حوالي مليار درهم (نحو 272 مليون دولار) من احتياطاتها القانونية لتغطية بعض ديونها المتراكمة التي تخطت بنهاية العام نفسه 2.46 مليار درهم (700 مليون دولار).
سجلت المجموعة خسائر بقيمة 774 مليون درهم (210.7 ملايين دولار) بنهاية العام الماضي.
في شهر أغسطس/آب الماضي، قالت الشركة إن خسائرها المتراكمة بلغت 1.46 مليار درهم (397.5 مليون دولار) تشكل أكثر من 97% من رأسمالها.
يوم الاثنين الماضي، أعلنت الشركة إفلاسها رسميا، والتقدم بطلب إلى المحكمة بهذا الشأن.
أسباب الإفلاس
يعتقد بعض الخبراء والمحللين أن إفلاس أرابتك لم يحدث خلال العام الحالي أو العام الذي سبقه، وإنما هو نتاج عمل كيدي ممنهج استمر على مدى عدة سنوات، وليس هناك ما يبرره اقتصاديا على الإطلاق، لا سيما وأن الشركة كانت تتعاقد على مشاريع عملاقة داخليا وخارجيا، ولديها نحو نصف قرن من الخبرة التي تؤهلها للحفاظ على استمراريتها بصرف النظر عن الأوضاع المالية التي اتسمت بالصعوبة بالتزامن مع تراجع أسعار النفط خليجيا، كما أنها حققت أرباحا لأعوام متواصلة.
كثيرة هي الأطراف المتضررة من إفلاس أرابتك، ولكن أكثر المتضررين بالدرجة الأولى هم الموظفون الذين يبلغ عددهم نحو 45 ألفا، ومن بعدهم المساهمون وتحديدا “الصغار” الذين فقدوا غالبية مدخراتهم كونهم لا يملكون القدرة على الاستثمار بأكثر من سهم أو سهمين، في حين أن كبار المساهمين سيتكبدون بدورهم خسائر ثقيلة غير أنهم قادرون على الصمود نظرا لامتلاكهم استثمارات في شركات ومجالات أخرى.
على أي حال، ووفق ما يؤكد الاقتصاديون، يبقى القرار الفصل والنهائي بمدى إمكانية تعويض هؤلاء جميعا بيد المحكمة التي ستنظر بملف الإفلاس، والآليات التي ستعتمدها لجهة تصفية أصول الشركة، وكيفية التعاطي مع هذه الأصول وحجمها الحقيقي، وما إذا كانت هذه الأصول تغطي كل المستحقات المتوجبة على الشركة ومنها مستحقات نهاية خدمات الموظفين والديون المترتبة على الشركة.
ويشير محللون إلى أن هذه العملية التي ستأخذ وقتا طويلا ربما يمتد لعدة أعوام، غير مشجعة لجهة حصول كل الأطراف المتضررة على حقوقها، في وقت تتجه فيه الأنظار إلى الشركات التابعة لأرابتك والتي سيتم التعاطي معها بناء على الحصص التي تملكها في الشركة الأم.
ويقول خبراء “قد يلجأ المساهمون الآخرون في الشركات التابعة إلى شراء الأسهم التي تستحوذ عليها أرابتك مقابل الاحتفاظ بهذه الشركات بحسب توزيع الحصص”، متوقعين في الوقت نفسه أن تتأثر الشركات التابعة والمملوكة بنسب كبيرة للشركة الأم بتداعيات إفلاسها، إذ ربما يصار إلى تصنيفها كأصول ينبغي تسييلها لتعويض المتضررين الذين سيتم تقسيمهم إلى فئات.
ويتساءل هؤلاء عن إمكانية تدخل الدولة من أجل حل مشكلة المتضررين من هذه القضية التي من شأنها المساس بسمعة الإمارات الاقتصادية والتي تضررت مؤخرا بأكثر من ملف.