تجد الإمارات نفسها اليوم في مواجهة واحدة من أخطر الأزمات الدبلوماسية بفعل تمويلها مذابح السودان وما يتم ارتكابه من جرائم حرب وتجويع وانتهاكات مروعة بحق المدنيين هناك.
وقالت صحيفة The Telegraph البريطانية إن علاقات أبوظبي المتينة مع بريطانيا والولايات المتحدة تمرّ بمرحلة “اختبار حقيقي”، وسط اتهامات متصاعدة بتورطها المباشر في إذكاء الحرب الأهلية في السودان ودعم فصيل متورط في مذابح واسعة بحق المدنيين.
وذكرت الصحيفة أن هذا الاهتزاز في صورة الإمارات هو نتيجة تراكُم شواهد ووقائع تشير إلى تناقض صارخ بين الخطاب الرسمي الذي يروّج للاستقرار والحداثة، وبين ممارسات ميدانية في أفريقيا تُوصف بأنها أقرب إلى “استعمار جديد” قائم على النفوذ والموارد والتدخلات العسكرية غير المباشرة.
ثروة حاكمة.. ونفوذ بلا حدود
بحسب The Telegraph، تملك أسرة آل نهيان ثروات تتجاوز مئات المليارات، وأصولاً مالية قد تصل إلى تريليون دولار تحت إدارتها، وهو ما جعلها واحدة من أغنى العائلات الحاكمة في العالم.
ورافق هذه الثروة الهائلة نفوذ توسّع خلال عقود، ليحوّل الإمارات من اتحاد قبلي ناشئ بعد الاستقلال عام 1971 إلى محور رئيسي في تجارة الطاقة والاستثمارات والأمن الإقليمي.
لكن هذا الصعود السريع لم يكن بلا تكلفة أخلاقية أو سياسية. فالدور الذي لعبته الإمارات كحليف غربي رئيسي في مواجهة إيران، وفي موجة التطبيع مع إسرائيل، وفي استضافة أكبر عدد من السفن الحربية الأمريكية خارج الولايات المتحدة، يتعرض اليوم لهزّة عميقة بسبب “الملف السوداني” الذي بات عبئاً سياسياً يصعب تجاهله في العواصم الغربية.
وتقول الصحيفة البريطانية إن الحرب التي اندلعت في السودان في أبريل 2023، والتي راح ضحيتها مئات الآلاف وتسببت في نزوح ملايين البشر، كشفت عمق الدور الإماراتي في دعم قوات الدعم السريع، المتهمة أمريكياً بارتكاب جرائم إبادة جماعية.
ونقلت الصحيفة عن دبلوماسيين غربيين أن الأدلة المتوفرة تشير إلى تزويد أبوظبي للميليشيا بطائرات مسيّرة ومدافع وذخائر، الأمر الذي زاد من قدرتها على تنفيذ عمليات عسكرية مدمّرة، خصوصاً في مدينة الفاشر التي شهدت حصاراً طويلاً انتهى بمجازر ونهب واسع.
وأبرزت الصحيفة أن الإمارات، كما هو متوقع، نفت الاتهامات بقوة. لكن حجم الدخان المتصاعد من السودان يجعل من الصعب تجاهل وجود نار تحته.
فالغرب الذي كان يرى في الإمارات شريكاً للاستقرار، بات اليوم مضطراً لمواجهة حقيقة أن هذا الشريك قد يكون – وفق التقرير – عاملاً أساسياً في إطالة أمد أسوأ كارثة إنسانية في أفريقيا خلال العقد الأخير.
إمبراطورية “IHC”: نسخة جديدة من شركة الهند الشرقية؟
واحدة من أكثر النقاط التي ركزت عليها The Telegraph هي الدور المقلق الذي تلعبه شركة “إنترناشونال هولدينغ” (IHC)، التي تحوّلت من شركة صغيرة لتربية الأسماك إلى ثاني أكبر شركة مدرجة في الشرق الأوسط بقيمة 182 مليار جنيه إسترليني.
إذ أن نفوذ الشركة في أفريقيا تحديداً يثير الانتباه، بعد أن استحوذت على مناجم للنحاس والقصدير في الكونغو وزامبيا ومئات آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية في السودان ومصر ومشاريع بنية تحتية وموانئ استراتيجية في القارة.
وأعاد هذا التوسع، الذي يتقاطع مباشرة مع مصالح الحكم في أبوظبي، إلى الأذهان نموذج “شركة الهند الشرقية”، في تشبيه يرى أن الشركة تحولت إلى ذراع استعمارية ناعمة تسعى للهيمنة الاقتصادية والسياسية، بما يتجاوز حدود الاستثمار الطبيعي.
ويرى النقاد، وفق الصحيفة، أن هذا التمدد يقدم مثالاً واضحاً على انصهار السلطة السياسية مع رأس المال بطريقة تطمس أي خطوط فاصلة بين الدولة والشركات التابعة للعائلة الحاكمة.
وتسلّط الصحيفة الضوء على الدور المتنامي لنائب رئيس الوزراء الإماراتي منصور بن زايد، الذي بات يشكّل ركناً أساسياً في السياسة الإماراتية تجاه أفريقيا.
فعلاقاته الوثيقة مع قادة أفارقة مثيرين للجدل – مثل حميدتي وخليفة حفتر – تعزز الاتهامات بأن الإمارات تتبنى سياسة قائمة على دعم قادة ميليشيا وحكّام عسكريين مقابل تأمين نفوذ طويل المدى في مجالات الغذاء والموانئ والمعادن.
وتشير المعلومات إلى أن حميدتي زار أبوظبي أكثر من مرة قبيل اندلاع الحرب، وأن الإمارات، سواء بشكل مباشر أو عبر شركات واجهة، لعبت دوراً محورياً في تعظيم القوة العسكرية لقوات الدعم السريع.
ويخلص تقرير The Telegraph إلى أن مذابح السودان لم تعد مجرد فاجعة إنسانية، بل تحولت إلى مرآة عاكسة للتناقضات البنيوية في سياسة الإمارات الخارجية.
فالدولة التي تروّج لنفسها كقوة استقرار، وواحة حداثية في الشرق الأوسط، تجد نفسها اليوم متهمة بإشعال الحروب ودعم ميليشيات متورطة في الإبادة، وبمحاولة توسيع نفوذها عبر أدوات اقتصادية تُشبه، في نظر كثيرين، أساليب استعمارية قديمة.
