تُواصل السلطات الإماراتية فرض القيود الصارمة على أي تعبير شعبي عن التضامن مع الفلسطينيين في قطاع غزة، الذي يعيش إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخه الحديث في إطار نهج القمع وتكميم الأفواه.
فمع تصاعد المجاعة، وانهيار القطاع الصحي، وتواصل القصف والحصار، تحوّلت الإمارات — بدلًا من أن تكون منصة دعم كما يدّعي إعلامها الرسمي — إلى واحدة من أكثر الدول تشددًا في قمع المتعاطفين مع المأساة الفلسطينية.
وقد تجاوز الأمر حدّ السكوت الرسمي على جرائم الاحتلال، ليتحول إلى سياسة نشطة في ملاحقة وترهيب كل من يجرؤ على التعبير عن تضامنه، ولو بكلمة.
وتتوالى الشواهد على هذا النهج القمعي، كان أبرزها ما نشرته صحيفة Muslim Mirror الإنجليزية حول حادثة الطالبة “عائشة أحمد”، البالغة من العمر 22 عامًا، والتي طُردت من الإمارات بعد أن هتفت “فلسطين حرة” خلال حفل تخرجها في جامعة نيويورك بأبوظبي في مايو الماضي.
وفقًا للتقارير، فإن الطالبة عائشة، وهي أمريكية من أصل عربي وتدرس العلوم السياسية، وقفت في لحظة صمت خلال الحفل وصرخت بضمير حيّ “الحرية لفلسطين”، فما كان من أفراد الأمن إلا أن اقتادوها للتحقيق، واحتُجزت ليلة كاملة قبل أن تُبلّغ بقرار ترحيلها الفوري، تحت تهمة “الإخلال بالنظام العام”.
ولم يُسمح لها بإكمال تعليمها، ولم تُقدّم لها تبريرات قانونية مفصلة، سوى تلك العبارة الجوفاء التي تستخدمها الأنظمة الاستبدادية لتبرير قمعها لكل رأي لا ينسجم مع إملاءات السلطة.
الإمارات وتطبيع على حساب الضمير
ليست هذه الحادثة الأولى، ولا يُتوقع أن تكون الأخيرة في ظل السياسة الإماراتية الراهنة التي تجعل من الولاء لاتفاقيات التطبيع مع إسرائيل معيارًا للصمت الإجباري تجاه ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من إبادة يومية في غزة.
فمنذ توقيع اتفاقيات إبراهيم عام 2020، تسير أبوظبي في طريق تطبيع شامل، يتجاوز العلاقات الدبلوماسية إلى محاولة فرض سردية جديدة: “لا فلسطين، لا مقاومة، لا تضامن”.
هذا النهج امتد ليشمل ملاحقة كل من يخالفه داخل البلاد، سواء من المواطنين أو المقيمين أو الزائرين.
وتشير تقارير متكررة إلى قيام السلطات بحملات استدعاء، بل واعتقالات، بحق نشطاء ووافدين أعربوا عن تضامنهم مع غزة عبر منشورات على مواقع التواصل، أو حتى من خلال التبرع أو المشاركة في فعاليات رمزية.
ففي الوقت الذي تخرج فيه مظاهرات شعبية في لندن وباريس وواشنطن، يُمنع في أبوظبي حتى رفع علم فلسطين، أو نشر عبارة “أنقذوا غزة”.
قمع يتجاوز الداخل
حادثة عائشة أحمد فتحت نافذة جديدة على الطابع البوليسي الذي تتعامل به الإمارات مع الملف الفلسطيني.
فبحسب صحيفة Muslim Mirror، فإن منظمات حقوقية مثل منظمة العفو الدولية وصفت ما حدث بأنه انتهاك سافر لحرية التعبير، وهو الحق الذي تكفله المواثيق الدولية بما فيها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي وقعت عليه الإمارات. لكن على أرض الواقع، يتعامل النظام مع هذه الحقوق كخطر أمني، ويجرّم حتى أبسط تعبير عن الوجدان الإنساني.
وفي بيان لجامعة نيويورك – أبوظبي، أعربت الإدارة عن “قلقها الشديد” من احتجاز الطالبة، وطالبت السلطات بتوضيح عاجل، مما يشير إلى أن الحادثة أثارت حرجًا دوليًا واسعًا لأبوظبي، لا سيما وأن الجامعة نفسها تُعد جزءًا من مشروع “الواجهة الثقافية” التي تحاول الإمارات تصديرها للعالم.
شبكات التواصل… الساحة الأخيرة للحرية
في ظل غياب الحريات العامة وتكميم الأصوات في الإمارات، تحوّلت شبكات التواصل الاجتماعي إلى ساحة مقاومة بديلة. فقد امتلأت منصات “إكس” و”إنستغرام” و”تيك توك” بموجة دعم لعائشة، مستنكرين كيف أن فتاة شابة، لم تفعل أكثر من التعبير عن تضامنها مع المدنيين الذين يُقتلون جوعًا وقصفًا في غزة، تُعامل كمجرمة.
وغرّد أحد الناشطين الأتراك: “ربما لا يوجد هذا المستوى من القمع الصهيوني حتى في إسرائيل”، في إشارة إلى التناقض بين شعارات “التسامح والانفتاح” التي ترفعها الإمارات في إعلامها، وسلوكها الأمني القمعي تجاه أي تلميح لتضامن إنساني مع قضية عادلة.
سياسة تجفيف التعاطف
ربما أخطر ما في هذا النهج الإماراتي ليس فقط صمته عن الجرائم، بل سعيه لتجفيف منابع التضامن الشعبي مع الفلسطينيين، ومحاولة فرض رواية مفادها أن فلسطين أصبحت “قضية محرّمة” لا مكان لها في وجدان الشعوب العربية. وهو أمر يتماهى مع مصالح الاحتلال، الذي لطالما سعى إلى عزل غزة وفصلها عن عمقها العربي والإسلامي.
لكن هذا السلوك لا يمر بلا ثمن. فكل حادثة قمع مثل التي طالت عائشة تخلق وعيًا مضادًا، وتكشف زيف الادعاءات، وتجعل من الإمارات نفسها موضوعًا للانتقاد لا كوسيط إقليمي، بل كطرف متواطئ في تكميم صوت الضحايا.
