على الرغم من الصورة اللامعة التي تسعى الإمارات إلى تصديرها للعالم كدولة حديثة متقدمة اقتصاديًا ومنفتحة على الإصلاح، إلا أن واقعها الحقوقي يرسم لوحة مختلفة تمامًا في ظل سلطة تحكم لدولة تحولت إلى أداة قمع منهجي.
تتمثل هذه السلطة بجهاز أمن الدولة الإماراتي، الذي تأسس عام 1974، لكن في قلب هذه المفارقة، بعدما تحوّل من جهاز أمني لحماية الدولة إلى أداة رئيسية لتكميم الأفواه وقمع الحريات.
من جهاز أمني إلى ذراع قمع سياسي
عند تأسيسه، وُضع الجهاز تحت إشراف وزارة الداخلية، ليضطلع بمهام تتعلق بأمن الدولة ومكافحة التجسس وحماية كبار المسؤولين. لكن بمرور الوقت، توسعت صلاحياته تدريجيًا إلى حد وضعه تحت سلطة رئيس الدولة مباشرة، مما منحه استقلالية ونفوذًا واسعين بعيدًا عن أي رقابة فعالة.
النقلة الأهم في مسار الجهاز حدثت عام 2003 حين صدر قانون أمن الدولة، الذي منح الجهاز صلاحيات واسعة، أبرزها ما ورد في المادة 14، التي تخوله جمع المعلومات حول أي نشاط سياسي أو تنظيمي «يمسّ أمن الدولة أو نظام حكمها أو وحدتها الوطنية».
هذه الصياغة المبهمة للقانون فتحت الباب على مصراعيه لاستخدامه كسلاح ضد أي نشاط سياسي أو حقوقي أو حتى رأي ناقد.
“الإمارات 94”: نموذج للقمع الجماعي
لم تكن أحكام قانون 2003 حبرًا على ورق، بل استُخدمت سريعًا لإسكات كل صوت معارض. المثال الأكثر شهرة على ذلك هو قضية «الإمارات 94»، التي مثلت منعطفًا خطيرًا في سجل القمع الإماراتي. ففي عام 2012، اعتقلت السلطات 94 شخصية، أغلبهم أساتذة جامعات وناشطون ومحامون، بتهمة السعي لقلب نظام الحكم، وذلك بعد توقيعهم عريضة تطالب بإصلاحات ديمقراطية ومزيد من المشاركة السياسية.
تولى جهاز أمن الدولة التحقيق مع هؤلاء، وسط تقارير متكررة عن التعذيب وسوء المعاملة وحرمان المعتقلين من أبسط حقوقهم القانونية، مثل حق الاتصال بمحامين أو أسرهم.
وقد انتهت المحاكمة إلى أحكام قاسية طالت 69 شخصًا بالسجن لفترات تتراوح بين 7 و15 عامًا، في محاكمة وصفتها منظمات حقوقية دولية بأنها تفتقر إلى معايير العدالة والنزاهة.
الاختفاء القسري: الوجه المظلم للجهاز
لم يتوقف الجهاز عند الاعتقالات والمحاكمات الجماعية، بل لجأ أيضًا إلى أسلوب الاختفاء القسري لإرهاب الأصوات الناقدة. ازدادت هذه الممارسات بشكل لافت عقب موجة الربيع العربي عام 2011، حين بات أي انتقاد علني للحكومة يُقابل برد فعل عنيف.
ومن بين الحالات الصادمة، ما وقع عام 2015 حين استدعت شرطة أبوظبي ثلاث شقيقات إماراتيات على خلفية منشورات لهن عبر وسائل التواصل الاجتماعي تنتقد الحكومة.
ومنذ لحظة الاستدعاء، انقطعت أخبارهن تمامًا، ولم تتمكن أسرتهن أو المنظمات الحقوقية من معرفة مصيرهن حتى اليوم، في واحدة من أكثر القصص التي تجسد غياب الشفافية واستغلال الجهاز لصلاحياته لقمع المعارضين.
أحمد منصور: رمز المناضل المستهدف
يظل اسم الناشط الحقوقي أحمد منصور شاهدًا حيًا على ما يفعله جهاز أمن الدولة في الإمارات. فقد اعتُقل منصور في مارس 2017 دون مذكرة توقيف، ليختفي قسرًا مدة عام كامل دون أن تتمكن أسرته من زيارته أو معرفة مكان احتجازه.
وتبيّن لاحقًا أنه محتجز في سجن الوثبة، حيث تعرض لسوء معاملة وظروف احتجاز قاسية، بلغت حد حرمانه من سرير أو فراش مناسب.
في 2018، صدر بحقه حكم بالسجن عشر سنوات بتهمة «نشر معلومات كاذبة تضر بسمعة الدولة»، وهي تهمة فضفاضة كثيرًا ما تُستخدم لتجريم التعبير عن الرأي في الإمارات. واعتبرت منظمات حقوقية دولية هذه القضية دليلاً على تصاعد القمع بحق الأصوات المستقلة.
واجهة تقدمية وواقع قمعي
تسعى الإمارات بشتى الطرق إلى تسويق صورة حديثة للعالم، عبر استثمارات ضخمة في قطاعات التكنولوجيا والرياضة والثقافة، بل حتى في مجال «حقوق الإنسان»، من خلال إنشاء هيئات ومؤسسات ظاهرها الانفتاح.
لكن هذه الصورة تتناقض كليًا مع واقع الداخل الإماراتي، حيث تظل حرية التعبير مقيدة بشدة، ويواجه المعارضون والنشطاء خطر الاعتقال أو التعذيب أو الاختفاء القسري.
يظهر بوضوح أن جهاز أمن الدولة أضحى الأداة الرئيسية لهذا القمع، حيث يستخدم صلاحياته المستمدة من قوانين مبهمة لتعقب أي نشاط يُفسر على أنه تهديد لأمن الدولة. في الواقع، لا يتعلق الأمر بأمن الدولة بالمعنى الحقيقي، وإنما بحماية النظام السياسي من أي مطالب إصلاحية أو انتقادات تمس صورة الإمارات دوليًا.
وإذا كانت الإمارات جادة في تقديم نفسها كدولة حديثة تحترم الحقوق، فلا بد من إصلاحات جوهرية تحد من صلاحيات جهاز أمن الدولة، وتضمن محاسبة المتورطين في الانتهاكات. لا يجوز أن تظل المؤسسة المسؤولة عن حماية أمن المواطنين هي ذاتها مصدر الخوف والقمع.
ويؤكد مراقبون أن الدفاع عن ضحايا الانتهاكات ومواصلة فضح ممارسات جهاز أمن الدولة يبقيان الطريق الوحيد أمام المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية للضغط من أجل تغيير حقيقي. فالقضية لا تتعلق بمجرد أفراد انتهكت حقوقهم، بل بمستقبل الحريات في دولة تدّعي السعي نحو التقدم والانفتاح.
