موقع إخباري يهتم بفضائح و انتهاكات دولة الامارات

القمع يرتدي ثوب القانون والوجاهة: الإمارات وحقوق الإنسان بين الواجهة والواقع

1٬800

بين الأبراج الزجاجية التي تلامس السحاب، والمهرجانات العالمية، والمؤتمرات البراقة التي تستضيفها الإمارات يختبئ وجه آخر للدولة: وجه تُكبل فيه الحريات، القمع يرتدي ثوب القانون والوجاهة فيما يُطارد فيه الرأي المختلف، ويُقنن فيه القمع تحت مسميات “الأمن القومي”، و”مكافحة التطرف”، و”الحفاظ على النسيج الوطني”.

ومنذ أكثر من عقد، تسير الإمارات على نهج مدروس في إخفاء حقيقتها الحقوقية خلف واجهة براقة من الاستثمارات الدولية، والفعاليات الثقافية، وصفقات التسليح، والعلاقات الدبلوماسية المتشابكة. في الظاهر، دولة متقدمة تحتضن التسامح، وفي الجوهر، نظام لا يحتمل الكلمة الحرة ولا يقبل النقد.

قوانين على مقاس القمع

ما يميز النظام الإماراتي عن غيره من الأنظمة السلطوية التقليدية هو تغليفه للقمع بطابع قانوني مُحكم. قوانين مكافحة الإرهاب وجرائم تقنية المعلومات والإعلام الإلكتروني، إضافة إلى التعديلات المتكررة في قانون العقوبات، تُستخدم كسيوف مسلطة على رقاب النشطاء والمثقفين وحتى المواطنين العاديين.

فأي تغريدة تنتقد قرارًا رسميًا قد تُصنَّف “نشرًا لمعلومات مضللة تهدد الأمن العام”، وأي مشاركة على “فيسبوك” تُفهم كـ”تحريض على الكراهية” أو “الإساءة لسمعة الدولة”، والنتيجة: أحكام قاسية، سحب للجنسية، وعزل تام عن العالم الخارجي.

ليس من قبيل الصدفة أن تقارير منظمات مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية توثّق عامًا بعد عام نمطًا ممنهجًا من إساءة استخدام هذه القوانين لتبرير الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والمحاكمات غير العادلة.

السجون السرية والعدالة الغائبة

وراء أسوار السجون، تكشف التقارير الحقوقية عن منظومة متكاملة من الانتهاكات: تعذيب جسدي ونفسي، حرمان من الرعاية الطبية، عزل في زنازين انفرادية لأشهر طويلة، ومنع من الاتصال بالعالم الخارجي.

أبرز تلك السجون “سجن الرزين”، الذي يُعرف بين منظمات حقوق الإنسان بـ”غوانتنامو الإمارات”.

العديد من المعتقلين في الإمارات لا يُقدَّمون إلى محاكمات علنية، بل يُحاكمون أمام محكمة أمن الدولة التي لا تضمن أدنى معايير العدالة. ولا يُسمح لمحامي الدفاع بالوصول الكامل إلى ملفات القضايا، وغالبًا ما تستند الاتهامات إلى “اعترافات” انتُزعت تحت الإكراه.

ويزداد الوضع قتامة حين يتعلق الأمر بمن أنهى مدة سجنه فعليًا؛ فبعض المعتقلين يظلون رهن “المناصحة” إلى أجل غير مسمى، وهي صيغة قانونية ضبابية تُستخدم لإبقاء النشطاء رهن الاحتجاز حتى بعد انتهاء محكومياتهم، بذريعة “إعادة التأهيل الفكري”.

النشطاء خلف القضبان

أبرز مثال على هذا المشهد القاتم هو ملف معتقلي “الإمارات 94″، وهي مجموعة من المثقفين والنشطاء الذين اعتُقلوا عام 2012 بسبب توقيعهم على عريضة تطالب بإصلاحات سياسية سلمية.

وقد خضع هؤلاء لمحاكمة جماعية صورية انتهت بأحكام تصل إلى السجن 10 سنوات، وُصفت دوليًا بأنها ذات دوافع سياسية بحتة.

بين هؤلاء المعتقلين أسماء بارزة مثل الدكتور محمد الركن، المحامي الحائز على جوائز دولية في الدفاع عن حقوق الإنسان، والذي لا يزال رهن الاعتقال رغم انتهاء مدة محكوميته.

وهناك كذلك عشرات النشطاء الرقميين، وطلبة الجامعات، والمدونين الذين سُجنوا لمجرد نشرهم آراء تخالف الرواية الرسمية، أو لمطالبتهم بإصلاحات بسيطة في السياسة أو الحريات.

تبييض الصورة في الخارج… وسحق الداخل

في تناقض صارخ، تبذل الإمارات جهودًا جبارة لترويج نفسها عالميًا كواحة للتسامح والانفتاح. فقد أنشأت وزارة للتسامح، واستضافت فعاليات مثل “مؤتمر الأخوة الإنسانية”، وافتتحت معابد وكنائس، في محاولة لصياغة صورة حضارية تجتذب المستثمرين والسياح وتحسّن مكانتها في المنتديات الدولية.

لكن الواقع يقول شيئًا مختلفًا: هذا “التسامح” لا يشمل المعارضين السياسيين ولا حتى من يطالب بمزيد من الحريات. بل هو تسامح انتقائي، يُستخدم كأداة دبلوماسية، فيما تُصادر الحريات السياسية والدينية والنقابية في الداخل.

ويكشف هذا التناقض أيضًا عن “ازدواجية المعايير” لدى بعض الدول الغربية التي تستمر في بيع الأسلحة للإمارات، أو توقيع اتفاقيات تعاون أمني معها، رغم تقارير انتهاكات حقوق الإنسان الموثقة.

الصحافة المكمّمة والرقابة الشاملة

لا وجود لصحافة مستقلة في الإمارات. جميع وسائل الإعلام إمّا تابعة للدولة أو تخضع لرقابة صارمة. ولا يُسمح للصحفيين الأجانب بالعمل بحرية، وغالبًا ما يُمنعون من تغطية قضايا حقوقية أو لقاء ذوي المعتقلين.

ولا تقتصر الرقابة الحكومية على الصحف والتلفزيون، بل تشمل الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. فقد أنشأت الدولة وحدات إلكترونية ترصد التغريدات، وتلاحق الحسابات المعارضة، بل وتخترق خصوصيات الأفراد.

دولة تُجَرِّم حرية الرأي باسم “الاستقرار”

الإمارات دولة تستثمر في كل شيء: التكنولوجيا، العقارات، الثقافة، حتى الفضاء… لكنها لم تستثمر في الإنسان كمواطن حر له رأي وكرامة. بل فضّلت بناء نموذج يربط بين الرفاهية الاقتصادية والقمع السياسي، حيث يمكن أن تعيش ميسور الحال، ما دمت صامتًا.

ومع استمرار هذا النهج، تصبح الأسئلة أكثر إلحاحًا: إلى متى ستظل القوانين تُستخدم كسلاح لتكميم الأفواه؟ ومتى سيعترف العالم بأن وراء بريق أبوظبي، هناك ظلال من الظلم لا يراها السائح العابر ولا يُسمح للمواطن بتسليط الضوء عليها؟.