موقع إخباري يهتم بفضائح و انتهاكات دولة الامارات

آلة الصمت في أبوظبي: حين يصبح الاختفاء القسري سلاحاً للسلطة

1٬562

في القانون الدولي، يُصنّف الاختفاء القسري كجريمة ضد الإنسانية، تمارسها الأنظمة الاستبدادية لإرهاب الشعوب وإسكات المعارضة، لكن في الإمارات، يتم تغليف هذه الجريمة تحت مسمى “أمن الدولة”، كأن المطالبة بالإصلاح أو مجرد التعبير عن الرأي تهديد وجودي يجب محوه.

ففي الإمارات لا وجود لمعارضة شرعية أو أصوات مستقلة؛ وكل من يجرؤ على التفكير المختلف يجد نفسه عرضة للاختفاء خلف جدران السجون السرية، بلا محاكمة ولا أثر.

ويؤكد مركز مناصرة معتقلي الإمارات، على أن ما يحدث في الإمارات ليس انحرافاً أو تجاوزاً فردياً من أجهزة الأمن، بل سياسة ممنهجة. عشرات النشطاء، محامين، أكاديميين، وطلبة تم اعتقالهم بطرق غامضة، اقتيدوا إلى أماكن احتجاز سرية، ثم اختفت أخبارهم لأشهر وربما لسنوات.

وهذه الممارسات ليست معزولة، بل جزء من استراتيجية متكاملة تقوم على زرع الخوف وشل أي إمكانية للمجتمع المدني أن يتحرك أو يتنفس.

بدورها العائلات تُرهب: لا يُسمح لها بالسؤال أو التواصل، بل تُواجه بالصمت والتخويف، ما يجعل من الاختفاء القسري عقوبة جماعية، تتجاوز حدود الفرد المعتقل إلى دائرة أوسع من المجتمع.

خلفية قانونية مفخخة

تشكل القوانين الإماراتية الملتبسة –خاصة قانون الجرائم الإلكترونية وقوانين مكافحة الإرهاب– غطاءً شرعياً زائفاً لهذه الانتهاكات.

فهي تمنح السلطات حق الاعتقال لأسباب فضفاضة مثل “تهديد الوحدة الوطنية” أو “الإضرار بسمعة الدولة”. بهذه الصياغات الغامضة، تُحوّل كل تغريدة، مقالة، أو حتى نقاش خاص إلى ذريعة للاختفاء.

من جانها المحاكم تعمل في الظل. جلسات مغلقة، محامون محرومون من الاطلاع على الملفات، وأحكام تصدر مسبقاً وكأنها جزء من سيناريو معدّ سلفاً. بهذا الشكل، يصبح القضاء مجرد أداة إضافية لإضفاء الشرعية الشكلية على ما هو في جوهره قمع سياسي.

والمأساة الأكبر أن المجتمع الدولي يتواطأ بالصمت. الإمارات دولة غنية ومؤثرة اقتصادياً، شريك رئيسي في الطاقة والاستثمار، ما يجعل قضايا حقوق الإنسان ملفاً ثانوياً أمام مصالح الدول الكبرى.

الشركات الغربية توقع العقود، الحكومات تغض الطرف، والمنظمات الدولية تواجه عراقيل دبلوماسية وتمويلية تجعل صوتها خافتاً.

وبينما تستثمر أبوظبي في الترويج لصورتها كـ”مركز للتسامح” و”نموذج للحداثة”، يستمر الإخفاء القسري كوجه آخر للعملة: صورة ناصعة للعالم، وواقع قاتم في الداخل.

البعد النفسي والاجتماعي

الاختفاء القسري لا يقتل الضحية فقط، بل يحطم محيطه. العائلات تعيش بين الأمل واليأس، لا تعرف إن كان أحباؤها أحياء أم أموات، ولا متى يعودون إن عادوا. الأطفال يكبرون بلا آباء، الزوجات يتحملن أعباء الحياة وحدهن، والمجتمع بأسره يتعلم درساً صريحاً: لا أحد آمن.

هذا الأثر النفسي هو جزء من الهدف. فالسلطة لا تريد فقط إسكات المعارض، بل زرع الخوف العميق في وجدان المجتمع، ليصبح مجرد التفكير في المعارضة خطراً وجودياً.

وتعتبر الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، التي اعتمدتها الأمم المتحدة عام 2006، هذه الممارسة جريمة ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم.

ومع ذلك، ترفض الإمارات التصديق على هذه الاتفاقية، ما يترك الضحايا وعائلاتهم بلا حماية قانونية دولية مباشرة.

لكن من منظور حقوقي، لا يمكن للإمارات أن تختبئ طويلاً خلف خطاب “الأمن القومي”. فجرائم الاختفاء القسري تندرج ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وتفتح الباب لمساءلة جنائية مستقبلية.

صراع الرواية: أمن الدولة أم قمع الدولة؟

تحاول السلطات الإماراتية تسويق خطاب مفاده أن هذه الاعتقالات ضرورية لحماية الاستقرار، خصوصاً في منطقة مضطربة.

لكن هذه الرواية تتهاوى أمام الواقع: الاستقرار الحقيقي لا يبنى على السجون السرية بل على العدالة والشفافية. ما يُسمى “أمن الدولة” ليس سوى قمع الدولة، حيث تتحول السلطة إلى آلة لإلغاء الإنسان وتجريده من وجوده القانوني والاجتماعي.

وهنا يبرز دور الإعلام والمنظمات الحقوقية في فضح هذه الممارسات. التوثيق، النشر، وتسليط الضوء على الحالات الفردية يعيد للضحايا أسماءهم ووجوههم، ويكسر آلة الصمت التي تسعى السلطة إلى فرضها. فالإخفاء القسري يستمد قوته من التعتيم، ومواجهته تبدأ بكشفه إلى العلن.

ذلك كون أن الاختفاء القسري في الإمارات ليس مجرد قصة حقوقية، بل مرآة تعكس طبيعة النظام السياسي ذاته: سلطة تعتبر أي صوت مستقل تهديداً وجودياً. هذه السياسة قد تمنح النظام قدرة مؤقتة على السيطرة، لكنها تزرع بذور عدم الاستقرار العميق، لأن مجتمعاً محكوماً بالخوف لا يمكن أن يكون مستقراً حقاً.