في توقيت بالغ الدلالة، جاء الاعتراف الإسرائيلي بإقليم صومالاند ليكشف ما كان يُدار خلف الكواليس منذ سنوات، ويضع الدور الإماراتي في صلب مشهد إقليمي آخذ في التشكل على نحو أكثر خطورة وتعقيدًا.
فالخطوة الإسرائيلية لم تكن معزولة، ولا يمكن قراءتها كقرار دبلوماسي منفرد، بل هي حلقة في مشروع سياسي–أمني أوسع تقوده أبوظبي وتل أبيب لإعادة رسم خرائط النفوذ في القرن الإفريقي والبحر الأحمر، وصولًا إلى اليمن والسودان.
واللافت في التوقيت أن الاعتراف جاء بعد أيام قليلة من عودة رئيس إقليم صومالاند من أبوظبي، حيث أمضى قرابة أسبوعين شارك خلالهما في لقاءات مع كبار المسؤولين الإماراتيين، في مشهد يعكس بوضوح حجم التنسيق المسبق.
فقد جاءت هذه الزيارة في سياق علاقات ممتدة نسجتها الإمارات مع الإقليم منذ سنوات، شملت تعاونًا أمنيًا وعسكريًا واستثمارات في الموانئ والبنية التحتية، وعلى رأسها ميناء بربرة الذي بات أحد أهم أوراق النفوذ الإماراتي في القرن الإفريقي.
ويبرز المراقبون أن إقامة الإمارات علاقات متقدمة مع صومالاند لم تكن سرًا، لكنها كانت تُدار تحت عناوين اقتصادية وتنموية.
غير أن الاعتراف الإسرائيلي أعاد تسليط الضوء على البعد السياسي والأمني لهذه العلاقات، وفضح حقيقة أن الإقليم يُستخدم كمنصة متقدمة لمشروع إقليمي أكبر.
فالتنسيق الإماراتي–الإسرائيلي في هذه الخطوة يشي بوجود رؤية مشتركة تقوم على تفكيك الدول المركزية الهشة أصلًا، وتحويل مناطق الأطراف إلى كيانات أمر واقع قابلة للتوظيف السياسي والعسكري.
والأخطر أن هذا الاعتراف قد يفتح الباب لاحقًا أمام سيناريوهات مشابهة في مناطق أخرى تخضع لسيطرة مليشيات مدعومة من أبوظبي، سواء في اليمن أو السودان.
فالسوابق موجودة: دعم تشكيلات انفصالية، تمكينها اقتصاديًا وأمنيًا، ثم الدفع نحو منحها شرعية سياسية خارج إطار الدولة الأم. الاعتراف بصومالاند هنا لا يبدو نهاية المسار، بل تجربة اختبار قابلة للتكرار والتوسيع.
في هذا السياق، يتضح أن المحور الإسرائيلي–الإماراتي لا يتحرك بدافع دعم “الاستقرار” كما يروّج، بل على العكس، يسعى إلى إنتاج كيانات ضعيفة، منزوعة السيادة، تعتمد في بقائها على الحماية الخارجية.
كما أن تحييد الدول المؤثرة في المنطقة، وإغراقها في أزمات داخلية وانقسامات جغرافية، يتيح لهذا المحور التحكم بالممرات البحرية الحيوية من باب المندب إلى خليج عدن، وصولًا إلى البحر الأحمر وشرق المتوسط.
ويحتل القرن الإفريقي موقعًا محوريًا في هذا المشروع. فهو بوابة استراتيجية للتجارة العالمية والطاقة، ومن يملك مفاتيحه يستطيع إعادة موازنة الخسائر في ساحات أخرى، سواء في فلسطين أو لبنان أو حتى في مواجهة قوى إقليمية منافسة. من هنا، لا يمكن فصل الاعتراف بإقليم صومالاند عن الصراع الأوسع على الممرات البحرية وإعادة تشكيل خرائط النفوذ.
ويبرز المراقبون أن المشروع التوسعي للإمارات وإسرائيل هو مشروع واحد تعمل عليه الدولتان منذ سنوات، لكن ظروف التنفيذ تتغير تبعًا للتحولات الدولية والإقليمية.
فحين تسمح الظروف، يُدفع باتجاه خطوات صادمة كاعتراف سياسي أو تدخل عسكري غير مباشر. وحين تضيق المساحات، يُعاد التموضع بوسائل أكثر نعومة، كالتغلغل الاقتصادي أو الأمني.
وفي مواجهة هذا المسار، تبدو الوحدة الوطنية للدول المستهدفة خيار النجاة الوحيد. فالتفكك لم يعد خطرًا نظريًا، بل أداة تُستخدم بوعي لإعادة إنتاج السيطرة. وما يجري في صومالاند اليوم قد يكون نموذجًا لما يُخطط له غدًا في أماكن أخرى.
فالاعتراف الإسرائيلي ليس سوى رأس جبل الجليد، أما ما تحته فهو مشروع تفكيك طويل الأمد، تُدار خيوطه من أبوظبي وتل أبيب، وتُنفذ فصوله على أرض دول تعاني أصلًا من الهشاشة والصراعات.
