أعاد إعلان رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيا، عيدروس الزبيدي، استعداد كيانه للانضمام إلى “اتفاقيات إبراهام” مع إسرائيل إذا تحقق “استقلال الجنوب”، فتح ملف العلاقة المركّبة بين المجلس الانتقالي وأبوظبي، وكيف تُسخَّر أوراق التطبيع في لحظة إقليمية ملتهبة لتثبيت مشروع الانفصال في جنوب اليمن.
فالتصريح لم يأتِ من فراغ، بل في سياق حملة سياسية وإعلامية منسّقة ظهرت ذروتها خلال مشاركته في اجتماعات الأمم المتحدة بنيويورك أواخر سبتمبر/أيلول، حيث أكد أن دولة جنوبية مستقلة “ستتخذ قراراتها” وأن الانضمام إلى الاتفاقيات سيكون مطروحًا باعتباره “رافعة للاستقرار”.
عمليًا، يندرج هذا الموقف ضمن مقاربة أوسع لدى المجلس الانتقالي: استخدام ورقة التطبيع كإشارة “طمأنة” للفاعلين الغربيين والإقليميين بأن جنوبًا مستقلًا سيكون جزءًا من منظومة الأمن الإقليمي الجديدة التي نشأت بعد 2020.
وقد وثّقت منصات عدة مضمون الطرح: “الاستقلال يفتح الباب لعلاقات مع إسرائيل”، و”اتفاقيات إبراهام مفتاح للاستقرار بعد حرب غزة”، وهي رسائل قُدّمت لعواصم القرار باعتبارها “خيارًا واقعيًا” في ضوء انسداد المسار العسكري والسياسي في الشمال.
لكن توقيت الرسالة ليس تفصيلاً. فهي تصدر بينما تواجه إسرائيل عزلةً وانتقادات دولية واسعة بسبب الحرب على غزة وتوسّع رقعة المواجهة إلى لبنان وسوريا وإيران، ما يجعل أي تموضع علني معها مكلفًا شعبيًا داخل اليمن وخارجه.
خدمة مشروع الانفصال الإماراتي
يراهن المجلس الانتقالي على أن “الرسائل الصحيحة” للعالم قد تُقابل بتفهّم سياسي أو غطاء دبلوماسي لمطلب الانفصال وهو يبادر إلى مغازلة منظمة لتل أبيب ضمن حملة لتوسيع التعاطف الدولي مع مشروع الاستقلال.
فمنذ تأسيسه عام 2017، حافظ المجلس الانتقالي على صلات وثيقة بالإمارات، التي وفّرت دعمًا عسكريًا وسياسيًا مكّنه من فرض معادلات ميدانية في عدن ومناطق جنوبية أخرى، وصولاً إلى السيطرة على سقطرى عام 2020.
ورغم إعلان أبوظبي “انسحابًا” عام 2020، تؤكد مصادر مرجعية أنها احتفظت بنفوذ واسع عبر وكلاء محليين وتشكيلات أمنية موالية.
هذا المسار وثقته تقارير دولية ووكالات أنباء، بما في ذلك الإشارة إلى تدريب وتسليح القوات الجنوبية، وتدخلات مباشرة كالغارات الإماراتية ضد قوات الحكومة المعترف بها دوليًا في أغسطس/آب 2019 دعمًا للانتقالي.
في هذا الإطار، يُقرأ “العرض التطبيعي” كمكمّل هندسي لمشروع سياسي-أمني تقوده أبوظبي منذ سنوات: تثبيت نفوذ في شريط موانئ واستراتيجيات بحرية تمتد من عدن إلى حضرموت وسقطرى، عبر وكلاء محليين قادرين على التعاقد، والضبط الأمني، وتقديم “ضمانات” للشركاء الخارجيين بشأن مكافحة الإرهاب والملاحة.
وبذلك، يغدو التطبيع بطاقة اعتماد إضافية في سوق الاعتراف الدولي بالدولة الجنوبية المرتجاة.
داخليًا، يضاعف الطرح الاستقطاب. فالقوى الوطنية في الشمال والجنوب، بما فيها أطراف جنوبية غير منتسبَة للانتقالي، تنظر إلى التطبيع كـ”ثمن سيادي” يدفعه المجلس مقابل دعم خارجي، بينما يرى خصومه أنه يستثمر تعب الحرب والجوع لصناعة “أمر واقع”.
وتدلّ موجة الغضب الواضحة في التغطيات اليمنية على أن التطبيع لن يكون “جسرًا” للاعتراف بقدر ما سيكون “حاجزًا” اجتماعيًا وسياسيًا يفاقم الانقسام الأهلي ويحرج حتى الحلفاء الإقليميين الذين يحاولون إدارة التوازنات اليمنية الهشّة.
إقليميًا، ينطوي الطرح على رسائل متعدّدة. للسعودية—التي تقود المسار مع الحوثيين وتُمسك بمفاتيح التسوية الأوسع—يعني إعلان الانتقالي رفع سقف التفاوض ضمن مجلس القيادة الرئاسي، والتلويح بقدرة الجنوب على رسم سياسة خارجية منفصلة.
كما أنه يقدّم لإسرائيل نافذة رمزية في البحر العربي وخليج عدن، ولو على مستوى “التصريحات”، مع ما يحمله ذلك من حساسية أمنية في ظل حرب البحر الأحمر وسلاسل الإمداد.
أما الإمارات، فتستفيد من إثبات قابلية وكلائها لتبنّي أجندة “التكامل” مع شبكات التطبيع الإقليمي، بما يعزز صدقية استراتيجيتها البحرية والأمنية.
مخاطر وتحديات
مع ذلك، ثمة مخاطر مؤكدة. أولها، أن التطبيع كأداة مكاسب سريعة قد يرتدّ سلبًا على شرعية الانتقالي داخليًا، ويقوّي رواية الحوثيين وسواهم بأن المجلس “واجهة لمشاريع خارجية”.
ثانيها، أن ربط “الاعتراف بالدولة” بعلاقات علنية مع إسرائيل في مناخ حرب غزة، سيصعّب على عواصم عديدة—حتى الصديقة—تقديم غطاء دبلوماسي سريع، خشية الكلفة الأخلاقية والسياسية.
فيما ثالث المخاطر أن التقدم في مسار الانفصال يتطلب—إضافة إلى الدعم الخارجي—بناء توافقات جنوبية واسعة حول تقاسم السلطة والموارد، وهو ملف لا تحسمه صفقات تطبيع بقدر ما تحسمه ترتيبات داخلية مستدامة.
وبالإجمال يعكس تلويح المجلس الانتقالي بالانضمام إلى “اتفاقيات إبراهام” محاولة لاستثمار هندسة إقليمية جديدة لصالح مشروع الانفصال، مستندًا إلى رصيد ميداني صنعته رعاية إماراتية طويلة الأمد.
غير أن تحويل هذا “العرض” إلى مكسب سياسي صافٍ يتطلب تجاوز ثلاثة اختبارات: قبول داخلي جنوبي لا يُقصي القوى المنافسة، وتوازناً مع المسار السعودي الأشمل لتسوية الحرب، وقدرةً على تحمّل كلفة الاصطفاف التطبيعي في زمن حرب غزة. دون ذلك، قد تتحول الورقة من رافعةٍ للانفصال إلى عبءٍ يُعمّق عزلة المجلس ويؤجج استقطابًا لا يحتاجه اليمن المنهك.
