في مشهد إقليمي مضطرب، كسر الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون جدار المجاملة العربية وهاجم الإمارات علنًا، مُلمِّحًا إلى دولة خليجية “تتدخل لتخريب البيت لأسباب مشبوهة” وذلك في إطار فضح مؤامرات أبوظبي التخريبية.
وصرح تبون بأن “”دول الخليج دول شقيقة ما عدا دولة وحدة لا نذكر اسمها، ما عدنا مشاكل لا مع أشقاءنا السعوديين و الكويتيين ولا العراقيين، القطريين نعنا معهم تعامل مكثف و العمانيين نفس الشيء، المشاكل عندي مع اللي يجي يخربلي في بيتي لأسباب مشبوهة، حبو يتداخلوا في أمور لي دول عظمى ما دخلتش فيها”.
ويرى مراقبون أن الرسالة كانت مباشرة: الجزائر ترى في أبوظبي فاعلًا يعمل خارج قواعد الأخوّة، ويستثمر المال والسياسة والإعلام لتحويل الأزمات العربية إلى منصّات نفوذ.
وبهذا، انتقل التوتر الجزائري–الإماراتي من منسوب الهمس الدبلوماسي إلى مواجهة مكشوفة على طبيعة النظام الإقليمي وحدود التدخل.
سفير بمهام تتجاوز الدبلوماسية
مؤخرا تصدر السفير الإماراتي في الجزائر، يوسف سعيد الخميس ساع آل علي، واجهة الأزمة. تتهمه أوساط جزائرية بأن نشاطه يتخطى الأعراف الدبلوماسية إلى أدوار استخباراتية مموّهة، من خلال تحركات متكررة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو—وهي ساحات تعتبرها الجزائر امتدادًا لأمنها القومي.
وهذه التحركات لا تُقرأ في الجزائر كزيارات روتينية، بل كجزء من «هندسة التفاف» على الدور الجزائري عبر رعاية علاقات مع سلطات انقلابية أو أنظمة هشة، بما يفضي إلى توازنات تُقصي الجزائر وتُشرعن حضور أبوظبي كلاعب أمني–مالي في قلب الساحل.
ويشار إلى أن الخلاف ليس جديدًا. دعم الإمارات العلني لموقف المغرب في قضية الصحراء الغربية فتح جرحًا سياسيًا مع الجزائر، لأنه بدا اصطفافًا ضد «ثوابت» تعتبرها الجزائر خطوطًا حمراء.
وقد تزامن ذلك مع ماكينة إعلامية تستخدم منصات مقرّبة من أبوظبي—مثل «سكاي نيوز عربية»—لتعزيز روايات تُشيطن الداخل الجزائري أو تسائل هويته الوطنية وتماسكه الاجتماعي، في تكرار لصيغ «الهندسة الإعلامية» التي سبقت تدخلات خارجية في دول عربية أخرى.
هنا، لا تبدو الإمارات مجرد دولة «تنحاز»، بل طرفًا يسوّق سرديات تؤسس لتهميش الجزائر وشرعنة التدخل في شؤونها.
اتفاقيات أبراهام كمنصة عابرة للقارات: إسرائيل بوابة التمدد
يتقاطع تمدد أبوظبي مع تطبيعها مع إسرائيل. فـ«اتفاقيات أبراهام» لم تبق في إطار الأمن والتكنولوجيا في الخليج، بل تمددت إلى إفريقيا حيث تتلاقى المصالح الإماراتية–الإسرائيلية في الطاقة والأمن والاتصالات.
بالنسبة للجزائر، هذا التحالف يُنتج شبكة نفوذ مركّبة: رأسمال إماراتي يشتري النفاذ، وذراع تقنية–استخباراتية إسرائيلية تُقدّم أدوات السيطرة، ومظلة سياسية غربية تمنح الغطاء. النتيجة: مشروع نفوذ يتجاوز الجغرافيا ويضغط على المجال الحيوي الجزائري من الساحل إلى غرب المتوسط.
وفي مواجهة ما تعتبره «مقاولو أزمات» عابرين للحدود، تعيد الجزائر صياغة حضورها الإقليمي تحت شعار «هندسة الاستقرار»: تنمية وأمن متوازن، لا عقود تسليح تُثبّت هشاشة الانقلابات.
وترسخ تصريحات قائد الأركان الفريق أول السعيد شنقريحة أن الساحل خط تماس وطني، وأن أي أجندة أجنبية ستواجَه بردع محسوب. عمليًا، تقلّصت حركة السفير الإماراتي منذ سبتمبر 2024، بما فُهم أنه «عدم ترحيب» فعلي حتى لو لم يُعلن طرده. وفي الخطاب الجزائري، تُحمَّل أبوظبي مسؤولية الجزء الأكبر من تعثر العلاقات الثنائية.
لماذا تصعّد الجزائر الآن؟
أولًا، لأن أبوظبي تحاول—برأي الجزائر—تحويل الفراغات الأمنية في الساحل إلى «مناطق امتياز» تُدار بالمال والسلاح بدل الشرعية والاندماج القاري.
ثانيًا، لأن الاصطفاف الإماراتي في ملفات تمس الأمن القومي الجزائري (الصحراء الغربية، شبكات التأثير الإعلامي، القنوات الخلفية مع سلطات انتقالية) يرقى إلى استهداف مباشر للدور الجزائري.
ثالثًا، لأن التداخل الإسرائيلي يُحوّل التنافس على النفوذ إلى معادلة أمنية حسّاسة لا تحتمل المجاملة.
والخلاف إذًا ليس على ملف واحد، بل على تعريف «الدور العربي» نفسه: الجزائر تُقدّم نموذجًا تحرريًا سياديًا يرفض الاستتباع، فيما تدفع الإمارات بنموذج «التموضع بالمال» وتحويل الأزمات إلى فرص نفوذ.
لذلك تصف دوائر جزائرية السلوك الإماراتي بأنه «تغوّل بأدوات ناعمة وخشنة»، من رعاية شبكات نفوذ إعلامية إلى صفقات أمنية في عمق الساحل، مرورًا بإسناد روايات تُضعف الخصوم وتُجمّل الحلفاء.
احتمالات التصعيد
السيناريو الأقرب هو استمرار «حرب باردة» بين البلدين: تضييق متبادل للمجال الإعلامي، فرملة الاستثمارات، ورفع كلفة تحرك البعثات الدبلوماسية.
لكن إذا واصلت أبوظبي تمددها في الساحل على حساب المجال الجزائري، فقد تتجه الجزائر إلى إجراءات أكثر صلابة: تقييد حركة الدبلوماسيين، كشف شبكات التأثير، وتكثيف الشراكات الأمنية–التنموية مع دول الساحل خارج قنوات ترعاها الإمارات.
وفي المقابل، قد تضاعف أبوظبي رهاناتها على محاور مضادة للجزائر، بما يشمل توسيع التنسيق مع إسرائيل وقوى غربية، أو الاستثمار في فواعل محلية تُهمِّش الصوت الجزائري.
وبهجوم الرئيس الجزائري العلني، سقط «قناع الأخوّة» في ملف شديد الحساسية. الإمارات تُجسّد—في عين الجزائر—مشروع نفوذ يخلط المال بالأمن والإعلام، ويتكئ على تحالفات غير عربية لتغيير موازين القوة في شمال إفريقيا والساحل.
الجزائر، بالمقابل، تُعلن أن سيادتها ومجالها الحيوي ليسا ساحة للمضاربة. لذلك، تبدو الأزمة أبعد من عارض دبلوماسي؛ إنها معركة على هوية الدور العربي وحدود الاختراق الأجنبي «ولو جاء بثوب عربي».
وفي هذا الاشتباك الطويل، ستقاسم الحقائقُ الميدانَ: من ينجح في إنتاج استقرار حقيقي ويحمي سيادة الجوار سيحصد الشرعية—أما «الهندسة المشبوهة» فستبقى مكشوفة، ومكلفة.
