منذ لحظة انكشاف الفضيحة الدولية حول وجود المرتزقة الكولومبيين يقاتلون في صفوف ميليشيا الدعم السريع بدارفور بتمويل وتسليح إماراتي، تحركت ماكينة الإعلام التابعة لمحمد بن زايد في محاولة لتشتيت الأنظار وصناعة رواية بديلة. إلا أن هذا الجهد بدا أقرب إلى مسرحية عبثية تكشف إفلاسًا سياسيًا وإعلاميًا، أكثر من كونه استراتيجية دفاعية ناجعة.
فمع تصاعد الضغوط الدولية، لجأت وسائل الإعلام الموالية لأبوظبي – عبر منصات يديرها نشطاء سودانيون مأجورون – إلى ترويج سردية غريبة تزعم أن الجيش السوداني “يتاجر بالمخدرات مع الكولومبيين”.
هذه الرواية لم تكن سوى محاولة ساذجة لتغطية الحقائق المؤلمة: أن المرتزقة الذين جُلبوا من أمريكا اللاتينية لم يهبطوا في السودان من فراغ، بل وصلوا عبر جسور تمويل وتسليح مباشرة من الإمارات.
وتصوير هؤلاء المقاتلين وكأنهم مجرد عصابات مخدرات يُفترض أنهم تحالفوا مع الجيش السوداني، ليس إلا إفلاسًا فكريًا مزدوجًا: من جهة إسقاط الحقائق الدامغة حول دور الإمارات، ومن جهة ثانية اتهام الجيش السوداني بادعاءات غير قابلة للتصديق. فهل يُعقل أن يعبر مقاتلون آلاف الكيلومترات، بتمويل وتسليح إماراتي، لمجرد التجارة بالمخدرات؟
مرتزقة بن زايد: حقائق دامغة بالصور والفيديو
الصور ومقاطع الفيديو التي نشرتها الصحافة الكولومبية نفسها أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك وجود المرتزقة الكولومبيين في جبهات دارفور. هذه الشهادات البصرية خرجت من الإعلام اللاتيني لا من خصوم الإمارات السياسيين، ما زاد من قوة الأدلة ضد أبوظبي.
حتى على منصات التواصل الاجتماعي، انتشرت مقاطع تظهر بوضوح ملامح المقاتلين الكولومبيين، وأزياؤهم المميزة، ولغاتهم الأجنبية. تلك الأدلة يصعب دحضها مهما حاولت أبوظبي استئجار أقلام سودانية أو دفع ملايين الدولارات للوبيات في واشنطن وأوروبا. أكاذيب القصر أضعف من أن تغطي صور الميدان.
ومنذ سنوات، ضخت الإمارات مليارات الدولارات في شبكات الضغط السياسي والإعلامي الغربي لتلميع صورتها وإخفاء سجلها الأسود في اليمن وليبيا والسودان. لكن هذه المرة، بدا واضحًا أن تلك الأموال لم تعد كافية.
فالمجتمع الصحفي المستقل في كولومبيا وأمريكا اللاتينية نشر تقارير ميدانية تفضح تفاصيل التعاقد مع المرتزقة، الرواتب المغرية التي وُعدوا بها، والمهام القتالية التي أوكلت إليهم داخل السودان.
ورغم أن أبوظبي تمكنت جزئيًا من لجم القرار الدولي ضدها بفضل المصالح الاقتصادية مع العواصم الكبرى، إلا أنها عجزت عن السيطرة على الرأي العام المستقل، أو على الإعلام المحلي في كولومبيا الذي لم يرضخ للمال الخليجي.
السعودية كحجر عثرة في المشروع الإماراتي
إلى جانب الفضح الإعلامي، واجه مشروع بن زايد في السودان معضلة استراتيجية أكبر: الموقف السعودي. الرياض، التي تخوض صراعًا إقليميًا مكتومًا مع أبوظبي على النفوذ في البحر الأحمر وأفريقيا، رأت في التحركات الإماراتية تهديدًا مباشرًا لمصالحها.
لذلك، وقفت المملكة حجر عثرة أمام محاولات أبوظبي لفرض واقع جديد عبر ميليشيا الدعم السريع. بل إن السعودية، بما تملكه من علاقات أعمق مع القوى الإقليمية والدولية، أظهرت قدرة أوضح على الحسم والتأثير، مقابل عجز إماراتي متزايد عن مواجهة الوقائع.
وإن محاولة النظام الإماراتي إقناع الرأي العام أن المرتزقة الكولومبيين مجرد “تجار مخدرات متحالفين مع الجيش السوداني” تكشف عن انقلاب السحر على الساحر. فالرواية لم تجد صدى إلا بين حسابات وهمية على منصات التواصل، بينما قوبلت بسخرية واسعة في الأوساط السودانية والدولية.
لقد أرادت أبوظبي تحويل الأنظار عن صور المرتزقة يقاتلون في الميدان، فإذا به يعزز قناعة الشعوب بأن الإمارات باتت غارقة في إدارة حروب قذرة عبر مرتزقة أجانب. والأدهى أن هذه الرواية المضللة كشفت مزيدًا من تورط أبوظبي، بدل أن تخفيه.
دروس السودان: حدود القوة الإماراتية
تُظهر القصة في السودان بوضوح حدود النفوذ الإماراتي، مهما بلغت أموال النفط والذهب. يمكن لأبوظبي أن تشتري جماعات ضغط في واشنطن، وأن توظف نشطاء مأجورين في الخرطوم، وأن تحاول صناعة سرديات عبثية، لكنها لا تستطيع إخفاء الحقيقة عندما تنكشف في الميدان.
ففي لحظة ما، تتحول الصورة إلى أقوى سلاح: صور المرتزقة الكولومبيين في دارفور، تقارير الصحافة اللاتينية، والسردية الموحدة التي تفضح حقيقة المشروع الإماراتي. وهنا يظهر أن المليارات لا تستطيع شراء الشرعية، ولا تلميع مشروع يقوم على المرتزقة والدمار.
وقد تحولت محاولة النظام الإماراتي للهروب من الفضيحة إلى مسرحية مكشوفة تكشف ارتباكه السياسي والإعلامي. مرتزقة كولومبيون يقاتلون في دارفور بدعم إماراتي: هذه هي الحقيقة البسيطة التي لا تغطيها حملات التضليل، ولا تغيرها روايات عبثية عن تجارة مخدرات وهمية.
اليوم، ورغم نجاح أبوظبي الجزئي في منع صدور إدانات دولية مباشرة ضدها، فإنها فشلت في التقدم خطوة أخرى نحو فرض مشروعها في السودان. السعودية وقفت حجر عثرة، والصحافة العالمية وثّقت، والرأي العام بات يعرف أكثر مما تحب الإمارات أن يُعرف.
إنها قصة سقوط جديد لسياسة قائمة على شراء الولاءات وصناعة الوكلاء والمرتزقة. وفي النهاية، لن تنجح المسرحيات العبثية في إخفاء الدماء التي سالت في دارفور باسم الطموح الإماراتي.
