أصدر مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات، دراسة بعنوان “تركيا و الإمارات … ميادين الهدنة والصراع”، تناول فيها أفق تقارب أنقرة وأبوظبي بعد سنوات من التنافس الإقليمي.
وفي 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، التقى ولي عهد أبو ظبي محمد بن زيد آل نهيان، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أنقرة. وبذلك فتحت صفحة جديدة من العلاقات بين البلدين بعد عدة سنوات من ميادين الهدنة والاتهامات المتبادلة
طبيعة العلاقة بين البلدين بعد الربيع العربي
كان موقف البلدين من “الربيع العربي” حاسماً في العلاقات بين الإمارات وتركيا، خاصة في مواجهة الانقلاب على الرئيس المنتخب في مصر.
أظهرت المواقف المتباينة للبلدين بوضوح الاختلاف في النهج تجاه الربيع العربي، وكانت هناك فترة متوترة في العلاقات بين 2013 و2015.
لم تقبل أبو ظبي محمد مرسي رئيساً لمصر بعد انتخابات 2012، ودعمت الانقلاب العسكري بقيادة عبد الفتاح السيسي في يوليو/تموز 2013، في حين استنكرت أنقرة بحزم ما حدث في مصر، ولا تزال العلاقات الدبلوماسية بين أنقرة والقاهرة مُتدنية منذ تاريخ الانقلاب.
كذلك، فبينما دعمت تركيا المعارضة السورية بكل ما تملك من قوى، مالت الإمارات العربية المتحدة لإبقاء علاقاتها مع النظام السوري، وإن كان ذلك بصورةٍ غامضة.
وفي الميدان الليبي، كان واضحاً مسار أنقرة في دعم حكومة الوفاق الليبية، في حين تبذل أبو ظبي جهوداً حثيثةً في دعم جناح حفتر.
وبالقرب من ليبيا، يتباين موقف الطرفين حيال تونس، حيث هناك علاقات متينة لأنقرة مع حزب حركة النهضة، وهو تيار إسلامي سياسي، في حين سارت أبو ظبي في إطار دعم الأحزاب الليبرالية؛ نداء تونس ومن ثم الدستوري الحر، لإعاقة أي تطوير للعلاقات بين تونس وتركيا، وإظهار حكم حركة النهضة على أنه فاشل.
ظروف ودوافع التقارب التركي- الإماراتي
منذ تسلُّم جو بايدن مقاليد الحكم في الولايات المتحدة وتركيا تسير على درب الدبلوماسية المكثفة مُتعددة المحاور بعيداً عن التصعيد، وذلك تجنباً لأي ضغوط أمريكية أو أوروبية قد تعيق هدفها في استغلال التوجهات الدبلوماسية الهادئة في تحقيق عدة مصالح.
ولا شك في أن تصاعد أزمتها الاقتصادية أقنعها بضرورة الدخول في محور خفض التصعيد مع الجميع بلا استثناء.
بعد تقلص دور أبو ظبي في ليبيا وأفغانستان وسوريا، وتصاعد الضغوط الأمريكية والبريطانية عليها في إثيوبيا واليمن، فضلاً عن الدخول الروسي على الخط الإثيوبي؛ تخوفت أبو ظبي من تنامي مسار التعاون التركي البريطاني في السودان والمتوسط، والتركي – الباكستاني – القطري في أفغانستان، ومن تطور التعاون التركي – الروسي في مالي وتشاد وإثيوبيا.
دفعت هذه التطورات أبو ظبي لتخفيف وطأة الصدام مع أنقرة، وتقديم تنازلات نسبية جداً لها، حتى يكون هناك تعامل واقعي مع الواقع الذي طرأ على السطح بعد قدوم بايدن، وانسحاب واشنطن من عدة ملفات، مُستوكلة أنقرة ولندن.
ما بعد التقارب.. ميادين الصراع والهدنة بين الطرفين
الزيارة جاءت على مستوى قيادات البلدين، وهو مستوى رفيع جداً، وتعكس هذه الزيارة الجدية والحاجة المشتركة إلى التعاون بين البلدين.
وبالنسبة لصناع القرار في البلدين، لا يخفى عليهم أن العلاقات بين البلدين في حالتها الطبيعية هي علاقة مربحة للطرفين، لا سيما في المجال الأمني.
وتأتي هذه الزيارة لطرح سبل إيجاد مقاربة للموقف التركي والإماراتي تجاه عدة ملفات ساخنة في المنطقة، وبداية عهد جديد من التفاهمات.
وهذا ما أكده الرئيس التركي في مقالٍ له في صحيفة الخليج تايمز، إذ قال: “تركيا من الدول النادرة التي تسعى جاهدة لتحقيق التوازن بين مصالح سياستها الخارجية والسلام والاستقرار. تركيا لا ترى أمن واستقرار الإمارات منفصلين عن أمن واستقرار تركيا”.
ما بعد التقارب سيكون هناك تطور للعلاقات في الجانبين الاقتصادي والسياسي، ولكن ستبقى بعض الملفات بمنزلة ميادين الصراع الفاعلة بين الطرفين، وبعضها الآخر ميادين هدنة، والترتيب على النحو التالي:
ميادين الصراع
1- الملف السوداني
تنظر الإمارات إلى الملف السوداني في سياق نفوذها المُتكامل في البحر الأحمر بما يشمل اليمن وصومالي لاند ومصر والأردن وإثيوبيا مع إريتريا.
مؤخراً كان تطوّرُ العلاقات بين الأردن وتركيا، وفتح تركيا خط تواصل قوياً مع السودان وإثيوبيا، مع تعيينها سفيرها السابق في قطر سفيراً في إريتريا، بالإضافةِ إلى الدخول الروسي بقوة إلى الساحة الإثيوبية من خلال اتفاقية دفاع مُشتركة.
ورفع الطرف الصيني مستوى وجوده في جيبوتي وكينيا، واتساع النفوذ القطري والسعودي والمصري في السودان على حسابها، كانت كلها عوامل جعلت أبو ظبي تشعر بالعُزلة في الملف السوداني.
في هذا الملف، يبدو أن هناك اتفاقاً ضمنياً على تقاسم النفوذ في البحر الأحمر؛ بحيث لا تقترب أنقرة من ملف الموانئ واليمن، مقابل توسيع نفوذها في السودان وأداء دور الوساطة مع إثيوبيا، وغيرها من الأمور الأخرى.
في السياق، كانت هناك محاولة إماراتية لاستشفاف طبيعة التحرك التركي – القطري – الأردني حيال الملف السوري والبحر الأحمر ومشروع الشام الجديد.
وكانت هناك تطمينات تركية بالتشاور مع الجانب الإماراتي في حال حدث تطور بين الطرفين في الملفات الأخرى.
يظهر أن الأمر وكأنه حالة من التوافق بين الطرفين، غير أن السودان جغرافياً يقع ضمن استراتيجية “حرب الموانئ” التي تسعى من خلالها أبو ظبي إلى تعطيل حيوية موانئ المنطقة.
لذلك قد تستفيد أبو ظبي من اتساع نفوذ أنقرة نسبياً في السودان على حساب النفوذين السعودي والمصري، لكن لن يكون هناك توافق بين الطرفين، لخشية أبو ظبي من تولي أنقرة مشاريع تنمية موانئ السودان والدول المجاورة لها في البحر الأحمر.
2- الملف التونسي
لم تتعرض أبو ظبي لضغط دولي في إطار هذا الملف. وتولي أبو ظبي هذا الملف أهمية كبيرة لإحباط أي قصة نجاح أو أي نفوذ لحركة النهضة بالكامل، ومن ثم إخماد آخر بقعة حكم لتيار الإسلام السياسي في منطقة “الربيع العربي”.
من جانبها، التزمت أنقرة بحالة ضبطٍ للنفس بعد تحركات الرئيس التونسي قيس سعيد، في حل البرلمان.
تنتهج أنقرة حيال الملف التونسي استراتيجية إفراغ قيس سعيّد من السلطة عبر تنسيق موقفها مع الدول الداعمة له.
في ضوء هذه الاستراتيجية، طرحت أنقرة رغبتها في استمرار حالة الاستقرار في تونس دون اندلاع أزمات. وكذلك تُخطط أنقرة للتواصل مع الجانب الفرنسي، وطرح الأمر في سياق المُحادثات مع الجانب المصري.
أيضاً، لم تقطع أنقرة التواصل مع الجزائر التي عبرت لمصر عن رفضها القاطع لأي نفوذٍ مصريٍّ إماراتيٍّ في تونس.
ومن ثم يبدو واضحاً أن الملف التونسي سيمضي في إطار التنافس بين الطرفين.
3- الملف الأفغاني
كانت الإمارات تعتقد أن كابل ستبقى تحت سيطرة القوات الحكومية، ولذلك ربطت موقفها بالكامل بها. اليوم، تخشى الإمارات من تنامي الدورين القطري والتركي في أفغانستان بجانب الطرف الباكستاني وبقائها خارج المُعادلة.
ومن ثم ترغب الإمارات في تحقيق توازن قوي في أفغانستان، خشية تشكّل جبهة تركية – باكستانية –قطرية – كويتية – سعودية – أذربيجانية مُشتركة أو غير مُشتركة، وتبقى الإمارات خارجها.
لذلك تسعى الإمارات إلى الانخراط في ملف أفغانستان لتحقيق نفوذ مُشترك لا يعني التحالف مع تركيا، ولكن يعني تبادل أوراق، إذ تسعى الإمارات للسير في سياق محور فرنسي – هندي في أفغانستان، ليكون ذلك ملف صراع لا تطوله الهدنة بين الطرفين حتى بعد التصالح.
4- الملف السوري
لم تكن سوريا تمثل أهمية لطرفي الصراع التركي الإماراتي بادئ الأمر، ثم تنامى التنافس الجيوسياسي بين البلدين ليشمل سوريا في يناير/ كانون الثاني 2018.
في ذلك الوقت انتقدت أبو ظبي تركيا بشدة لتدخلها عسكرياً في منطقة عفرين التي يسيطر عليها الأكراد بعملية “غصن الزيتون” وكذلك عملية “درع الفرات”.
في حين تعاونت الإمارات مع الميليشيات الكردية في المجال العسكري، وبدأت أيضاً دعم شمال شرق سوريا في المجال الاقتصادي.
في هذا الملف ترى تركيا أن وجود عنصر عربي في شرق الفرات مهم بالنسبة لها لتحقيق توازن قوى ضد النفوذين الإيراني والروسي.
أبو ظبي عبرت عن رغبتها في تحقيق “تخادم استراتيجي” في هذا الملف، لكن بدون التطرق كثيراً لملف علاقاتها مع القوات الكردية، لأن أبو ظبي تخشى من توتر علاقاتها مع الإدارة الذاتية الكردية في شمال سوريا.
في المقابل تدرك أنقرة أن قطع أبو ظبي علاقاتها مع القوات الكردية لم يحدث، لذلك كان هدفها تخفيف حدة الصدام مع أبو ظبي في هذا الملف، والمُضي في حلقة من “التخادم الاستراتيجي”، أي إن الطرفين على صعيد استراتيجي سيبقى بينهما خلاف حول المسألة السورية.
لكن قد تمضي أبو ظبي في دعم أطراف عربية عسكرية وسياسية تحقق توازناً أمام القوات الكردية في منطقة شرق الفرات، وهو ما يخدم تركيا في الفترة الحالية على الأقل.
ميادين الهدنة
1- الملف الليبي
المعادلة في ليبيا: 1 لمصلحة تركيا وروسيا وقطر وإيطاليا وبريطانيا وألمانيا ومصر، وصفر أو بضعة أعشار لمصلحة الإمارات وفرنسا.
وقد كان الحديث في ليبيا عن المقاتلين الأجانب السوريين والروس والأفارقة. الجانب التركي والإماراتي لديهما رغبة جادة في تخفيف وطأة الصدام غير المفيدة، والمعطلة للحل.
الجانب التركي ليس لديه مشكلة في أي شخص يصل إلى رئاسة ليبيا بالانتخابات، لأن اتفاقياته المُبرمة مع حكومة الوفاق موثقة في الأمم المتحدة؛ حتى وإن لم يصدّق عليها البرلمان الليبي، إلا أنه يمكن العمل بها.
ومن ثم فالمطلوب بالنسبةِ للجانب التركي هو الدفع بحفتر وقواته نحو التعاون في هذا الملف وعدم إعاقته. لأن تركيا ستتخذ الإجراءات اللازمة مع الدول الفاعلة للتصدي لأي تعطيل، ولذلك تحتاج إلى هدنة وتوافق نسبي مع الإمارات في هذا الإطار.
الملف الليبي أصبح ملفاً سياسياً دولياً أكثر منه إقليمياً أمنياً، لذلك من المتوقع قبول أبو ظبي الهدنة في ليبيا.
2- ملف حوض المُتوسط
عندما ننظر إلى الظروف الجغرافية لأبو ظبي نجد أنها لا علاقة لها مع شرق البحر المتوسط من الناحية الجغرافية، لكنها ترى أن حوض المتوسط ورقة مهمة للضغط على أنقرة بصورةٍ كبيرة.
وفي ضوء ذلك، دعمت أبو ظبي الجانبين اليوناني والقبرصي اليوناني في الخلاف مع تركيا ضمن حوض المُتوسط، كذلك حاولت أبو ظبي دفع السلطة الفلسطينية إلى اتخاذ مواقف سياسية مناوئة للمصلحة التركية.
في هذا الملف، تحركت الإمارات للتوسط خلف الكواليس بين أنقرة وتل أبيب، وترغب في تنحية هذا الملف من سياق الصدام، وعلى الأرجح سيهدأ الطرفان نسبياً بحسبان أن الصراع سيهدأ نسبياً في ليبيا بضغطٍ أمريكي وسعيٍ دولي عام.
الخاتمة
يدرك الطرفان أن حالة التوتر والاتهامات المتبادلة لم تجدِ نفعاً بعد عدة سنوات من القطيعة، بل أصبح الطرفان على قناعة تامة أن التعاون في الملفات العالقة بينهم أكثر بكثير من التصادم أو الاستمرار في حالة من التوتر غير المفيدة.
ومن الواضح أن الطرفين يحملان النية لتحقيق “تخادم استراتيجي” أو “تبادل أوراق” في المرحلة الحالية.
وذلك يعني أنهما سيُجريان تحركات مُنفصلة في عدة ملفات تنافس، وقد يخدم كل منهما مصالح الآخر، لكن بدون تحرك مُشترك أو تحالفي.
وفي ضوء ذلك، ستبقى هناك خلافات استراتيجية بين الطرفين في الوقت الحالي، لكن الطرفين سيسعيان للسير ضمن مسار تنافس مُتجنباً النهج الصلب.