على مدار سنوات تدخلها العسكري العدواني في اليمن، استثمرت دولة الإمارات خطاب دعم الشرعية في إطار التحالف بهدف بناء نفوذ مباشر وتأسيس منظومة عسكرية موازية، والتحكم في الموانئ والموارد، والعمل على تفكيك بنية الدولة اليمنية.
ومنذ دخول الإمارات الحرب عام 2015 تحت مظلة “استعادة الشرعية”، أثبت سلوك أبوظبي سريعًا أن شعاراتها لا تعكس أهدافها الفعلية وأنها مشروع نفوذ على الأرض لا يعرف حليفًا.
وقد شهدت حضرموت مطلع ديسمبر الجاري تحولًا استراتيجيًا غير مسبوق في مسار الحرب اليمنية، بتنفيذ قوات المجلس الانتقالي الجنوبي المدعومة إماراتيًا عملية خاطفة في سيئون، والسيطرة على مرافقها الحيوية خلال ساعات.
وشكلت الخطوة تحديًا مباشرًا للحكومة اليمنية، وانتهاكًا واضحًا لاتفاقات التهدئة التي رعتها السعودية وإعلانًا عمليًا عن مرحلة جديدة من رسم الخرائط في جنوب اليمن، وتهيئة صريحة لواقع انفصالي تديره أبوظبي دون مواربة.
تفكيك الشرعية عبر بناء ميليشيات بديلة
جاءت عملية سيئون استكمالًا لسلسلة عمليات مشابهة منذ 2017. فقد أنشأت الإمارات تشكيلات مسلّحة خارج إطار مؤسسات الدولة: الحزام الأمني، النخبة الحضرمية، النخبة الشبوانية، ألوية العمالقة، وقوات المقاومة الوطنية.
إذ أن هذه القوات لم تُبنَ ضمن استراتيجية توحيد الجيش أو مواجهة الحوثيين، بل عملت كقوة موازية، تتمتع بالتمويل والتسليح والقرار من أبوظبي.
وما حدث في حضرموت تكرر في عدن وسقطرى وشبوة. في كل مرة كان الاستهداف موجّهًا نحو الجيش الوطني والمؤسسات الحكومية، وليس نحو الحوثيين.
وكشف هذا النمط أن الإمارات كانت تنقل مركز الثقل العسكري من الدولة إلى الوكلاء المحليين لضمان نفوذ طويل الأمد في الجنوب، بغضّ النظر عن تأثير ذلك على وحدة اليمن أو شرعية حكومته.
حضرموت… المحافظة التي تُحسم عندها موازين القوة
تُعد حضرموت أكبر محافظات اليمن مساحة، وتمتلك ثروات هائلة، وسواحل واسعة، وحدودًا طويلة مع السعودية. السيطرة عليها تعني ربح أكبر ملف جيوسياسي في الجنوب. ولذلك أصبحت هدفًا مشتركًا بين الإمارات والسعودية، كل عبر وكلائه.
ووجود قوات المنطقة العسكرية الأولى التابعة للحكومة حال طويلًا دون سيطرة الانتقالي عليها. ومع قرار أبوظبي قلب موازين السيطرة، جرى تنفيذ عملية “المستقبل الواعد” التي انتهت بسيطرة كاملة على المدينة ومرافقها.
بهذا التحول، بات الانتقالي يحكم أغلب محافظات الجنوب: عدن، لحج، الضالع، أبين، شبوة، سقطرى، وحضرموت. وهو توسع لم يكن ممكنًا دون دعم إماراتي مباشر.
والنتيجة العملية هي فرض واقع تقسيمي لا يخضع لإرادة الدولة اليمنية، وإنما لإرادة قوة إقليمية تمتلك مشروعًا يمتد خارج حدود اليمن، ولا تكترث لنتائجه السياسية أو الأمنية على البلد المنهك.
انقلاب تدريجي على أهداف التحالف
دخلت الإمارات الحرب ضمن تحالف تقوده السعودية بهدف مواجهة الحوثيين. لكن بدءًا من 2017، انحرف سلوكها عن أهداف التحالف.
وقد استثمرت أبوظبي الفوضى لبناء نفوذها، ومنعت الحكومة من العودة إلى عدن، وسيطرت على مطارات وموانئ، وحوّلت منشأة بلحاف الغازية إلى قاعدة مغلقة، وفرضت تغييرات على قيادات أمنية وعسكرية يمنية.
وفي 2018 و2019 ظهر الانقلاب العلني. دعمت تمرد المجلس الانتقالي في عدن، ثم نفذت غارات جوية ضد القوات الحكومية خلال محاولتها استعادة المدينة، ما أدى إلى عشرات القتلى.
وفي سقطرى، أشرفت على إسقاط مؤسسات الدولة وتسليمها للانتقالي. كل هذه التحركات جرت بينما كانت الإمارات في الظاهر جزءًا من تحالف “دعم الشرعية”، وفي الواقع تبني سلطة بديلة على الأرض.
البعد الاقتصادي… المحرك الأكثر وضوحًا
شكلت المصالح الاقتصادية المرتكز الأساسي للاستراتيجية الإماراتية. عملت أبوظبي منذ البداية على السيطرة على الموانئ اليمنية: عدن، المخا، سقطرى، ومحاولة الحديدة. وأعاقت تشغيل منشآت الغاز في بلحاف لأسباب تتعلق بالتحكم في الممرات البحرية وخطوط التجارة.
أما السيطرة على المطارات، مثل مطار الريان، فلم تكن إجراءً أمنيًا بل جزءًا من تحويل البنية اللوجستية اليمنية إلى شبكة نفوذ اقتصادية تستخدمها الإمارات في إدارة نفوذها الإقليمي.
وأكد هذا السلوك أن هدف الإمارات لم يكن دعم الاستقرار بل ضمان السيطرة على الموارد والمنافذ البحرية والانفراد بعقود الاستثمار المستقبلية.
وبموازاة ذلك أظهرت الأزمة اليمنية أن التحالف لم يعد إطارًا موحدًا. السعودية تفاوض الحوثيين لوقف الحرب، فيما تدفع الإمارات وكلاءها لتكريس واقع تقسيمي.
وفي حضرموت تنافس الطرفان بشكل مباشر: الرياض عبر “درع الوطن”، وأبوظبي عبر “الانتقالي”. النتيجة كانت فراغًا أمنيًا وتحولات ميدانية لا تخدم الدولة اليمنية.
وقد جعل هذا التناقض اليمن ساحة صراع نفوذ بين دولتين يفترض أنهما حليفتان. وفي كل مرة تُقدّم الإمارات نفسها كشريك استراتيجي، لكنها تتصرف كقوة منفردة تسعى إلى توسيع مساحة سيطرتها حتى على حساب علاقة التحالف ذاته.
ويظهر كل ذلك أن الإمارات لم تعمل على استعادة الدولة اليمنية، ولم تُعطِ الأولوية لمواجهة الحوثيين بل ركزت جهودها على بناء قوة موازية داخل الجنوب، والاستحواذ على الموانئ والموارد، وتمكين وكلائها من السيطرة على المحافظات، وتوجيه الصراع نحو مواجهة مع الشرعية بدل الانقلاب.
وما حدث في سيئون هو تتويج لمشروع نفوذ بدأ منذ سنوات لا يعترف بالشرعية، ولا بالشراكة، ولا بالتحالف بل يقوم على تفكيك اليمن إلى مناطق نفوذ، وإعادة الهندسة السياسية بما يتوافق مع مصالح أبوظبي، حتى لو أدى ذلك إلى إطالة الحرب وتقويض الدولة نهائيًا.
