تتوالى المؤشرات التي تكشف عن تصعيدٍ لافت في نشاط الشبكات المرتبطة بالإمارات في أوروبا، في سياق حملة نفوذ منظمة تستهدف الجاليات المسلمة، والجماعات المناهضة للإسلاموفوبيا، والأحزاب اليسارية الداعمة لحقوق الفلسطينيين.
وبرز آخر فصول التصعيد الإماراتي في فرنسا، عندما اتهم زعيم حزب فرنسا الأبية (LFI) جان لوك ميلانشون أبوظبي بالوقوف وراء حملات تشويه ممنهجة تستهدف حزبه، على خلفية استطلاع رأي مثير للجدل حول المسلمين في فرنسا.
وكتب ميلانشون، المعروف بمواقفه المعادية للتطرف اليميني والداعمة للقضية الفلسطينية، على مدونته أن حزبه أصبح “هدفًا للإمارات”، معتبرًا أن الهجمات التي يتعرض لها ليست سوى جزء من عملية تأثير خارجية تهدف لتشكيل الرأي العام الأوروبي وصناعة سردية تربط الإسلام – وخاصة الإخوان المسلمين – بالتهديدات الأمنية، بما يخدم مصالح أبوظبي وتحالفاتها الإقليمية.
استطلاع رأي مثير: أداة لتغذية الإسلاموفوبيا
بدأت شرارة الأزمة عندما قدّم حزب فرنسا الأبية شكوى قضائية ضد استطلاع رأي أعدّه المعهد الفرنسي للرأي العام (IFOP) لصالح مجلة إكران دو فاي، وهي منصة إعلامية مرتبطة – بحسب التقارير – بحملة تشويه إماراتية تستهدف المسلمين في أوروبا.
وتحدث الاستطلاع عن “ظاهرة إعادة أسلمة” وعن “تنامي الالتزام بالأيديولوجية الإسلامية”، وهي صياغات اعتبرتها منظمات إسلامية متحيزة وعدائية وتغذي خطاب الكراهية.
اللافت أنّ الحزب أكد في شكواه أن الاستطلاع تحوّل إلى منصة للتحريض والتمييز، وأنه أعقب نشره تسجيل العديد من الحوادث المعادية للإسلام، الأمر الذي فتح باب التساؤل حول الجهات التي تقف خلف إنتاج مثل هذه المواد التحريضية.
خيوط شبكة تأثير إماراتية في الإعلام الأوروبي
تتبع وسائل إعلام فرنسية وبريطانية مسار التمويل والعلاقات التي تحيط بمنصة إكران دو فاي كشف عن صلات مقلقة مع شبكة نفوذ مرتبطة بالإمارات.
إذ تبيّن أن المجلة مملوكة لمؤسسة Global Watch Analysis (GWA)، التي تبني خطابها على مهاجمة الإسلام السياسي، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين – وهي الجماعة التي تعتبرها أبوظبي عدوًا سياسيًا وفكريًا.
المثير للاهتمام أن رئيس تحرير GWA، أتمان تازغارت، كان على صلة بحسابات بريد إلكتروني مرتبطة بعميل إماراتي سابق عمل ضمن عمليات تأثير قوية نفذتها شركة الاستخبارات السويسرية Alp Services لصالح أبوظبي.
وقد كشفت تحقيقات إعلامية أن هذه الشركة تجسست على أكثر من ألف شخص ومئات المنظمات في أوروبا، وقدمت تقارير مفبركة تربطهم بالإخوان المسلمين، قبل تمريرها إلى أجهزة الأمن الإماراتية التي بدورها سخّرت هذه البيانات في حملات إعلامية للتشهير بهم.
وتشير التحقيقات إلى أن حزب فرنسا الأبية نفسه كان ضمن 200 شخصية و120 مؤسسة جرى تصنيفها عبر تقارير تلك الشبكات على أنها “مرتبطة بالإخوان”.
اختراق مؤسسات الدولة؟
حذر الحزب في شكواه من تسلل شبكة نفوذ إماراتية إلى المؤسسات الفرنسية، وخاصة اللجان البرلمانية. وقد ظهر ذلك بوضوح مع استدعاء شخصيات من إكران دو فاي للإدلاء بشهاداتهم أمام لجنة تحقيق حول “التسلل الإسلامي”.
غير أن شهادات مسؤولي المخابرات الفرنسية نسفت تلك الاتهامات تمامًا، وأكدت عدم وجود روابط بين LFI والإسلاميين.
بل إن رئيس اللجنة البرلمانية نفسه – وهو نائب يميني – اعترف بأن اللجنة لم تجد أي دليل على روابط مالية أو هيكلية بين الحزب وأي منظمة إسلامية.
لكن ميلانشون ذهب أبعد من ذلك، متسائلًا: لماذا يتم استدعاء صحفيين مرتبطين بشبكات تمويل مشبوهة إلى لجنة تحقيق حول الإسلاميين، بينما يتم تجاهل التدخل الخارجي الإماراتي؟ واعتبر أن ما يجري يهدف إلى تصعيد مواجهة سياسية ضد قطر واستهداف أي جهة تنتقد السياسات الإماراتية أو الإسرائيلية.
استهداف النواب المؤيدين لفلسطين
لم يقتصر الأمر على حرب السرديات؛ فقد طالت الحملات شخصيات سياسية معروفة بمواقفها الداعمة للفلسطينيين، مثل النائب كارلوس مارتنز بيلونغو، الذي كان عرضة لتحقيق بتهم التهرب الضريبي وغسل الأموال، مستندًا إلى تقارير من وحدة الاستخبارات المالية Tracfin. لكن المفاجأة أن النيابة العامة أسقطت القضية لاحقًا بعد ثبوت عدم صحتها.
وكشفت التحقيقات الصحفية أن تقرير Tracfin كان مليئًا بأخطاء “يصعب تفسيرها إلا إذا كانت متعمدة”، أثارت شبهات بأن الضغوط الإماراتية لعبت دورًا في تضخيم الملف. بيلونغو نفسه قدّم شكوى ضد مجهولين بتهمة “التواطؤ مع قوة أجنبية”.
وتشير تقارير عديدة خلال السنوات الأخيرة إلى تحالف غير معلن بين الإمارات وأطراف يمينية أوروبية لشيطنة الإخوان المسلمين، وربط الإسلام بالتهديد الأمني داخل أوروبا وهو أمر يتقاطع مع أجندات الأحزاب اليمينية المتطرفة.
وتشير تحقيقات ميديا بارت إلى أن حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف في فرنسا حصل عبر بنك إماراتي على قرض بقيمة 8 ملايين يورو، أنقذه من أزمته المالية عام 2017، ما أثار تساؤلات حول علاقة الحزب بمحاور النفوذ الخارجية.
ورغم أن البرلمان الفرنسي أجرى عام 2023 تحقيقًا حول التدخلات الأجنبية، فإن التقرير تجاهل بشكل لافت أي حديث عن عمليات التأثير الإماراتية أو الإسرائيلية، رغم أن الأدلة المنشورة في الإعلام تشير إلى نشاط محموم لكلا الطرفين ضمن شبكات ضغط قوية.
وتكشف هذه الأحداث عن دخول أبوظبي مرحلة جديدة في حروب النفوذ داخل أوروبا، حيث تستخدم منصات إعلامية ومراكز بحثية ووكالات استخبارات خاصة وشبكات ضغط يمينية إلى جانب تمويلات مظلمة لبناء سردية سياسية تخدم مصالحها الإقليمية، عبر شيطنة الإسلام السياسي، واستعداء الجاليات المسلمة، وضرب خصومها السياسيين وخاصة داعمي فلسطين.
