لا يعبر رفع دعاوي قضائية بتهمة التعذيب وجرائم الحرب ضد مسئول دولة، سوى عن حجم المكانة المنبوذة التي وصل إليها هذا المسئول وهو ما يعبر بوضوح عن حالة ولي عهد أبوظبي الحاكم الفعلي للإمارات محمد بن زايد الملاحق قضائيا.
في 17 يوليو/تموز 2020 الماضي تم الإعلان قبول دعوى أقامها 6 مواطنين يمنيين أمام المحكمة العليا في باريس في أكتوبر /تشرين الأول 2019، اتهموا فيها بن زايد بالتواطؤ في عمليات تعذيب في سجون سرية تشرف عليها الإمارات باليمن.
ويحق للقضاء الفرنسي، بموجب مبدأ الوكالة القضائية الدولية، التحقيق في الجرائم والانتهاكات ومقاضاة المتهم إذا كان على التراب الفرنسي، وهو ما يخشاه بن زايد المتهم بالتورط في عمليات تعذيب باليمن، إثر فتح القضاء الفرنسي التحقيق في الدعوى القضائية المرفوعة بحقه.
ووفقا لما نشرته الوكالة الفرنسية، فإن قاضيا في فرنسا كلف بإجراء تحقيق حول مدى تورط ابن زايد في أعمال تعذيب في اليمن، ونقلت الوكالة عن محامي الادعاء جوزيف بريهام أن موكليه “يرحبون بفتح تحقيق ويعلقون آمالا كبرى على العدالة الفرنسية”.
كان بن زايد قد أجرى عدة زيارات لفرنسا، كان آخرها في نوفمبر/تشرين الثاني 2017، في حين ألغى زيارة مهمة كانت مقررة في أكتوبر/تشرين الأول 2018، وذلك لأمر استجد عليه، بحسب تعبير قصر الإليزيه، في وقت يربطها متابعون بالدعاوى القضائية المرفوعة ضده منذ أكثر من عامين.
تحقيق قضائي
ونقلت المنظمة الحقوقية الدولية “هيومن رايتس ووتش”، عن مدير المنظمة كينيث روث، قوله: إن “ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد متهم بالإشراف على التعذيب في اليمن”.
ورحبت المحامية ورئيسة قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالمنظمة سارة ويتسون، بفتح تحقيق قضائي بشأن ضلوع ابن زايد في جرائم التعذيب باليمن، وقالت ويتسون في تغريدة على تويتر: “إنه لا مزيد من القصور والرحلات الفارهة لمحمد بن زايد إلى باريس”.
الدعوى بتورط ابن زايد المحتمل سبقتها دعوى مماثلة، بتورط الإمارات أيضا بتجنيد مرتزقة بينهم فرنسيون لتنفيذ عمليات اغتيال في اليمن.
وفي مارس/آذار 2019، رفع مكتب أنسيل للمحاماة، وهو مكتب فرنسي مختص في القانون الدولي، دعوى قضائية في محكمة باريس ضد الإمارات ومجموعة ممن سماهم المرتزقة، بينهم فرنسيون، تم تجنيدهم لاغتيال مدنيين وناشطين وسياسيين وأئمة في اليمن.
وقال المحامي الفرنسي جوزيف بريهام: إنه بعد أشهر من جمع أدلة وقرائن تثبت تورط الإمارات بشكل مباشر في تجنيد مئات المرتزقة الأجانب، بينهم 9 جنود سابقين، عملوا ضمن الفيلق الفرنسي الأجنبي ويحمل بعضهم الجنسية الفرنسية، تم رفع الدعوى أمام المحكمة العليا في باريس.
وكشفت صحيفة “لوموند” الفرنسية، أن شركة توتال الفرنسية النفطية تم استخدامها كغطاء لسجن سري أنشأته الإمارات منتصف عام 2017 في جزء من حقل للغاز الذي تشرف على تشغيله الشركة النفطية الفرنسية جنوبي اليمن.
ويقع السجن الإماراتي في قاعدة عسكرية أقامها الإماراتيون في مقر الشركة بحقل الغاز في مدينة بلحاف التابعة لمحافظة شبوة جنوبي اليمن.
ولم تمنع الشركة الفرنسية القوات الإماراتية من إنشاء السجن السري، كما لم تقم بواجبها في الإبلاغ عن أي انتهاكات لحقوق الإنسان في هذا السجن السري، رغم ورود عدة تقارير دولية كشفت عن انتهاكات بحق الإنسانية ترتكب في سجن بلحاف.
وسبق لوكالة أسوشيتد برس الكشف عن أن الإمارات أنشأت سجونا سرية وأشرفت على عمليات التعذيب فيها، من بينها سجن في مقر شركة توتال في منطقة بلحاف النفطية بمحافظة شبوة.
دعم عسكري
علاوة على ذلك، تتهم منظمات حقوقية دولية فرنسا بدعم التحالف بأسلحة تم استخدامها في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وحسب منظمة العفو الدولية، فإن فرنسا باعت عتادا عسكريا بقيمة تتجاوز 7.5 مليارات يورو للتحالف الذي تقوده الرياض وأبوظبي منذ بداية الصراع في اليمن.
وأضافت المنظمة الدولية أن فرنسا خلال الأعوام الخمسة الماضية، (سنوات الحرب في اليمن)، كان نصيبها 7.9 بالمائة من جميع الأسلحة المباعة في العالم، لتصبح أكبر مصدر للسلاح في العالم، بفضل صديقتها السعودية، بحسب تعبير المنظمة.
وتابعت المنظمة أن السعودية أصبحت عميل فرنسا الأول في شراء الأسلحة، حيث اشترت منها بقيمة 6 مليارات يورو معدات عسكرية، في حين اشترت منها الإمارات بقيمة 1.5 مليار يورو، مع أنها (فرنسا) صدّقت على معاهدة تجارة الأسلحة، والتي تنص في مادتها السادسة على حظر عمليات نقل الأسلحة إلى الدول عندما تعلم أنها ستستخدم في جرائم الإبادة الجماعية أو الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم الحرب الأخرى.
وقالت المنظمة: إن وزيرة الجيوش الفرنسية فلورنس بارلي التزمت عام 2019 أمام البرلمان بوقف توريد بعض الأسلحة إذا كان هناك خطر جراء استخدامها في انتهاكات حقوق الإنسان، لكن فرنسا لم تلتزم بذلك رغم الأدلة الدامغة على ارتكاب جرائم حرب في اليمن بحسب منظمة العفو الدولية.
كان تقرير صدر عن الأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2019، قد اتهم فرنسا بالتورط في جرائم حرب في اليمن، عبر تسليح التحالف العسكري بقيادة السعودية، وتقديم الدعم الاستخباراتي له.
وطالبت 16 منظمة حقوقية، فرنسا بتوضيح موقفها بشكل علني تجاه الاتهامات باستخدام الأسلحة الفرنسية في جرائم حرب في اليمن.
ووفقا لمنظمة هيومن رايتس ووتش، فإن بيان المنظمات الحقوقية أتى بعد تقارير أشارت إلى مشاركة السفن الحربية الفرنسية الصنع في تنفيذ حصار في اليمن، أسهم بشكل كبير في تفاقم الأزمة الإنسانية.
وطالبت المنظمات التي أصدرت البيان بتوقف فرنسا عن بيع الأسلحة للسعودية والإمارات بشكل فوري، وذلك لإيقاف جرائم الحرب التي تنتهك بحق المدنيين في اليمن، تماشيا مع توصيات خبراء الأمم المتحدة.
ملف معقد
ويقول توفيق الحميدي، رئيس منظمة سام للحقوق والحريات ومقرها جنيف: “يعد موضوع المساءلة الجنائية في جرائم انتهاكات حقوق الإنسان في اليمن من أشد الملفات تعقيدا وحساسية لارتباطه بمصالح اقتصادية وشخصيات سياسية، ومع ذلك فهو طريق غير مغلق وليس مستحيلا إلا أنه شاق”.
يضيف الحميدي: “أعتقد أن تجاوب القضاء الفرنسي مع شكوى الضحايا اليمنيين الستة التي قدمت عام 2018، وقبلت المحكمة رفعها في 2019، تطور إيجابي في هذا الطريق، وذلك بتعيين قاضي تحقيق في الشكاوى المرفوعة ضد ابن زايد، وخطوة متقدمة في طريق المساءلة الجنائية، وقد أرسلت رسائل واضحة بأن منتهكي حقوق الإنسان في اليمن أصبحوا في مرمى المساءلة القضائية التي لن ينجو منها أحد”.
يتابع الناشط الحقوقي: “أعتقد أن وجود كثير من التقارير الحقوقية، سواء الصادرة من منظمات محلية أو من لجان دولية، ستشكل أرضية قانونية صلبة ضد مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان”.
ويسترسل رئيس منظمة سام: “قيمة الدعوى من الناحية الأخلاقية والفلسفية كبيرة على المدى القريب والبعيد، فهناك ضحية ضعيف في مواجهة حاكم دولة يمتلك كل أسباب القوى، إضافة إلى أن هذه الدعوى تعد صفحة سوداء قاتمة، ستضاف إلى تاريخه، وسوف يكتب كمجرم حرب خاض نزاعا قضائيا جنائيا في جرائم ارتكبها”.
يختم الحميدي: “المعركة متعددة الجوانب مع إدراكي لمشقتها إجرائيا، حيث ستدخل منعطفا خطيرا متعلقا بالمسار القضائي بين النيابة العامة والقضاء الفرنسي، حيث تعارض النيابة العامة الفرنسية بالمجمل فتح هذا التحقيق بذريعة وجود حصانة لرؤساء الدول، ومن ثم ستذهب لمحكمة الاستئناف، وربما محكمة النقض”.
المسؤول الفعلي
ويؤكد الناشط الحقوقي محمد الأحمدي، أن “فتح تحقيق قضائي في فرنسا ضد شخص محمد بن زايد، بخصوص ضلوعه في جرائم التعذيب في اليمن، خطوة مهمة لمحاسبة الإمارات ومسؤولي دولة الإمارات على جانب من جرائمهم في اليمن، وهي الجرائم التي مارسوها طوال السنوات الماضية، ناقلين معها تجربة القمع الرهيب من الإمارات لليمن، وسط مناخ موات للإفلات من العقاب”.
ويضيف: “كان الإماراتيون في الحقيقة يهدفون إلى أمرين: الأول فرض سلطة قمعية في المناطق المحررة تعمل على مصادرة حقوق الناس وامتهان الكرامة الانسانية، والأمر الآخر إشاعة مناخ من الرعب والإرهاب ضد ضحايا جرائم الإمارات والأدوات المحلية التي تعمل بالوكالة للإمارات، بحيث يتسنى للإمارات تمرير مشاريعها في اليمن دون وجود أي أصوات تعترضها”.
ويتابع الأحمدي: “لكن الذي حدث أن الضحايا اليمنيين كسروا حاجز الصمت وعبروا عن رفضهم لجرائم الإمارات، وذهبوا لتوكيل محام في العديد من الدول، ونجحوا في انتزاع اعتراف قضاء دولي، أو بالأصح، بعض الأقضية الدولية، لمحاسبة المسؤولين الإماراتيين بمن فهيم ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد”.
وعن طبيعة المسؤولية القانونية التي يتحملها ابن زايد يقول الكاتب والناشط الحقوقي: “محمد بن زايد، هو نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، وهو القائد الفعلي للقوات التي أرسلت لليمن لارتكاب طائفة من الجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، هذه واحدة من الجرائم، وفق مبادئ القانون الدولي الإنساني”.
صراع العدالة
يتابع الناشط الحقوقي: “بناء على ذلك استحق ابن زايد فتح تحقيق في تورطه بضلوعه في هذه الجرائم، بحكم مسؤوليته الجنائية، على أساس تسلسل المسؤولية الإدارية، فهو يتحمل مسؤولية ارتكاب جرائم تعذيب في اليمن، ناهيك أن الاشراف على جرائم التعذيب بحسب شهادات بعض ضحايا الناجين من السجون السرية أكدت بأن المحققين والضباط الإماراتيين كانوا هم من يمارسون التعذيب بأنفسهم ويشرفون على عمليات التعذيب”.
لكن إلى أي مدى يمكن تحقيق مخرجات هذا التحقيق في حال ثبتت التهمة ضد ابن زايد ومحاسبته، يقول الأحمدي: “هذه خطة أولى وأعتقد أن الطريق سيكون طويلا، تتصارع فيه إرادة الضحايا والأحرار من أجل العدالة وبين الأموال والمصالح أيضا، لا يمكن لأحد التنبؤ بهذا الأمر، لكن أعتقد أن الشكاوى الدولية ضد محمد بن زايد ستسبب صداعا وستزعجه، وستلحق به سمعة دولية سيئة، حتى وإن استطاع أن يضخ أموالا من أجل إيقاف التحقيق أو تحويل مساره”.
يتابع الأحمدي: “للأسف هناك قصور في الإرادة الدولية لمحاسبة مرتكبي جرائم حقوق الإنسان لأسباب تتعلق بحسابات سياسية لبعض القوى والفاعلين الدوليين، ولطغيان لغة المصالح على منطق العدل والقانون، على الأقل في عدد من المواقف، لكن باعتقادي أن وصول أصوات الضحايا إلى المحاكم الأوروبية وقبول قاض بفتح تحقيق في هذه الجرائم وتحميل مسؤولية جنائية لولي العهد محمد بن زايد، هذا بحد ذاته انتصار مبدئي للعدالة، وخطوة جيدة باتجاه محاسبة مرتكبي الجرائم، سوف تؤتي ثمارها لاحقا”.