تملك الإمارات سجلا أسودا في قيادة ودعم الثورة المضادة في مواجهة الربيع العربي في عدد من الدول العربية وذلك بعد ست سنوات عجاف من انطلاق الثورات.
وخلال تلك السنوات لعبت عواصف الدماء والجراح بحواضر عربية عريقة وكتب الدم فصولا مأساوية، ثأرا من الربيع العربي الذي انطلق عام 2011 من تحت ركام كثير من المظالم السياسية والاجتماعية والإحباطات التي تراكمت على الشباب العربي في أكثر بلدانه.
في الربيع العربي تعثرت المسيرة وتطايرت الأوراق وتعارضت الأهداف والمسارات، فأخذت الثورة المضادة الزمام وعادت الأنظمة المطاح بها من جديد إلى الواجهة، واستطاعت أنظمة أخرى تحصين ذاتها بأسوار أكثر عنفا وقساوة من الواقع الذي أنبت ربيع العرب.
ورغم أن الربيع العربي بات التاريخ المنقوم عليه في الإعلام الرسمي وفي كثير من الخطابات السياسية الرسمية وغير الرسمية، فإنه لا يزال يطل برأسه من تحت الركام ويقض مضاجع الثورة المضادة التي يبدو أنها هي الأخرى شاخت في المهد وبدأت تواجه عواصف متعددة من كل النواحي.
سنوات الجمر
استطاعت الثورات المضادة تدمير زهر الربيع العربي وتحويله إلى شقائق نعمان دامية في سوريا واليمن وليبيا ومصر، وتم القضاء عليه باكرا في بلدان أخرى منها الجزائر والعراق والسودان وموريتانيا، بينما انحنى المغرب للعاصفة الثورية منجزا بذلك جزءا من الاستثناءات المغربية عبر مسار توافقي شاركت فيه مختلف أطراف المشهد السياسي.
وبقيت سوريا تواجه الأمرين بين نيران متعددة المصادر متعارضة الاتجاهات، كتبت فصلا داميا في أم المدائن دمشق وبناتها المحروقات بلهب الرصاص المتدفق.
سنة واحدة بعد انطلاقة الربيع العربي عام 2011، بدأت الثورة المضادة تلملم أوراقها وتستعيد قوتها في المنطقة، منطلقة من منصات دعم ورعاية أبرزها المنصة السعودية والإماراتية. ووصلت هذه الثورة إلى ذروة نجاحها بعد الإطاحة بالرئيس المصري المنتخب محمد مرسي ورميه في غيابات جب عميق، دخلت معه أرض الكنانة في نيل آخر من الدماء، وبدأ التراجع يغزو كل بلدان الربيع.
في سوريا الأسد تجمعت ضباع الأزمات على جسد الأرض السورية، وسعت الثورة المضادة وظهيرها الإقليمي والدولي لتحويل سوريا إلى مقبرة لحُلم الحرية والتحرر، وحدثت أبرز التحولات في مسار الثورة بعد التدخل العسكري الروسي ميدانيا مطلع العام 2016، بالتزامن مع تراجع الدعم الإقليمي لقوى الثورة.
وفي اليمن مزقت نيران الثورة المضادة مهد العرب مرتين؛ حين انقلبت على نتائج الثورة على يد الحوثيين وبتشجيع ودعم من السعودية والإمارات كما أكدت ذلك مصادر إعلامية متعددة، ومرة أخرى حين حولت عاصفة الحزم وأخواتها اليمن السعيد إلى أكثر بلد مجاعة وشقاء في العالم، وفق بيانات الأمم المتحدة.
تآكل الثورة المضادة
لم تنج الثورة المضادة من أمراض الربيع العربي وانتقلت إليها هي الأخرى عدوى التفكك، ورغم الزخم الهائل الذي وجدته مع صعود ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وتحالفه مع أستاذه ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد، فإن مجاديفهما كانت تحمل بذورا كثيرة للانهيار.
وفيما يلي بعض المؤشرات الدالة على حالة التراجع والتآكل التي تعيشها الثورة المضادة بعد سنوات من المد والصعود:
– دماء خاشقجي: لا شك أن مقتل الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية مثل حدثا مفصليا له ما بعده، وربما يعيد ترتيب أحلاف ومحاور المنطقة من جديد في ظل ضغط الرأي العام الغربي بشكل قوي لمعاقبة قتلة خاشقجي، وهو ما أدى إلى “صحوة الضمير” بين عدد من سياسيي الغرب الذين دأبوا على دعم ولي العهد السعودي مخافة أن تشملهم لعنة التواطؤ مع القتلة.
وقد حولت هذه الأزمة أحد أبرز وأهم عرابي الثورة المضادة ولي العهد السعودي خلال شهرين لا أكثر من مقتل خاشقجي؛ من زعيم حداثي يراهن عليه الغرب لحماية مصالحه في الشرق، إلى المشتوم الأول على صفحات الصحف الغربية في مختلف دول العالم، ومن بينها صحف تمثل لوبيات وأقطابا كانت تراهن على محمد بن سلمان ويراهن عليها. ومع انهيار وجهه السياسي انهارت أيضا أوجه كثيرة من الرفاه الذي بَشَّر به السعوديين.
– سمعة الإمارات: قد يكون ولي عهد أبو ظبي وحلفاؤه نجحوا في ضرب الربيع العربي، ولكن الثمن كان باهظا، إذ تحولت الإمارات إلى قوة احتلال في اليمن بالنسبة لكثيرين، وجأر كثير من كتاب وساسة ومثقفي العرب رفضا واستنكارا لما قالوا إنها محاولات للتدخل في الشؤون الداخلية لأوطانهم من الإمارات. وصار اسم البلد يرتبط في أذهان الكثيرين بالعلاقة الوثيقة مع إسرائيل، وانتقلت عداوتهم مع الإسلام السياسي إلى مواجهة مع الإسلام كما يقول كثيرون.
وفي المجال العام قد تكون خسارة الصورة أفدح ثمن يدفعه السياسي، لأن ترميمها قد لا يتأتى بتلك السهولة، خصوصا مع الحراك الذي بدأت تشهده دول غربية ضد سياسات إماراتية مثيرة للغط.
فقد تظاهرت منظمات في باريس ضد زيارة ابن زايد إلى فرنسا، ورفعت أخرى دعاوى ضده على خلفية حرب اليمن، وذكر موقع “ديلي بيست” إن المدعي الأميركي الخاص روبرت مولر سيركز في المرحلة الثانية من تحقيقاته بشأن الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي دونالد ترامب على علاقة الحملة بشخصيات إماراتية وسعودية وإسرائيلية.
– نزيف الإمارة: ينضاف إلى ذلك الأزمة الاقتصادية التي ضربت دبي وجعلتها تتراجع اقتصاديا بشكل غير مسبوق، بعد أن كانت البوصلة الاقتصادية للخليج. وكان للحصار على قطر أثر عكسي على الاقتصاد الإماراتي، خصوصا ما يتعلق باقتصاد إمارة دبي التي بدأت تنزف ببطء وتوشك أنوار أبراجها المتلألئة على الانطفاء، وفقا لما ورد في تقرير مطول عن افتقاد الإمارة الخليجية بريقها بعد انخراطها في الصراعات السياسية، نشرته هذا الأسبوع وكالة بلومبيرغ الأميركية.
– الثورة التي تلتهم أبناءها: وفي مصر أكلت الثورة أبناءها أكثر من مرة، وتفكك الحلف الذي تجمع من أجل الإطاحة بحكم الرئيس المعزول محمد مرسي، بل تحوّل بعض عناصره إلى سجناء ينتظرون عدالة السيسي.
وكان العام 2018 شاهدا على الزج بقادة ومشاهير من غير رموز جماعة الإخوان المسلمين في السجون المصرية، بينهم رئيس الأركان الأسبق سامي عنان، ورئيس جهاز المحاسبات السابق هشام جنينة، في تحول كبير في نوعية ومسار مسلسل الاعتقالات الذي بدأ بعد انقلاب عام 2013.
– الطريق المسدود: وفي ليبيا أيضا وصل مشروع الثورة المضادة إلى أفق مظلم، ولم يستطع حفتر المدعوم مصريا وإماراتيا وسعوديا أن يحقق ما كان يصبو إليه، رغم الإمكانات السياسية الهائلة التي منحتها له أنظمة الثورة المضادة.
– الحرب الكاشفة: أما اليمن السعيد فكان قصة أخرى أظهرت الوجه الأكثر بشاعة لعاصفة الحزم السعودية الإماراتية، وعرّت كثيرا من أوراق أبو ظبي التي تحولت من قطب اقتصادي ينشد الرفاه في بلاده إلى السوط الأكثر بشاعة في العالم ضد اليمنيين، وفقا لما يقول سياسيون وكتاب يمنيون.
ينضاف إلى ذلك أن الحرب اليمنية التي أنهكت خزائن الرياض وأبو ظبي لم تصل إلى أي نتيجة من أهدافها، وبدا جليا أن لا مناص من التفاوض بين أبناء اليمن المتصارعين، ولا بديل أيضا من خروج قوات التحالف السعودي الإماراتي من هناك، مع ما يعنيه ذلك من توبيخ دولي قد يصل إلى المحاسبة بتهمة ارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين العزل.
– مولد قبل الولادة: وفي فلسطين، فشلت أيضا صفقة القرن التي رعاها محمد بن سلمان ومحمد بن زايد وتعهد بتنفيذها في المنطقة، وأرغم بعض الدول العربية على التطبيع المتسارع مع إسرائيل، وفقا لمصادر متطابقة. وفي النهاية باتت المقاومة الفلسطينية أكثر تماسكا وقوة من ذي قبل، وأكثر قدرة على حماية مشروعها في مواجهة إسرائيل ووكلائها، وهو ما بدا جليا في عملية “حد السيف” التي قالت كتائب القسام إنها أفشلت من خلالها “مخططا صهيونيا خطيرا”، ووصلت إلى مراحل متقدمة في كشف خيوطه، وكادت تداعيات العملية أن تطيح بالحكومة الإسرائيلية وأدت إلى تأثيرات سلبية في إسرائيل بالغة العمق.
– الاستثناء الذي تعمق: وفي معمعة الثورة المضادة وهيلمانها تمكنت تونس -مهد الربيع العربي- من تجاوز مؤامرات الثورة المضادة، منحنية تارة للعاصفة ومنتصرة أخرى على “أشواك المؤامرات” التي انبعث دخانها غير مرة من أبو ظبي والرياض، اللتين فشلتا في استنساخ النموذج المصري في تونس رغم المحاولات الكثيرة، كما يقول مراقبون.
تتضافر مؤشرات وقرائن كثيرة أن الثورة المضادة التي كتبت فصولا من تاريخ المنطقة بالأحمر القاني؛ دخلت المأزق ذاته الذي توقفت عنده ثورات الربيع العربي، فهل تبرز في الأفق أنواء ربيع آخر؟ وكيف ستكون ملامحه؟