موقع إخباري يهتم بفضائح و انتهاكات دولة الامارات

مقال مؤثر لصحفي أردني عن اعتقاله وتعذيبه في سجون الإمارات

345

كتب الصحفي الأردني تيسير النجار مقالا مؤثرا عن اعتقاله وتعذيب في سجون دولة الإمارات العربية المتحدة على ثلاثة أعوام ونصف بسبب تعبيره عن آرائه ودعم القضية الفلسطينية.

وحمل مقال النجار عنوان (رسالة في الحرية.. الألم الآن) وظهر يخاطب نفسه في محاولة للتخلص من التداعيات النفسية الجسيمة التي لا تزال ترافقه بسبب تعذيبه ومعاملته غير الإنسانية في سجون الإمارات.

وكان النجار تنفس الحرية أخيرا في 13 تشرين ثاني/نوفمبر الماضي لتخلص من قيود السجن التعسفي الذي أمضى فيه سنوات من عمره ظلما لمجرد التعبير عن أرائه في دولة الإمارات التي كانت رفضت الإفراج عنه منذ أشهر بسبب غرامة مالية باهظة فرضتها عليه في وقت تدعى فيه التسامح.

وتنفس النجار الحرية بعدما أفرجت عنه السلطات الاماراتية، علماً أنه أنهى مدة محكوميته، على خلفية إدانته بتهمة “إهانة رموز الدولة”.

وسجنت الإمارات في تأكيد لحقيقتها القمعية والاستبدادية الصحفي النجار، بسبب منشور له على موقع “فيسبوك”، حول دورها في حرب إسرائيل على قطاع غزة عام 2014 ودفاعه عن الفلسطينيين.

وفيما يلي نص مقال النجار كاملا:

أول ما أودّ أن أخبرك به، يا تيسير النجار، بعد مضي شهر ونصف الشهر على خروجي من المعتقل الذي يسمى مجازاً سجناً، أن السجن ما يزال يرافقني. لا أعرف ما الذي عليّ أن أفعله على وجه الدقة، أو غير وجه الدقة، حتى أشعر أنني خرجت من السجن الأمني في مدينة أبوظبي التي تحمل السر المرئي، والمعاني العميقة للكلمات التي أصبحت بمثابة القدر لكل إنسان عربي، وأبرز تلك الكلمات: القهر، الطغيان، الاستبداد، الظلم، أما الظالم فلا عزاء له سوى خوفه من الحرية.

الحرية، هذه الكلمة السحرية التي طالما حلمنا أن نسمع رنينها، أصبحت مفردة خرساء. أجلس كل يوم، وأكتب هذه الكلمة “حرية”، وأنتظر ما يمكن أن يحدث لي.. لا رنين، لا أصوات في داخلي، لا يوجد أي ردة فعل. فقط كما كل مرة أحصل على صمت، هذا الصمت الذي كنا نعيشه معاً في داخل العنبر، عنبر الأمنيين، عنبر 9 في سجن الوثبة في أبوظبي.

صديقي تيسير: أول ما فعلته حين خرجت نوبات البكاء الحارقة، ونوبة التشنج، وتوالت النوبات، والآن تعيش نوبةً متواصلة من الصمت. سؤالي لنفسي: ماذا أفعل، حتى أخرج من تلك السنوات المؤلمة التي ترافق حواسّي، وتتدفق في جسمي. نعم، أستعين بإيماني بالله، ومحبّتي الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم أستعين ببعض المهارات التي تتعلّق بإيماني بالصداقة، ومحبتي أسرتي التي أراها عنصراً خامساً، يضاف إلى عناصر الطبيعة: الماء والهواء والتراب والنار.

“لم أشعر أنني خرجت من السجن، لأن من يسجن في الإمارات يرافقه السجن في كل لحظة من حياته”

أعظم الأفعال التي أؤمن بها وأحبها هي الكتابة. أصبحتْ فعلاً طُلب مني أن أتركه. الحرية أيضاً طُلب مني أن أتركها، والأحلام التي بنيتُها في السجن، وانتظرتُ خروجي حتى أراها واقعاً، كل يوم أجلس معها، أنظر إليها بصمت، وبعمق، وأتمنّى لتلك الأحلام أن تجري كما النهر في حياتي.

طالما حلمتُ أن أحيا بشرفٍ ونزاهة، بعيداً عن جحيم الزنازين وألمها. يضيق العالم على الشرفاء. يضيق على مفردة الحرية. يضيق عليّ. هل أصبح ما أراه فعلاً هو العالم.. أين أمي إذن؟ لم تعد في هذا العالم. وعلى الرغم من كل التوسّلات التي بذلتُ لحضوري جنازتها فشلت. أحس أن كل يوم من أيامي جنازة لها. أدعو لها وأتزود بالقرآن، بالنور، حتى أستوعب رحيلها الذي يمتدّ في كل هذا الزمن التي أراه أمامي. ولكني لا أستوعب، وما زلت أعاني من اختلال في وعيي، ولم أعد أفهم زمن البرابرة الجدد الذين يكذبون حتى زيّنت لهم الشياطين سوء أفعالهم، وسوء الكبر في قلوبهم.

لم أعد نَشطاً. أقصد أن دماغي لم يعد نشطاً. يا تيسير، أصبح دماغي مثل حركات التنوير العربي التي منيت بالهزيمة. عقلي مهزوم، رغم شجاعته في محاولته فهم رحيل أخي رائد، الذي أفل كما النجم في زهرة شبابه. كل هذا يحدث بقضاء الله وقدره، وبسبب سجني أيضاً. حين رأيت ابنه عند خروجي من السجن، تدفق الصمت في جسدي، تدفق الخوف السرّي الذي تجرّعته في السجن. هذا الخوف من كل شيء لا يحرّرني منه سوى الكتابة.

الكل يريد مني أن أكون قوياً، لأن الكل “هذا” لم يذق خلاصة الألم البشري، ولأن الكل “هذا” لم يعرف ما معنى حركة الجسد، وكيف يتفنّن السجان بالتحكّم بها. في سجني الانفرادي، طالما تمنّيت أن أرى الشمس، وطالما تمنيت أن أذهب إلى الحمام من دون قيود، وطالما تمنيت أن أرى أي وجه. كنت في خلوة مع الله، ومع ألمي. أعيش وحدي أكثر مما ينبغي، وأتألم أكثر مما ينبغي، وأصرخ، لعل الرحمة تمسّ قلوبهم ولكن هيهات.. هيهات. إنها قلوب مشبعة بالآلاف المؤلفة من “فرعون”، قلوبهم يملأها الكبر والتجبّر، تذكّرك بالحجارة، بل إنها أشد قسوةً، وأكثر بشاعة.

أريد مني أن أشعر أنني خرجت من السجن. كيف يمكن أن يحدث هذا؟ حين أخرج من الحمام مثلاً، ينتهي الفعل الذي قمت به. وحين أخرج لرؤية الشجرة والسيارة واللافتات المشعّة خارج المنزل، ثم أعود، ينتهي الفعل الذي قمت به، ويستجيب عقلي بمرونة. ولكني حتى الآن لم أشعر أنني خرجت من السجن، لأن من يسجن في الإمارات يرافقه السجن في كل لحظة من حياته. وبما أنه لا توجد قوةٌ على هذه الأرض مطلقاً يمكن أن تكشف الأكاذيب.. أكاذيبهم، فإنني سأهدهد نفسي بآياتٍ من كتاب الله، وأنام كما كنت أفعل في السجن أيضاً.

.. الأسئلة التي تشتعل في روحك في السجن، هي الأسئلة نفسها التي ترافقك بعد خروجك: لماذا ظلمنا؟ لماذا كل هذا الألم ؟ كيف يمكن للعدالة الإلهية أن تتحقّق؟ وهل الألم الآن هو الذكرى الوحيدة التي تعرفها؟ ظلمهم المرئي للكون هو سرّهم الذي سيفضحهم أيضاً!

صديقي تيسير، أريد أن أخبرك بما يحدث خارج السجن.. كيف يعيش الناس، ما الذي يشغلهم، وكيف يحبّون الحياة، وكيف يبدأ صباحهم، وأين يذهبون للتعمق بفهمها والاستمتاع بدفقها… ياه، يا تيسير، كيف نسيت الحياة؟ وكم نسيت الحياة.. كل الحياة؟ النسيان وصل إلى كل شيء .. إلى قلب كل شيء؟ الآن أعيش معك، ونتذكّر كم مرة جلسنا، لنتخيل طعم الحرية، ونتذوّق الأطعمة افتراضياً! نعم كنا معاً.. يوماً بيوم.. نتذكّر كل ما حصل لنا، حتى أصبح كل ما حصل لنا هو وعيي وملاذي، وحصتي من الحياة، تلك الحصة التي أصبح الآن يُمنع عليّ حتى الحديث عنها.

صديقي، أنت الآن لم تعد في الزنزانة ذاتها. خرجت. لذلك حاول ما استطعتَ أن تكون لديك إجاباتٌ عن طبيعة الحياة ومآلاتها، لأنك ما زلت فرحاً بحركة جسدك في المكان، على الرغم من أنها حركةٌ رتيبةٌ منذ أكثر من شهر. وفي كل يوم، يتأكّد لي أن أكبر وهمٍ يسكن قلب الحياة هو الزمان. هذا الزمن يركض.. يركض من دون غاية سوى فكرة الركض نفسها. أهمية الزمان تنبع من وجود حركةٍ اعتيادية للحياة ليس إلّا. منحني الله الصبر، ومنزلة السكينة التي كانت تتنزل عليّ حتى أظل حياً. لا أريد سوى القوة على تحمل أيامي المثقلة بالقيود، قيود الظلم والجلادين، القوة التي أريد أن أواصل بها الحياة، وأرى أسرتي.

صديقي تيسير، الألم الذي تذوّقته في السجن أكبر من فكرتنا عن الألم، وفهمنا له. كنت أحلم بحباتٍ من الزيتون، والقليل من اللبنة، وبأكلة بامية، أو بيتزا، أو ملوخية إن تماديت

“الصمت كنا نعيشه معاً في داخل العنبر، عنبر الأمنيين، عنبر 9 في سجن الوثبة في أبوظبي” بالأحلام. كيف يمكن أن تشرح لإنسانٍ لم يعرف السجن الأمني في الإمارات أن يعرف الأهمية العظمى لرؤية شجرة، أو شارع، أو أطفال، أو أنثى، أو رؤية ملابس نظيفة؟ كيف يمكن أن أشرح لمن حولي أهمية المقولة التي تردّدها بينك وبين نفسك “الحمد الله، لم يُسلخ جلدي على الأقل”.

كانت حياتي في السجن قائمة على صبر القلب، هذا القلب الذي تكسّر. وكان المحقق يدوس عليه، كمن يدوس على لوحٍ من الزجاج؟ ماذا نفعل بكل هذه الشظايا؟ ماذا نفعل بالجسد الذي لم تعد تجري فيه دماء، بل آلامٌ وذكريات قاسية.. وما تزال، إذ لم يتمكّن عقلي البشري من استيعاب مكوناته، ولم تتمكّن ذاتي الإنسانية أن تدرك إنسانيتها، لأن عملية التهشيم لكل مفردات الإنسانية تتم في السجن الانفرادي. ليس مهماً أن تحافظ على ما تسمّى إنسانيتك، المهم الحفاظ على وجودك. أن تكون حياً هذا الأمر الأهم الذي يمكّنك من الحفاظ على حقك في فهم الماضي، لا إصلاحه. ولكن المؤلم حقاً أن كل ما حدث لك، يا تيسير النجار، ليس ماضياً فقط، بل هو ألمٌ يجري في عروقك، وهواءٌ تتنفسّه. ولأنك لا حول ولا قوة لك، دع كل أمرك لله، فهو القدير على وقف نزيفك.

هذا المقال الذي أعددته بمثابة رسالة في الحرية.. حريتي في وجه العبيد ومن والاهُم. أقول لكم: سحقاً لكم، الاستبداد، والظلم، يرسمان مشهدكم، وهذا هو الوجه الحقيقي لكم. وللحديث بقية عن قلب الحقائق وتشويه الوقائع بالأراجيف والإشاعات المضللة، وبعدم وجود فروق بين دولتكم والغابة.